لم يكن الهجومُ الإسرائيليُّ على قطر ومحاولةُ اغتيال قادة “حماس” حدثاً عابراً في مشهد الشرق الأوسط، بل محطةً فاصلةً تُهدِّد بإعادة رسم معادلات القوة والتحالفات، في ظلِّ ما طرحته من أسئلةٍ مصيريةٍ كُبرى: كيف ستردّ المنطقةُ على هذا الانفلات الإسرائيلي؟ وهل ما زالت “المظلّة الأميركية” للحماية كافية؟ وما مصير “الاتفاقيات الإبراهيمية” وسط هذا الزلزال؟ تبدو إسرائيل، في تصعيدها الأخير، كمن يراهن على منطق “القوة المطلقة”، فهي وجَّهت، باستهدافها لبلدٍ عربيٍّ له ثقله كقطر، رسالةً إلى كلِّ الشرق الأوسط بأنّها لا تعترف بأيِّ خطوطٍ حمراء، مع أنّها تعلم أنّ هذا “الجنون المحسوب” لن يمرّ مرور الكرام، وسيكون له تداعياتٌ وارتدادات. فرصة ذهبية في المقابل، لا يختلف اثنان على أنّ محور “الممانعة” يجد في ما تذهب إليه إسرائيل من تصعيد “فرصةً ذهبيةً”، لتوحيد المشاعر الشعبية العربية خلف خطابه، ولإعطائه مشروعيةً إضافيةً باعتباره يُقدِّم نفسه على أنّه “الجبهة الوحيدة” التي تُواجه أو تُقاوم إسرائيل، كما لو أنّ الأخيرة تنتشل محور “الممانعة” من مأزقه، وتهديه “أوراقَ قوة” من حيث لم يتوقّع!. ما حصل لا يقف عند حدود التصعيد العسكري فحسب، بل يضرب في الصميم الدور القطري كـ”وسيطٍ محوريّ” لوقف الحرب على غزّة وتخفيف مآسي شعبها، ومن شأنه تقويض أيّ وساطةٍ عربيةٍ محتملة، وإضعاف أحد المسارات القليلة التي كانت توفِّر متنفساً إنسانياً وسياسياً للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. الجنوح الإسرائيلي نحو التصعيد الدموي ينعكس سلباً على الولايات المتحدة الأميركية، ويضرب في الصميم ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى “جائزة نوبل للسلام”، بعد سلسلةٍ من المبادرات الدبلوماسية التي قام بها تصعيد مفتوح كلّ ذلك يعني أنّ إسرائيل لا تريد حلولاً أو تسوياتٍ سلمية، بل تذهب إلى “تصعيدٍ مفتوح” يُضاعف من معاناة المنطقة، ويُواجه “إعلان نيويورك” الذي صدر عن المؤتمر الدولي الذي قادته المملكة العربية السعودية وفرنسا في تموز الماضي، وأقرّتْه قبل أيام، الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 142 صوتاً، من أجل تسويةٍ سلميةٍ تقوم على “حلّ الدولتين” وإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلّة. لا شكّ أنّ سياسات إسرائيل الحالية تضع مستقبل حكومة نتنياهو المتطرِّفة على المحكّ، وترهن استمرارها بمدى قدرتها على إدارة أزماتٍ متلاحقة من دون أن تنفجر في الداخل قبل الخارج. فالتصعيد المستمر، وإن كان يُرضي قواعد اليمين الإسرائيلي على المدى القصير، إلا أنّه يُفاقم الانقسامات الداخلية، ويُضعف صورة إسرائيل أمام حلفائها. بكلامٍ آخر، كلّما توسَّعت مغامرات حكومة نتنياهو العسكرية، كلّما اهتزّت شرعيتها في الداخل والخارج معاً. كما أنّ سياسات إسرائيل الحالية تضع أيضاً “الاتفاقيات الإبراهيمية” أمام اختبارٍ وجوديّ، خصوصاً وأنّها بُنيت على وعودٍ بالاستقرار والأمن والازدهار، ولكن، بعد ما حصل، هل تحوّلت هذه الاتفاقيات إلى عبءٍ على من وقّعها؟ وكيف يمكن إقناع الشعوب العربية بجدواها، إذا كانت إسرائيل نفسها قد تحوّلت إلى مصدر تهديدٍ مباشر لدولةٍ عربية مثل قطر؟! الهجوم على قطر أعاد بالمنطقة إلى مربّع “الأسئلة الكُبرى”: هل يستمرّ العرب في الاعتماد على “المظلّة الأميركية” أين أميركا؟ ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه: أين الولايات المتحدة الأميركية من كلِّ ما يحصل؟ في قراءةٍ لمطلعين على السياسة الأميركية تسنّى لي اللقاءُ بهم مؤخراً، فإنّ الجنوح الإسرائيلي نحو التصعيد الدموي ينعكس سلباً على الولايات المتحدة الأميركية، ويضرب في الصميم ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى “جائزة نوبل للسلام”، بعد سلسلةٍ من المبادرات الدبلوماسية التي قام بها، من رعايته لـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”، مروراً بجهوده لوقف النزاع الروسي – الأوكراني، ووساطته في إنهاء الحرب القصيرة بين الهند وباكستان، وصولاً إلى دعمه لمسار السلام بين أذربيجان وأرمينيا، ومحاولاته لإطفاء النزاع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، وليس انتهاءً بمساعيه الأخيرة لوقف الحرب على غزّة. لا شكّ أنّ خسارة ترامب لـ”نوبل السلام”، إن حصلت، لا يمكن أن تُقاس، بأيّ شكلٍ من الأشكال، بخسارة الولايات المتحدة الأميركية المحتملة لـ”ثقة العرب” بـ”المظلّة الأميركية” كـ”ضمانةٍ للأمن”، إذا ما استمرّ “عجز واشنطن” عن كبح جماح إسرائيل نحو التصعيد، وإذا ما استمرت في تبريره، ولم تقم بأيّ فعلٍ يُلزم إسرائيل بـ”خطوط حمراء”، وبوقف حرب غزّة، وبالاستجابة لـ”إعلان نيويورك”. المربّع الوجودي المؤكَّد اليوم أنّ الهجوم على قطر أعاد بالمنطقة إلى مربّع “الأسئلة الكُبرى”:هل يستمرّ العرب في الاعتماد على “المظلّة الأميركية” إذا ما استمرّ الانحياز الأميركي المطلق إلى جانب إسرائيل، أم باتوا، اليومَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، أقربَ إلى بناء منظوماتٍ أمنيةٍ مستقلّة قائمة على الردع الذاتي والتحالفات المتوازنة مع قوى كبرى كالصين وروسيا؟هل نشهد على تقاطعٍ عربيٍّ مع تركيا كقوةٍ إقليميةٍ لتشكيل “شبكة ردع” تُواجه أيَّ خطرٍ إسرائيليٍّ في المستقبل؟هل سيكون “الجنون الإسرائيلي” فرصةً لإعادة رسم اصطفافٍ استراتيجيٍّ بين دول المنطقة، أم بدايةَ فوضى بلا نهاية؟ ليس قدراً أن نستمرَّ كعربٍ بين "المطرقة الإسرائيلية" و"السندان الإيراني". جلّ ما نريده أن نتصدى، بما نملكه من أوراق قوة، لتلك "العربدة الإسرائيلية" التي يقطف ثمارها محور "الممانعة"، وخارطة الطريق إلى ذلك يجب أن تبدأ من القمّة العربية – الإسلامية الطارئة في الدوحة، بإعادة ترميم البيت العربي، وتفعيل "الدبلوماسية العربية الجماعية" في مواجهة كلّ من يُهدِّد أمن واستقرار الدول العربية، حماها الله وحفظها من كلّ شر. الأمين العام لـ"تيار المستقبل"
