نجحت شخصيةٌ صيداويةٌ تنشطُ بحضورٍ واضحٍ في قضايا الشأن العام على صعيد المدينة، في الجمع بين «غريمي الأمس» أسامة سعد وبهية الحريري، على مائدةِ عشاءٍ عائليةٍ “ضيّقة” مساء اليوم في منزل هذه الشخصية، لم تضمّ إليهما إلا عددًا من المدعوّين لا يتجاوزُ أصابعَ اليد الواحدة. ولأنَّه في صيدا كلُّ شيءٍ مختلف، حتى الخصوماتُ والصداقات والولاءات، فقد تنجح الصياديّة بالسمك البلدي والفوارغ الدسمة، مع الكوسا المحشي بالريش، وغيرها من الأصناف الصيداوية المميّزة، في تذليل الكثير من العقبات السياسيّة والشخصيّة التاريخية. الخطوةُ وإن اكتست طابعًا “إجتماعياً” بلا أبعادٍ وتأويلات، إلّا أنّه لا يمكن قراءتُها في هذا التوقيت بالذات، من حيث الشكل والمضمون، إلّا باعتبارها مؤشّرًا مهمًّا – مهما يكن حجمه – على ملامح المرحلة السياسيّة المقبلة في المدينة التي تقفُ على أعتاب معركةِ انتخاباتٍ نيابية قريبة ستكون الأقوى والأصعب منذ سنين.
لم يعد الخيالُ العلميُّ خيالًا.في مختبرٍ شديدِ التَّعقيد في ولاية كاليفورنيا، نجحَ الملياردير الأميركي إيلون ماسك في زرعِ شريحةٍ إلكترونيَّة داخلَ دماغِ إنسانٍ مشلول، تربطُ أفكارَه مباشرةً بالحاسوب… الاختراعُ الذي أطلقت عليه شركتُه Neuralink اسم واجهة الدماغ والآلة (Brain-Machine Interface)، يشكِّل اليوم أكثر من مجردِ إنجازٍ طبيّ: إنَّه إعلانٌ رسميٌّ عن دخولِ البشريَّة مرحلةَ «الاندماج» مع الآلة. تعتمدُ تقنيةُ Neuralink على زرعِ رقاقةٍ صغيرة في الدماغ ترتبطُ بأسلاكٍ دقيقةٍ أرفعَ من شعرةِ الإنسان، قادرةٍ على التقاطِ الإشارات العصبيَّة وتحويلِها إلى أوامرَ رقميَّة. يستطيع المستخدم، من خلال التَّفكير فقط، تحريكَ مؤشِّرِ الحاسوب أو ذراعٍ روبوتيَّةٍ دون أيِّ حركةٍ عضليَّة. وعلى الرغم من أنَّ الهدفَ المُعلَن هو مساعدةُ المصابين بالشلل أو أمراضِ النطق والبصر، إلا أنَّ إيلون ماسك يطرحُ مشروعَه بجرأةٍ أكبر: «هذه الخطوةُ تمهيدٌ للاندماج الكامل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي». العالمُ يصفِّق ويَقلَق أعلنت Neuralink أنَّها زرعت أولَ شريحةٍ في دماغِ مريضٍ مُصابٍ بشللٍ رباعي، وتمكَّن لاحقًا من تحريكِ المؤشّر بعقلِه. تصدّر الخبرُ الصحف، وتبعتهُ تقاريرُ عن عملياتٍ لاحقة وتجاربٍ سريريَّةٍ جديدة، بعد حصولِ الشركة على تمويلٍ يتجاوزُ ٦٥٠ مليون دولار. لكن خلفَ العناوينِ المُبهجة، بدأ الجدلُ يتصاعد: هل نحن أمام ثورةٍ طبيةٍ تخدمُ الإنسان؟ أم بدايةِ طريقٍ قد تجعلُ «الوعي البشري» سلعةً رقميَّة؟ يرى بعض الباحثين أنَّ الخطَّ الفاصل بين الحريةِ الفكرية والمراقبةِ الرقمية قد يختفي تمامًا عندما يصبحُ الدماغُ متّصلًا بشبكةٍ لاسلكية وعدٌ بالخلاص من الناحيةِ العلمية، تمثِّل واجهاتُ الدماغ والآلة أفقًا مُذهلًا في علاجِ إصاباتِ الحبلِ الشوكي، والزهايمر، وفقدان السمع أو البصر. إنَّها تمنحُ الأملَ لملايينِ المرضى حول العالم، وتُعيدُ تعريفَ العلاقة بين الجسد والعقل والآلة. قد يتمكَّن الإنسانُ في المستقبلِ من كتابةِ نصٍّ بمجردِ التفكير، أو نقلِ ذاكرتهِ إلى جهازٍ رقمي، أو استرجاعِ ذكرياتٍ مفقودةٍ بضغطةٍ واحدة. لكن في المقابل، لا أحد يعرفُ أين ينتهي العلاجُ ويبدأ التحكُّم. الجانب المظلم من الموضوع، يطرح سؤالاً كبيراً، هل يصبح العقلُ متّصلًا بالإنترنت؟ يشكِّك عددٌ من علماء الأعصاب والأخلاقيات الطبية في المشروع، محذّرين من مخاطره: مَن يملك البياناتَ العصبيّة؟ هل يمكن اختراقُ الدماغ كما تُخترق الحسابات؟ هل تصبحُ أفكارُ الإنسان مكشوفةً لشركاتِ التقنية؟ يرى بعض الباحثين أنَّ ما يفعله ماسك هو «هندسةُ الوعيِ البشري» أكثرَ مما هو علاجٌ طبي، وأنَّ الخطَّ الفاصل بين الحريةِ الفكرية والمراقبةِ الرقمية قد يختفي تمامًا عندما يصبحُ الدماغُ متّصلًا بشبكةٍ لاسلكية. التكنولوجيا كقوّةٍ سياسيةٍ جديدة ما يجري في مختبراتِ Neuralink لا يخصُّ الطبَّ فقط، بل يُعيد تعريفَ القوة في القرن الحادي والعشرين. فمَن يمتلكُ التكنولوجيا التي تقرأُ الأفكار أو تزرعُ الذاكرة، يمتلكُ السُّلطةَ المطلقة. وتتساءلُ الأوساطُ الحقوقيّة إن كانت مثلُ هذه التقنيات ستُستخدم يومًا في المراقبة أو السيطرة، أو ربما في الحروبِ الإلكترونيّةِ المستقبلية حيث يصبحُ العقلُ نفسُه ساحةَ معركة. في الوقتِ الذي تختبرُ فيه الولاياتُ المتحدة زراعةَ شرائحَ في الدماغ، ما تزالُ معظمُ الدولِ العربية تكافحُ لتأمينِ الأجهزة الطبية الأساسية في المستشفيات. هذا التفاوتُ لا يُقاسُ بالتقنية فقط، بل بالفكرِ العلمي والسياساتِ البحثيّة. لبنان مثلًا يضمُّ أدمغةً لامعةً في علوم الأعصاب، لكنها تعملُ غالبًا في الخارج بسببِ ضعفِ التمويل والبيئةِ البحثيّة. وإذا استمرَّ غيابُ الرؤيةِ العلمية، فقد نجدُ أنفسنا بعد عقدٍ من الزمن نناقش حقوقَ «البيانات العصبية» بينما لا نملكُ بنيةً تحتيةً لمختبرٍ جيني. الأمل والهيمنة يرى البعضُ في مشروعِ ماسك خلاصًا للبشرية من قيودِ الجسد، ويراهُ آخرون تهديدًا لجوهرِها. فإذا استطاع الإنسانُ مستقبلًا نقلَ وعيه إلى خادمٍ رقمي، فهل سيبقى إنسانًا؟ وإذا تمكَّن الأثرياء فقط من «تحسين» أدمغتهم، فهل يولد عصرٌ جديدٌ من اللامساواة بين العقول؟ ماسك نفسه لا يُخفي طموحه: «هدفُنا أن نصبحَ جزءًا من الذكاءِ الاصطناعي لا ضحاياه». لكنَّ هذه الجملة تختصرُ المعضلة: إنقاذُ الإنسان من الآلة عبرَ الاتحادِ معها. العقلُ كساحةِ صراع اختراعُ Neuralink ليس مجرّدَ ابتكارٍ هندسي، بل تحوّلٌ فلسفيٌّ في ماهيّةِ الإنسان.إنَّه يكشف هشاشةَ الحدودِ بين الجسد والعقل والتقنية، ويفتح سؤالًا وجوديًّا:هل نُطوِّرُ الآلةَ لخدمةِ الإنسان، أم نعيدُ تشكيلَ الإنسان ليتناسبَ مع الآلة؟ وبينما يزرع ماسك رقاقاتِه في العقول، تزرعُ هذه الأسئلةُ نفسَها في ضميرِ العالم:هل المستقبلُ أذكى… أم أكثرُ خطورةً ممّا نظن؟
