لم تَعُدِ الطاولةُ اللبنانيّةُ تعرفُ الوسط. من “صحنِ الفتّوش” الذي تحوّلَ إلى رفاهية، إلى “المَنقوشة” التي بلغت أسعارُها حدوداً خياليّة، ها هي “البيضُ والبطاطا” – تلك الوجبةُ الشعبيّةُ البسيطة التي لطالما اعتُبِرَتْ ملاذَ العائلاتِ في الأيّامِ العصيبة – تدخلُ بورصةَ الترفِ وتتحوّلُ إلى “ترِند” على موائدِ الأغنياء. القصةُ بدأت مع “أم شريف”، صاحبةِ المطعمِ البيروتيِّ المعروف، التي أدرجت في قائمتها ساندويش بندورة جبليّة بسعر 10 دولارات، فلاقى استحساناً عادياً. غيرَ أنّ المفاجأة جاءت مع إطلاق ساندويش “بيض وبطاطا” بـ17 دولاراً، حيث تفاعل معها روّادُ المطاعم و”الفود بلوغرز” وكأنّها وصفةٌ سحريّة مكتشفةٌ للتوّ. المشهدُ لم يخلُ من الطرافة: وصفةٌ تصنعها معظمُ الأمهاتِ يومَ الأحد “عن قلّة خَلق” أصبحت فجأةً طبقاً يتباهى به الأثرياءُ على “إنستغرام”. في البيوتِ اللبنانيّة، تُسلق كرتونةُ البيضِ مع كرتونةِ بطاطا لتسدَّ جوعَ العائلةِ أسبوعاً كاملاً، وربّما تُغلى معاً في طنجرةٍ واحدةٍ توفيراً للغازِ والجلي. أمّا على طاولةِ الأثرياء، فالمعادلةُ مقلوبة: بيضةٌ واحدةٌ وبضعُ أصابعَ بطاطا تتحوّل إلى “إبداعٍ طهويّ” يُوازي عشرين دولاراً. المفارقةُ لافتة: ما يُعَدّ طعاماً للفقراء بات اليومَ موضةً للأغنياء. وما كان يُستهلك بلا صورٍ ولا “لايكات”، أصبح مادّةً لتوثيقٍ بصريٍّ متواصل، تتراكضُ حولها عدساتُ المدوّنين، وكأنّها ابتكارٌ لم تعرفه الحضارةُ من قبل. لكن خلف الطرافةِ يطلّ السؤالُ الجدّي: أيُّ بلدٍ هذا الذي يبيعُ فيه البعضُ “البيضَ والبطاطا” بأسعارِ مطاعمَ فاخرة، فيما يقف آخرون عاجزين عن شراء “كيس بطاطا” من السوق؟ لعلّ “أم شريف” أثبتت ذكاءَها التجاريّ، لكن ربّما الأجدرُ بالحكومة، وسط عجزِها المزمن، أن تُعيّنها وزيرةً للاقتصادِ والتجارة. فامرأةٌ قادرةٌ على تحويلِ بيضةٍ وحبّةِ بطاطا إلى استثمارٍ ذهبيّ، قد تملكُ فعلاً وصفةً لإنقاذِ بلدٍ يفتّش عن المعجزاتِ في قدرٍ فارغ.
يبدو أنّ بناءَ دولةٍ لجميعِ مواطنيها هدفٌ بعيدُ المنال، بسبب تناسُلِ سلطاتٍ تتجاهل، عن وعيٍ أو عدمِ معرفة، عناصرَ المواطنةِ الأساسية. وهذا ما دفع بمدينةِ صيدا أن تعيشَ سنواتٍ عجافٍ ما زالت مستمرةً باستمرار إشاعةِ الفوضى والمحسوبيات وتغطيةِ نهبِ المالِ العام. الشفافية والمساءلة من العناصرِ الأساسية للمواطنة، حسبَ أصحابِ النوايا الحسنة، المشاركةُ من خلالِ الشفافيةِ والمراقبةِ والمساءلة. وهذا ما تجاهلتْهُ المجالسُ البلديةُ المتعاقبةُ في مدينةِ صيدا. وإذا كانت المنظماتُ الدولية تشترطُ أحياناً مشاركةَ المجتمعِ المحلي، فإنّ المجالسَ المتعاقبة كانت تستحضرُ مَن يرفعُ يدَه موافقاً على كلِّ ما يُطرَح. ولكن