لا يمكن لأيّ مُراقبٍ مُنصِفٍ أن يتجاهل الحضورَ الدينيَّ النابضَ في قلب مدينة صيدا. فالشواهدُ تتجلّى في كلِّ زاويةٍ، من حلقاتِ الذِّكر التي تَعمُرُ بها المساجدُ، إلى المهرجاناتِ القرآنيّة وتخريجِ أفواجِ حَفَظةِ كتابِ الله، وصولاً إلى مشهدِ صلاةِ الفجرِ التي تَكتظُّ بها بعضُ مساجدِ المدينةِ حتى أصبحتْ علامةً فارقةً لها. ولا يَغيبُ عن الذاكرةِ وهجُ “الحركةِ الأسيريّة” التي حوّلتْ منطقةَ “عبرا” إلى منارةٍ دعويّةٍ نشطة، قبل أن تنطفئ في أتونِ صراعٍ مأساويٍّ دفع ثمنَه شبابُ أهلِ السُّنّة، بعد اصطدامها بقوى من داخلِ البيتِ السُّنّي وخارجه، أبرزُها حزبُ الله وحركةُ أمل. سؤال الهُويّة الأكبر رغم كلِّ هذه المظاهر، يظلُّ السؤالُ الجوهريُّ قائمًا: هل صيدا مدينةٌ “إسلاميّة” بالمعنى الهُويّاتيّ الشامل؟ وهل نجح الإسلاميون في صبغِها بهذه الصبغة؟الجوابُ، بكلِّ وضوحٍ، هو: لا. صيدا ليست مدينةً إسلاميّة بالتعريفِ الصِّرف للهُويّة. هي مدينةٌ محافظةٌ يَغلُب عليها الطابعُ الدينيُّ السُّنّي، وهو ما يظهرُ جليًّا في الاحتفالاتِ وزينةِ الشوارع، التي لا يَكسِرُها إلا مناسباتٌ استثنائيّة كرأسِ السنة. لكنّ هذا الطابعَ المحافظ لم يُترجَم إلى هُويّةٍ إسلاميّةٍ راسخة. فلماذا هذا الإخفاق؟ يمكنُ إيجازُ الأسبابِ في ثلاثةِ محاورَ رئيسيّة: ضعفُ وغيابُ للرؤية يكمنُ الضعفُ الأبرزُ في غيابِ رؤيةٍ استراتيجيّةٍ موحّدة. فالتحرّكاتُ غالبًا ما تكونُ ردودَ فعلٍ متناثرةً تفتقرُ إلى الحكمةِ والجاذبيّة؛ فهُنا تُغلَقُ شوارعُ اعتراضًا على حفلٍ تحت شعار “صيدا لن ترقص”، وهناك تُستخدَمُ قضايا كبرى مثل غزّة كمتراسٍ دفاعيٍّ بدلًا من أن تكون منطلقًا للعملِ البنّاء. لو امتلك الإسلاميون قوّةَ التأثير الدعويّ، المبنيّ على بصيرةٍ ومحبّةٍ، لأصبحتْ مهرجاناتُ الآخرين مجرّدَ أصداءٍ باهتة. التجربةُ الشخصيّةُ تُثبت أنّ الجمهورَ مُتعطّشٌ للبديلِ الهادف؛ فقد تجاوز الحضورُ في مهرجانٍ رياضيٍّ وإنشاديٍّ أُقيمَ في قلبِ صيدا 2500 شخص، معظمُهم لم يكونوا من الملتزمين بالضرورة. هذا يُثبت أنّ الساحةَ خصبةٌ، لكنّها تحتاجُ إلى زارعٍ ماهر. إنّ ضعفَ التأثيرِ يترجمُ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، وهو رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض، ويَكشِفُ عن عجزٍ في تحويلِ التعاطفِ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ فاعلة. يترجم ضعفَ التأثيرِ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض هيمنة العلمانية المشهدُ السياسيُّ السُّنّي في صيدا يخضعُ، للمفارقة، إلى هيمنةِ تيّاراتٍ علمانيّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الالتزامِ الدينيّ. فالمقعدان النيابيّان المخصّصان للطائفةِ تُسيطرُ عليهما أحزابٌ تتراوحُ بين العلمانيّة الليبراليّة، واليساريّة، والبعثيّة. في أفضلِ الأحوال، قد نجدُ سياسيًّا يُصلّي ويصوم، ولكنّه يتبعُ نهجًا انتقائيًّا يَغلُب عليه الطابعُ الشكليّ، حيث يُنظرُ إلى الدعوةِ للعودةِ إلى الكتابِ والسُّنّة على أنّها “رجعيّة”. هذا التباينُ العميقُ ألقى بظلالِه على الحركاتِ الإسلاميّة نفسها، التي انقسمتْ وتشرذمتْ في خياراتِها السياسيّة، كما ظهرَ جليًّا في الانتخاباتِ البلديّة الأخيرة، ممّا أكّد أنّ النماذجَ الملتزمة ليستْ هي القاطرةَ التي تقودُ المشهد. فراغُ المرجعيّة وتوظيفُ الدين تُعاني صيدا من غيابِ مرجعيّةٍ دينيّةٍ حقيقيّةٍ ومستقلّة. فغالبيةُ المشايخِ موظّفون ضمن “دار الفتوى”، وهي مؤسّسةٌ رسميّة تتبعُ دولةً لا ينصُّ دستورُها على هُويّتِها الإسلاميّة، بل يَعترفُ ويُقنّن مؤسّساتٍ تتناقضُ مع أبسطِ مبادئِ الدين. يُضافُ إلى ذلك، أنّ بعضَ حاملي الرسالةِ الدينيّة يفتقرون إلى العمقِ العلميّ والتأهيلِ الكافي، ممّا يُضعفُ من قدرتِهم على التأثيرِ والإقناع. وفي ظلّ غيابِ المرجعيّاتِ الراسخة التي كانت تُمثّلُها الأجيالُ السابقة، ظهرتْ “أشباهُ مرجعيّات” باتتْ تدورُ في فلكِ رجالِ المالِ والسياسة، وتُصدِرُ فتاوى تُرضي أهواءَهم طمعًا في مكاسبَ دنيويّة، ممّا أفرغَ الخطابَ الدينيَّ من مصداقيّتِه. المواجهةُ تبدأ من الذات قبل أن تُوجّهوا اللومَ إلى الناشطِ العَلمانيّ، أو المناضلِ اليساريّ، أو المستثمرِ في الفنِّ الهابط، أو حتى “المُستشيخ” الذي يطرقُ أبوابَ السلطة، عليكم أن تتوقّفوا وتلوموا أنفسَكم. فالعِلّةُ تكمُنُ في تقصيرِكم عن ترتيبِ البيتِ الداخليّ، وفي استغلالِ الدينِ لمصالحَ شخصيّةٍ ضيّقة. الطريقُ نحو التغيير طويلٌ وشاقّ، ولا يمكن أن يبدأ إلا بخطوتين متلازمتين: الإيمانُ والعمل. الإيمانُ يتجذّرُ بالوعيِ العقائديّ الصحيح، والعملُ يتجسّدُ في تقديمِ نماذجَ قياديّةٍ مُلهِمة وتطبيقٍ عمليٍّ على أرضِ الواقع. لن تتغيّرَ صيدا بين ليلةٍ وضحاها، بل بالصبرِ والعملِ الدؤوبِ وتقوى الله. حينها فقط، قد ترتدي المدينةُ "تاجَ الوقار" الذي تتمنّونه، وتتشكلُ الهُويّةُ التي تسعونَ إليها.
في حادثةٍ تُضاهي مشاهدَ الكوميديا السوداء في المدينة، تَعرّض أحدُ “المشايخ” المنتسبين لواحدة من العائلات الصيداوية الكبيرة، المَعروف بولائه التاريخي لخطّ الممانعة، إلى سرقةٍ مُدوِّية طالت هذه المرّة… حِذاءه! وذلك من أمام المسجد الذي يُؤمُّهُ لصلاة الجمعة. المصادرُ المَحلِّيّة رَبَطت بين الحادثة و”العَصر المالي” الذي يعيشه الشيخُ منذ أن جفّت “حنفيّة” حزب الله التي كانت تُغدِق عليه سابقًا بالدعم والبركات. ومع توقُّف هذه “المكرُمات”، تراجَع عددُ المرافِقين، وفرغت سياراتُ المواكبةُ الواحدة تِلوَ الأُخرى، حتى بات الشيخُ يقفُ أمام المسجد مُجرَّدًا إلّا مِن خُطبه الرنّانة… وصُبّاطه المفقود. المُفارقة أنَّ البعضَ اعتبر الحادثة “رسالة رمزيّة” من الشارع الصيداوي لهذه الشخصية: فحين تُختَزَل الممانعةُ في حذاء، يكفي أن يختفي الصُّبّاط… لتنكشِف القُدسيّة!