في لبنان، لا أحد يعرف العنوان الحقيقي لأيّ شيء، لا المواطن، ولا الدولة، ولا حتى “غوغل” نفسه.ربّما وحده الخالقُ يملك نظام الملاحة الدقيق لهذا البلد المعلّق بين الأزمنة والأزمات. في بيروت، وتحديدًا قرب السفارة الكويتية، اختفى أخيرًا الاسم الذي كان يحتلّ النُصب لعقود: “جادة حافظ الأسد”.الاسم الذي وُلِد في زمن الهيمنة السورية على لبنان، مات بعد سقوط النظام السوري نفسه، وكأنّ اللوحةَ المعدنية أُزيلت متأخّرةً عن إعلان الوفاة بنحو عقدين من الزمن. لكن النكتة، كالعادة، لبنانيةُ النكهة: خرائطُ “غوغل” لم تعلم بالحدث بعد.المنصّة التي ترسم العالم بدقّة الأقمار الصناعية، ما زالت تظنّ أن بيروت تسير على “جادة الأسد”، في حين أنّ اللبنانيين أنفسهم بالكاد يسيرون على أيّ جادّةٍ منطقية في حياتهم العامّة. الذاكرة المعدنية لا شيء في لبنان بريء، حتى أسماءُ الشوارع.كلّ لافتةٍ هنا حكايةُ تحالفٍ أو خصومة، زمنٍ صعد فيه زعيمٌ أو سقط آخر.ولأنّ لبنان كان دائمًا مرآةً للآخرين أكثر من كونه انعكاسًا لذاته، فقد امتلأت جغرافيته الرمزية بأسماء رؤساءَ من وراء الحدود: من حافظ الأسد إلى جمال عبد الناصر، مرورًا بموسى الصدر، وكأنّ البلاد تعيش داخل متحفٍ لعصور النفوذ الإقليمي. غير أنّ المفارقة هذه المرّة، أنّ المنطقة التي كانت يومًا تُعرَف بولائها للنظام السوري، هي نفسها التي أزالت اسمه، وربّما دون إعلانٍ رسمي.خطوةٌ صغيرة في لوحةٍ نحاسية، لكنها تختصر انتقال لبنان من “الوصاية” إلى “الحياد الرمزي”، أو لنقل إلى فوضى ما بعد الاصطفاف. الخرائط أبطأ من السياسة في العادة، تكون السياسة أبطأ من التكنولوجيا. لكن في لبنان، انقلبت المعادلة.فالبلدية غيّرت اللافتة، والناس لاحظوا، والإعلام دوّن، وحدها “غوغل” بقيت خارج الحدث.ربّما لأنّ الخوارزميات، مهما بلغت من ذكاء، لا تفهم اللبنانيين. كيف لها أن تواكب بلدًا تتبدّل فيه التحالفات واللافتات مع تغيّر النسيم السياسي؟كيف تضع حدودًا واضحة في بلدٍ يعيش على الخطوط الرمادية؟من وجهة نظرٍ ساخرة، يمكن القول إنّ “غوغل” آخر من يعلم في لبنان. فهي لم تُدرِك بعدُ أنّ الشوارع التي تحمل أسماءَ رؤساء أجانب لم تعد تعبّر عن الجغرافيا بقدر ما تعبّر عن الحقبة.وفي بلدٍ لم ينجح بعدُ في تسمية أبنائه الحقيقيّين، يبدو طبيعيًا أن تبقى أسماؤه معلّقةً بين الخرائط والذاكرة. الجادة والهاوية ربّما حان الوقت لأن يُعيد اللبنانيون تسمية شوارعهم على صورتهم، لا على صورة مَن حكمهم أو أنقذهم أو ابتلعهم.أن تُسمّى الطرقات بأسماء العقول التي بنت، لا القبضات التي حكمت. وحتى ذلك الحين، سيبقى المشهد كما هو: خرائطُ عالقة بين ماضٍ لم يُمحَ ومستقبلٍ لم يُرسَم بعد. لعلّ أجمل ما في القصة، أنّ العالم كلَّه يستطيع اليوم أن يرى، على “غوغل مابس”، مشهدًا فريدًا من نوعه: بلدٌ صغير، أنهكته الأسماء، حتى أصبحت أرضُه تحتاج إلى تحديثٍ… أكثر من تطبيقه.