بعد ما حصل مع برنامجِ الأمم المتحدة الإنمائي عام ٢٠٢١، في مشروعِ تأهيلِ سوقِ السمك، دُفِعَ به عام ٢٠٢٣ لاشتراط وضعِ آليةِ عملٍ تشاركية بين المجلسِ البلدي وممثّلي المجتمعِ المحلي. تواصلتِ الاجتماعاتُ وتوصّل الحاضرون إلى تحديدِ احتياجاتِ المدينةِ في مختلفِ الميادين، وهي مشاريعُ وُضِعت في أدراجِ البلدية ولا تُطرَح إلّا عند الحديثِ عن العملِ التشاركيِّ النظري. وخلال عامين لم يُمارسْ مَن بقي من المجلسِ البلدي أيَّ عملٍ تشاركيٍّ فعلي، وبقيتْ أسئلةُ ممثّلي المجتمعِ المحلي من دون إجابةٍ واضحةٍ حول قضايا المدينة والمشاريعِ التي تُنفَّذ، ولا توجد أيةُ مستنداتٍ موثَّقةٍ لها في البلدية. وهناك أمثلةٌ كثيرة لا مجالَ لذكرها كي لا نُوصَفَ بأصحابِ النوايا السيئة. مسرحيةُ العملِ التشاركي وقد جرى خلال فترةِ مسرحيةِ العملِ التشاركي تشكيلُ لجنةٍ من البلديةِ والمجتمعِ المحلي للإشراف على ما أُطلِق عليه “المرصد الحضري” في المدينة، والذي لا أحدَ من المجتمع المحلي يعرف بالتحديد قيمةَ التمويلِ الذي طال هذا المشروعَ ومشروعَ إنارةِ السوقِ التجاري والملعبِ البلدي. اليوم نشرتْ بلديةُ صيدا إعلاناً، بالتعاون مع برنامجِ الأمم المتحدة الإنمائي، بفتح بابِ التقدّم أمامَ المنظماتِ غير الحكوميةِ المحلية للمشاركة في دعوةِ تقديمِ مقترحاتٍ لتشغيل وحدةِ المرصد الحضري في مدينة صيدا، وأنّ الموعدَ النهائيَّ للتقديم ظهرَ الخميس ١٨ أيلول ٢٠٢٥. وأُرفِقَ البيانُ بالشروطِ المطلوب توفّرُها بأيِّ جمعيةٍ غير حكوميةٍ للتقدّم بالمقترحات للتشغيل. تجاهل المجتمع المحلي ما يلفتُ النظرَ، تجاهلُ البلدية للجنةِ المُشكَّلة منها ومن ممثّلي المجتمع المحلي للإشراف على المرصد كما كان الاتفاق، والاكتفاءُ بأنّها هي الجهةُ الوحيدةُ المعنيةُ بذلك. وهذا إعلانٌ صريحٌ عن انتهاء مسرحيةِ التشاركية التي أنتجها برنامجُ الأمم المتحدة الإنمائي وبلديةُ صيدا؛ قد انتهت وأُسدِلَ الستارُ عليها. كما أنّ إعطاءَ مهلةِ أربعةِ أيامٍ للجمعياتِ كي تتقدّم بطلباتها والالتزامِ بالشروط يبدو وكأنّه إعلانٌ مُعلَّب ستأتي الأيامُ لتوضيحِه، وخصوصاً أنّ غيابَ أيّ جهةٍ استشارية، كانت البلديةُ والبرنامجُ الإنمائي، تروِّجُ له، لم يحصلْ لأسبابٍ مالية كما قال رئيسُ البلدية، وهو ما وُعِدْنا به سابقاً.فترةُ مسرحيةِ التشاركية كانت كافيةً لإقناعِ أصحابِ النوايا الحسنة أنّ السلطاتِ المحلية وعلى رأسها البلدية ليست بوارد الالتزام بمشاركةٍ جدّية، وبالتالي فالحديثُ عن المواطنة مجردُ حديثِ صالونات. حقُّ البلدية من جهةٍ أخرى يجب تسليطُ الضوء على أنّ من حقِّ البلدية ومجلسِها البلدي تجاهلَ موضوعِ المشاركةِ الجدية، وأنها صاحبةُ السلطةِ لوحدها، وبالتالي