يوماً بعد يوم، تُثبت صيدا أنّها مدينة لا تُشبه أحدًا، لكنها في الوقت نفسه مدينة لا يصنع قرارها من أبنائها فحسب. هنا، السياسة تُدار بالانتظار… انتظار الداخل وانتظار الخارج، وانتظار ما قد يهبط من فوق الطاولة أو من تحتها. يقول مرجع سياسي لبناني “عتيق” لصحيفة “البوست” عندما سُئل عن قراءته للانتخابات النيابية المقبلة في صيدا “لكل المناطق اللبنانية خصوصيتها، لكن في صيدا الأمر مختلف كليًا. الكل ينتظر بعضه… والكل ينتظر الخارج فعليًا، وتحديدا إسرائيل.” ويشرح الرجل”بهية تنتظر سعد، وسعد ينتظر بن زايد، وبن زايد ينتظر بن سلمان… أما أسامة سعد وعبد الرحمن البزري فينتظران بهية، ما يجعل كليهما في نهاية المطاف أسيرًا لانتظار الخارج أيضًا. حتى المرشحون الجدد لا يملكون رفاهية الحركة: ترشّح بهية أو عزوفها قد يُحيي حظوظهم أو يدفنها قبل أن تولد.” ثم يتابع “أضِف إلى ذلك أنّ الجماعة الإسلامية، بما تمثّله في صيدا، باتت تنتظر قرار ترامب التنفيذي بتصنيفها منظمة إرهابية، وما سيخلّفه ذلك من ارتباك على ترشيحاتها وتحالفاتها وخريطتها الانتخابية.” مدينةٌ كاملة تقف على رصيف الانتظار…تنتظر كلمة من الرياض، ونظرة من أبوظبي، وإشارة من واشنطن. أمّا صناديق الاقتراع فليست سوى محطةٍ أخيرة في سباقٍ يحدّد مساره الخارج قبل الداخل.
ينشطُ أحدُ رجالِ الأعمالِ “المُستجدّين” في صيدا في عقدِ لقاءاتٍ و”عشاواتٍ” سريّةٍ بعيدًا عن الأضواء، في محاولةٍ لافتةٍ منه لالتقاطِ اللحظةِ المناسبة للانقضاضِ على المقعدِ السُّنّي في المدينة، مُقدِّمًا نفسَه كـ”مرشّحِ التسوية” بين دعمِ “الثنائيّ الشيعيّ” و”التيّار العوني” ومؤيّدي إبراهيم عازار في جزّين. وتحرصُ هذه الشخصيّةُ خلال لقاءاتها على تردادِ معزوفةٍ واحدة: أنّه لن يخوض الانتخابات إذا ترشّح النائبان بهيّة الحريري وأسامة سعد. أمّا في حال عزوفِ أحدِهما، فيرى نفسه، بثقةٍ تفوقُ حضوره الفعليّ، المرشحَ “الأكثر أهليّة” و”الأوفر حظًا” لنيل المقعد، رغم أنّه لا يُسجَّل له أيّ أثرٍ حقيقيّ أو فعلٍ ملموسٍ في الشأنِ العامّ، عدا عن افتقارِه الواضح للخبرةِ السياسيّة التي تتطلّبها ساحةٌ مثل صيدا.
في الذكرى ال 82 لاستقلال لبنان… بعد مرور أكثر من قرنٍ على توقيعها، لا تزال اتفاقيةُ سايكس–بيكو، تلك المعاهدةُ السرّية التي رَسَمَت حدودَ الشرق الأوسط الحديث، تُثيرُ جدلًا واسعًا وتُلقي بظلالها الثقيلة على واقعِ المنطقة. لم تكن مجردَ خطوطٍ على خريطة، بل كانت تجسيدًا لمرحلةٍ من الخداعِ الاستعماري الذي زَرَعَ بذورَ صراعاتٍ لا تزال مُستعِرة حتى اليوم. لم تَبقَ هذه المؤامرةُ طيَّ الكتمان طويلًا. فبعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، قام فلاديمير لينين بنشر نصوصِ الاتفاقيات السرّية التي وجدها في أرشيفِ الحكومة القيصريّة، واصفًا سايكس–بيكو بـ«اتفاقية اللصوص الاستعماريين». بعد انتهاء الحرب، تمَّ إضفاءُ الشرعية على مخططاتِ سايكس–بيكو في مؤتمر سان ريمو عام 1920، الذي أقرّ نظامَ الانتداب. وُضِعَت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، بينما وُضِعَ العراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني. كانت هذه هي اللحظة التي تحوّلَت فيها الخطوطُ السرّيةُ على الخريطة إلى حدودٍ سياسيةٍ فعلية، مما أدّى إلى قمعِ الحكومة العربية المستقلة التي تأسست في دمشق بقيادة الأمير فيصل بعد معركةِ ميسلون في يوليو 1920. لم تكن اتفاقيةُ سايكس–بيكو مجردَ معاهدةٍ لتقسيم الأراضي، بل كانت عمليةَ زرعٍ للشقاق والانقسام في قلب العالم العربي. لقد خَلَقَت دولًا بحدودٍ مصطنعة، وفَصَلَت بين مجتمعاتٍ متجانسة، وأَسَّسَت لصراعات الهوية والطائفية التي لا تزال المنطقةُ تُعاني منها. من القضية الفلسطينية، التي تفاقمت بسبب وعد بلفور المتزامن، إلى الحروبِ الأهلية في لبنان وسوريا والعراق، يمكن تتبّع جذورِ العديد من أزمات الشرق الأوسط المعاصرة إلى تلك الخطوط التي رسمها سايكس وبيكو في الخفاء. في الذكرى المئوية للاتفاقية وما بعدها، يظل «سايكس–بيكو» رمزًا للخيانةِ الغربية، وتذكيرًا مؤلمًا بأن تاريخَ المنطقة لم يكتبه أبناؤُها، بل رَسَمَته مصالحُ القوى العظمى. ليس فهمُ هذا الإرث مجردَ قراءةٍ في التاريخ، بل هو ضرورةٌ لفهمِ الحاضر المضطرب، وربما لتخيّلِ مستقبلٍ مختلف.