تكتفي المنظماتُ الدولية بتنظيم المسرحياتِ حول التشاركيةِ والمواطنة، كما نشهدُ مسرحياتِها حول حقوقِ الإنسان في فلسطين وجنوبِ لبنان. ومع هذا الحقِّ الحصري للبلدية لا بدّ من الإشارة إلى بعض الخطواتِ القانونية الواجب أن تلتزم بها بلديةُ صيدا، إذ استناداً إلى قانونِ البلديات (المرسوم الاشتراعي 118/1977 وتعديلاته)، يتضح أنّ:كلَّ عملٍ أو مشروعٍ له طابعٌ أو منفعةٌ عامةٌ ضمن النطاق البلدي هو من اختصاصِ المجلسِ البلدي. يشمل ذلك إسعافَ الجمعياتِ ومساعدتَها والنشاطاتِ الصحية والاجتماعية والثقافية والرياضية. وبالتالي، قبولُ أو رفضُ الهبات، المساعدات، أو التعاون مع المنظماتِ غير الحكومية لا يتم إلّا بقرارٍ من المجلس البلدي، لأنه يدخل في صُلبِ صلاحياتِه. فهل يمكن للبلدية أن تنشر قراراتِ المجلس بهذا الخصوص إذا وُجِدت؟وهذا يعني أنّه لا يمكن البدءُ باستقبال طلباتِ الجمعيات أو الإعلانُ عن فتح بابِ التقديم لتشغيل المرصد الحضري باسمِ البلدية من دون قرارٍ وموافقةِ المجلسِ البلدي.وأنّ أيَّ إعلانٍ يتم قبل انعقادِ المجلس البلدي وإصدارِ قرارٍ رسمي يُعتبر غيرَ مستندٍ إلى الأصول القانونية. فهل تلتزم بلديةُ صيدا القانونَ بهذا الخصوص، أم تجد استشارةً قانونيةً حول الموضوع شبيهةً باستشاراتها حول معملِ معالجةِ النفايات بلا معالجة؟
صَدمَةٌ فِي سُوقِ “المُبْدِعِينَ الرَّقْمِيِّينَ” فِي البَلَدِ. فَجْأَةً، وَمِن دُونِ سَابِقِ إِنْذَارٍ، تَوَقَّفَتْ عَمَلِيَّاتُ تَحوِيلِ أَرْبَاحِ مَنْصَّةِ “تِيك تُوك” إِلَى لُبْنَانَ، فَمَا الَّذِي جَرَى وَلِمَاذَا هَذِهِ الخُطْوَةُ الكَبِيرَةُ الَّتِي سَتَتْرُكُ آثَارًا عَلَى صُنَّاعِ المُحْتَوَى المَحَلِّيِّينَ وَعَلَى الاقْتِصَادِ…؟ في أَوَائِلِ “أَيْلُولَ الأَسْوَدِ” كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الآنَ فِي لُبْنَانَ، وُجِدَ مِئَاتٌ مِنْ صَنَّاعِ المُحْتَوَى اللُّبْنَانِيِّينَ أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ صَدْمَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ. فَالْقَنَوَاتُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا لِسَحْبِ أَرْبَاحِهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ “تِيك تُوك”، وَلا سِيَّمَا مِنْ مِيزَةِ البَثِّ المُبَاشِرِ وَالهَدَايَا الافْتِرَاضِيَّةِ، تَوَقَّفَتْ فَجْأَةً مِنْ دُونِ سَابِقِ إِنْذَارٍ. هَذَا التَوَقُّفُ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ تَعْطِيلٍ تِقْنِيٍّ عَابِرٍ، بَلْ مَسْأَلَةً مَالِيَّةً بِامْتِيَازٍ، إذْ تُشِيرُ مَصَادِرُ مَالِيَّةٌ مُتَابِعَةٌ إِلَى أَنَّ نَشَاطَ البَثِّ الحَيِّ وَحْدَهُ كَانَ يُدِرُّ مَا يُقَارِبُ مِلْيُونَ دُولَارٍ يَوْمِيًّا فِي المَحَافِظِ الرَّقْمِيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِمُسْتَخْدِمِي لُبْنَانَ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلكَثِيرِينَ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ المَبَالِغُ مُجَرَّدَ أَرْقَامٍ عَلَى الشَّاشَةِ، بَلْ دَخْلًا يَوْمِيًّا سَاعَدَهُمْ عَلَى إِعَالَةِ أُسَرِهِمْ وَمُوَاجَهَةِ الأَوْضَاعِ الاقْتِصَادِيَّةِ القَاسِيَةِ. ارْتِيَابٌ وَأَنْشِطَةٌ إِجْرَامِيَّةٌبِحَسَبِ المَعْلُومَاتِ، فَإِنَّ التَّجْمِيدَ لَمْ يَأْتِ عَبْرَ إِعْلَانٍ رَسْمِيٍّ مِنَ الشَّرِكَةِ الأُمِّ، بَلْ كَانَ نَتِيجَةَ سِلْسِلَةِ إِجْرَاءَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ قَامَتْ بِهَا شَرِكَاتُ الوِسَاطَةِ وَمُزَوِّدُو خَدَمَاتِ الدَّفْعِ المَحَلِّيُّونَ، الَّذِينَ آثَرُوا وَقْفَ التَّحْوِيلَاتِ بانتِظَارِ آلاَتِ تَحَقُّقٍ أوْضَحَ مِنْ مَصَادِرِ الأَمْوَالِ. وَلَكِنْ خَلْفَ هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَبَاشِرَةِ، تَتَشَابَكُ أَسْبَابٌ مُتَدَاخِلَةٌ أُخْرَى. مِنْ جِهَةٍ، تَزَايَدَتِ الضُّغُوطُ التَّنْظِيمِيَّةُ الدُّوَلِيَّةُ وَالمَحَلِّيَّةُ بِشَأْنِ مَنْصَّاتٍ رَقْمِيَّةٍ تُتِيحُ تَحْوِيلَ الهَدَايَا الافْتِرَاضِيَّةِ إِلَى أَمْوَالٍ نَقْدِيَّةٍ، فِي وَقْتٍ يُوَاجِهُ فِيهِ لُبْنَانُ أَسَاسًا صُعُوبَاتٍ مُتَرَاكِمَةً تَتَعَلَّقُ بِتَصْنِيفِهِ عَلَى لَوَائِحِ المُرَاقَبَةِ الخَاصَّةِ بِمُكَافَحَةِ غَسْلِ الأَمْوَالِ وَتَمْوِيلِ الإِرْهَابِ. وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ، تَزَامَنَ ذَلِكَ مَعَ كَشْفِ وَثَائِقَ قَضَائِيَّةٍ أَمْرِيكِيَّةٍ فِي العَامِ الجَارِي، تَضَمَّنَتْ إِشَارَاتٍ إِلَى تَحْقِيقَاتٍ دَاخِلِيَّةٍ أَجْرَتْهَا “تِيك تُوك” نَفْسُهَا حَوْلَ اسْتِغْلَالِ مِيزَةِ البَثِّ المُبَاشِرِ فِي عَمَلِيَّاتِ غَسْلِ أَمْوَالٍ وَأَنْشِطَةٍ إِجْرَامِيَّةٍ مُنَظَّمَةٍ، وَهَذَا مَا عَزَّزَ مُنَاخَ الارْتِيَابِ لَدَى المَصَارِفِ وَمُزَوِّدِي الخَدَمَاتِ المَالِيَّةِ فِي لُبْنَانَ. فِي السِّياقِ نَفْسِهِ، يُعَانِي النِّظَامُ المَالِيُّ اللُّبْنَانِيُّ مِنْ قُصُورٍ وَاضِحٍ فِي التَّحَقُّقِ مِنْ هُوِيَّةِ المُسْتَفِيدِينَ وَمَصْدَرِ الأَمْوَالِ عِنْدَمَا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِتَدَفُّقَاتٍ رَقْمِيَّةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَالْهَدَايَا الافْتِرَاضِيَّةُ تَتَنَقَّلُ دَاخِلَ المَنْصَّةِ قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ عَمَلِيَّةُ السَّحْبِ النَّقْدِيِّ عَبْرَ وَسَطَاءَ مَحَلِّيِّينَ، مَا يَجْعَلُ الشَّفَافِيَّةَ مَحْدُودَةً وَالِامْتِثَالَ ضَعِيفًا. وَمَعَ اِنْسِحَابِ بَعْضِ هَؤُلاَءِ الوُسَطَاءِ أَو تَجْمِيدِهِمْ نَشَاطَهُمْ، اِنْهَارَتْ سِلْسِلَةُ التَّحْوِيلَاتِ بِشَكْلٍ شِبْهِ كَامِلٍ. تَزَامَنَ التوقف مَعَ كَشْفِ وَثَائِقَ قَضَائِيَّةٍ أَمْرِيكِيَّةٍ تَضَمَّنَتْ إِشَارَاتٍ إِلَى تَحْقِيقَات أَجْرَتْهَا “تِيك تُوك” حَوْلَ اسْتِغْلَالِ مِيزَةِ البَثِّ المُبَاشِرِ فِي عَمَلِيَّاتِ غَسْلِ أَمْوَالٍ وَأَنْشِطَةٍ إِجْرَامِيَّةٍ، مَا عَزَّزَ مُنَاخَ الارْتِيَابِ لَدَى المَصَارِفِ وَمُزَوِّدِي الخَدَمَاتِ المَالِيَّةِ فِي لُبْنَانَ غسيلٌ وَتَبْيِيضُ أَمْوَالٍ؟تَفْتَحُ هَذِهِ التَّطَوُّرَاتُ البَابَ وَاسِعًا أَمَامَ سُؤَالٍ مُهِمٍّ: كَيْفَ تُسْتَخْدَمُ مَنْصَّاتُ البَثِّ المُبَاشِرِ فِي غَسْلِ الأَمْوَالِ؟ الفَيَلاتُ القَضَائِيَّةُ الَّتِي كُشِفَتْ أَخِيرًا تَصِفُ عَمَلِيَّةً تَكَادُ تَكُونُ كِلَاسِيْكِيَّةً. الأَمْوَالُ تَدْخُلُ بِدَايَةً كَرَصِيدٍ صَغِيرٍ عَلَى شَكْلِ هَدَايَا رَقْمِيَّةٍ تُرْسَلُ إِلَى حِسَابَاتٍ مُحَدَّدَةٍ، ثُمَّ تُجَمَّعُ عَبْرَ وَسَطَاءَ يَتَوَلَّوْنَ تَحْوِيلَهَا إِلَى خَارِجِ نِظَامِ التَّطْبِيقِ مُقَابِلَ عُمُولَاتٍ مُغْرِيَةٍ. بَعْدَ ذَلِكَ تُوَزَّعُ هَذِهِ المَبَالِغُ عَلَى حِسَابَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ تُسْتَبْدَلُ بِعُمَلَاتٍ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ تَعُودَ إِلَى السُّوقِ عَلَى شَكْلِ سِيُولَةٍ نَقْدِيَّةٍ، فِي عَمَلِيَّةٍ يُصَاحِبُهَا أَحْيَانًا اسْتِخْدَامُ فَوَاتِيرَ أَوْ عُقُودٍ وَهْمِيَّةٍ لِمَنحِهَا غِطَاءً قَانُونِيًّا. بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، يَتَحَوَّلُ تَطْبِيقٌ تَرْفِيهِيٌّ إِلَى وَاجِهَةٍ مُحْتَمَلَةٍ لِشَبَكَاتِ تَبْيِيضِ أَمْوَالٍ عَابِرَةِ الحُدُودِ. الأَثَرُ فِي لُبْنَانَ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ المُبْدِعِينَ أَنْفُسِهِمْ. صَحِيحٌ أَنَّ الخَسَارَةَ المُبَاشِرَةَ يَتَحَمَّلُهَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ انْقَطَعَ دَخْلُهُمْ فَجْأَةً، لَكِنَّ التَّبِعَاتِ أَشْمَلُ بِكَثِيرٍ. إِذْ يَدْفَعُ التَّوَقُّفُ إِلَى الاعْتِمَادِ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ عَلَى قَنَوَاتٍ غَيْرِ رَسْمِيَّةٍ، مِثْلَ الوُسَطَاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجَ الأُطُرِ القَانُونِيَّةِ، وَهَذَا مَا يُفَاقِمُ مَخَاطِرَ الشَّفَافِيَّةِ وَيُعَزِّزُ الاقْتِصَادَ المَوَازِيَّ. كَذَلِكَ، فَمِثْلُ هَذِهِ الحَوَادِثِ تُعَمِّقُ مَخَاوِفَ البُنُوكِ المُرَاسِلَةِ الأَجْنَبِيَّةِ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ المُؤَسَّسَاتِ المَالِيَّةِ اللُّبْنَانِيَّةِ، مَا قَدْ يَزِيدُ مِنْ كُلْفَةِ المُعَامَلَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَيُضَعِّفُ سُمْعَةَ البِلَادِ المَصْرِفِيَّةَ التِي هِيَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِنْعَاشٍ فِي أَحْسَنِ الأَوْقَاتِ. مَا العَمَلُ؟وِسْطَ هَذَا المَشْهَدِ، يَبْرُزُ سُؤَالٌ عَنِ الخُطُوَاتِ المُمْكِنَةِ. ثَمَّةَ حَاجَةُ إِلَى إِعْلاَنٍ شَفَّافٍ وَسَرِيعٍ مِنْ “تِيك تُوك” وَمُزَوِّدِي الخِدْمَةِ المَحَلِّيِّينَ وَمَصْرِفِ لُبْنَانَ حَوْلَ حَجْمِ الأَمْوَالِ المُجَمَّدَةِ وَآلِيَّاتِ اسْتِرْدَادِهَا. كَمَا أَنَّ وَضْعَ قَنَوَاتِ تَحْوِيلٍ مُرَخَّصَةٍ وَمُبَسَّطَةٍ تَرْعَى مَعَايِيرَ الامْتِثَالِ بَاتَ ضَرُورَةً لا مَفَرَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ عَبْرَ شَرَاكَاتٍ مَعَ بَوَّابَاتِ دَفْعٍ دُوَلِيَّةٍ تَتَبَنَّى مَعَايِيرَ صَرِمَةً فِي التَّحَقُّقِ مِنْ الهُوِيَّةِ وَمَصْدَرِ الأَمْوَالِ. فِي المَدَى القَرِيبِ، تَبْدُو الحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى حِمَايَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ لِصَنَّاعِ المُحْتَوَى الَّذِينَ وُجِدُوا أَنْفُسَهُمْ فَجْأَةً بِلَا دَخْلٍ، وَإِلَى إِجْرَاءَاتٍ قَضَائِيَّةٍ صارِمَةٍ لِمُلاَحَقَةِ الوُسَطَاءِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَسْتَغِلُّونَ هَذِهِ الفَجْوَةَ لِتَوْسِيعِ شَبَكَاتِ غَسْلِ الأَمْوَالِ. تَكْشِفُ حَادِثَةُ "تِيك تُوك" فِي لُبْنَانَ ازْدِوَاجِيَّةَ العَالَمِ الرَّقْمِيِّ المُعَاصِرِ. فَمِنْصَةٍ تُسَوِّقُ نَفْسَهَا كَفَضَاءَةٍ لِلِابْدَاعِ وَالتَّرْفِيهِ، قَدْ تَتَحَوَّلُ فِي غِيَابِ الضَّوَابِطِ إِلَى قَنَاةٍ مَالِيَّةٍ مَوَازِيَّةٍ يَصْعُبُ رَصْدُهَا. وَمَا بَيْنَ حَاجَةِ الشَّبَابِ إِلَى مَصْدَرِ دَخْلٍ سَرِيعٍ وَرَغْبَةِ المُجْتَمَعِ الدُّوَلِيِّ فِي إِغْلَاقِ ثُغَرَاتِ غَسْلِ الأَمْوَالِ، يَقِفُ لُبْنَانُ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ مُفْتَرَقِ طُرُقٍ. إِمَّا أَنْ يَسْلُكَ دَرْبَ التَّنْظِيمِ وَالشَّفَافِيَّةِ فَيَفْتَحَ أَمَامَ مَوَاهِبِهِ آفاقًا قَانُونِيَّةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى أَسِيرَ الفَوْضَى حَيْثُ تَتَحَوَّلُ الِابْتِكَارَاتُ إِلَى مَخَاطِرَ، وَتَبْقَى الأَمْوَالُ رَهِينَةَ التَّعْقِيدَاتِ.