يبدو أنّ بناءَ دولةٍ لجميعِ مواطنيها هدفٌ بعيدُ المنال، بسبب تناسُلِ سلطاتٍ تتجاهل، عن وعيٍ أو عدمِ معرفة، عناصرَ المواطنةِ الأساسية. وهذا ما دفع بمدينةِ صيدا أن تعيشَ سنواتٍ عجافٍ ما زالت مستمرةً باستمرار إشاعةِ الفوضى والمحسوبيات وتغطيةِ نهبِ المالِ العام. الشفافية والمساءلة من العناصرِ الأساسية للمواطنة، حسبَ أصحابِ النوايا الحسنة، المشاركةُ من خلالِ الشفافيةِ والمراقبةِ والمساءلة. وهذا ما تجاهلتْهُ المجالسُ البلديةُ المتعاقبةُ في مدينةِ صيدا. وإذا كانت المنظماتُ الدولية تشترطُ أحياناً مشاركةَ المجتمعِ المحلي، فإنّ المجالسَ المتعاقبة كانت تستحضرُ مَن يرفعُ يدَه موافقاً على كلِّ ما يُطرَح. ولكن بعد ما حصل مع برنامجِ الأمم المتحدة الإنمائي عام ٢٠٢١، في مشروعِ تأهيلِ سوقِ السمك، دُفِعَ به عام ٢٠٢٣ لاشتراط وضعِ آليةِ عملٍ تشاركية بين المجلسِ البلدي وممثّلي المجتمعِ المحلي. تواصلتِ الاجتماعاتُ وتوصّل الحاضرون إلى تحديدِ احتياجاتِ المدينةِ في مختلفِ الميادين، وهي مشاريعُ وُضِعت في أدراجِ البلدية ولا تُطرَح إلّا عند الحديثِ عن العملِ التشاركيِّ النظري. وخلال عامين لم يُمارسْ مَن بقي من المجلسِ البلدي أيَّ عملٍ تشاركيٍّ فعلي، وبقيتْ أسئلةُ ممثّلي المجتمعِ المحلي من دون إجابةٍ واضحةٍ حول قضايا المدينة والمشاريعِ التي تُنفَّذ، ولا توجد أيةُ مستنداتٍ موثَّقةٍ لها في البلدية. وهناك أمثلةٌ كثيرة لا مجالَ لذكرها كي لا نُوصَفَ بأصحابِ النوايا السيئة. مسرحيةُ العملِ التشاركي وقد جرى خلال فترةِ مسرحيةِ العملِ التشاركي تشكيلُ لجنةٍ من البلديةِ والمجتمعِ المحلي للإشراف على ما أُطلِق عليه “المرصد الحضري” في المدينة، والذي لا أحدَ من المجتمع المحلي يعرف بالتحديد قيمةَ التمويلِ الذي طال هذا المشروعَ ومشروعَ إنارةِ السوقِ التجاري والملعبِ البلدي. اليوم نشرتْ بلديةُ صيدا إعلاناً، بالتعاون مع برنامجِ الأمم المتحدة الإنمائي، بفتح بابِ التقدّم أمامَ المنظماتِ غير الحكوميةِ المحلية للمشاركة في دعوةِ تقديمِ مقترحاتٍ لتشغيل وحدةِ المرصد الحضري في مدينة صيدا، وأنّ الموعدَ النهائيَّ للتقديم ظهرَ الخميس ١٨ أيلول ٢٠٢٥. وأُرفِقَ البيانُ بالشروطِ المطلوب توفّرُها بأيِّ جمعيةٍ غير حكوميةٍ للتقدّم بالمقترحات للتشغيل. تجاهل المجتمع المحلي ما يلفتُ النظرَ، تجاهلُ البلدية للجنةِ المُشكَّلة منها ومن ممثّلي المجتمع المحلي للإشراف على المرصد كما كان الاتفاق، والاكتفاءُ بأنّها هي الجهةُ الوحيدةُ المعنيةُ بذلك. وهذا إعلانٌ صريحٌ عن انتهاء مسرحيةِ التشاركية التي أنتجها برنامجُ الأمم المتحدة الإنمائي وبلديةُ صيدا؛ قد انتهت وأُسدِلَ الستارُ عليها. كما أنّ إعطاءَ مهلةِ أربعةِ أيامٍ للجمعياتِ كي تتقدّم بطلباتها والالتزامِ بالشروط يبدو وكأنّه إعلانٌ مُعلَّب ستأتي الأيامُ لتوضيحِه، وخصوصاً أنّ غيابَ أيّ جهةٍ استشارية، كانت البلديةُ والبرنامجُ الإنمائي، تروِّجُ له، لم يحصلْ لأسبابٍ مالية كما قال رئيسُ البلدية، وهو ما وُعِدْنا به سابقاً.فترةُ مسرحيةِ التشاركية كانت كافيةً لإقناعِ أصحابِ النوايا الحسنة أنّ السلطاتِ المحلية وعلى رأسها البلدية ليست بوارد الالتزام بمشاركةٍ جدّية، وبالتالي فالحديثُ عن المواطنة مجردُ حديثِ صالونات. حقُّ البلدية من جهةٍ أخرى يجب تسليطُ الضوء على أنّ من حقِّ البلدية ومجلسِها البلدي تجاهلَ موضوعِ المشاركةِ الجدية، وأنها صاحبةُ السلطةِ لوحدها، وبالتالي تكتفي المنظماتُ الدولية بتنظيم المسرحياتِ حول التشاركيةِ والمواطنة، كما نشهدُ مسرحياتِها حول حقوقِ الإنسان في فلسطين وجنوبِ لبنان. ومع هذا الحقِّ الحصري للبلدية لا بدّ من الإشارة إلى بعض الخطواتِ القانونية الواجب أن تلتزم بها بلديةُ صيدا، إذ استناداً إلى قانونِ البلديات (المرسوم الاشتراعي 118/1977 وتعديلاته)، يتضح أنّ:كلَّ عملٍ أو مشروعٍ له طابعٌ أو منفعةٌ عامةٌ ضمن النطاق البلدي هو من اختصاصِ المجلسِ البلدي. يشمل ذلك إسعافَ الجمعياتِ ومساعدتَها والنشاطاتِ الصحية والاجتماعية والثقافية والرياضية. وبالتالي، قبولُ أو رفضُ الهبات، المساعدات، أو التعاون مع المنظماتِ غير الحكومية لا يتم إلّا بقرارٍ من المجلس البلدي، لأنه يدخل في صُلبِ صلاحياتِه. فهل يمكن للبلدية أن تنشر قراراتِ المجلس بهذا الخصوص إذا وُجِدت؟وهذا يعني أنّه لا يمكن البدءُ باستقبال طلباتِ الجمعيات أو الإعلانُ عن فتح بابِ التقديم لتشغيل المرصد الحضري باسمِ البلدية من دون قرارٍ وموافقةِ المجلسِ البلدي.وأنّ أيَّ إعلانٍ يتم قبل انعقادِ المجلس البلدي وإصدارِ قرارٍ رسمي يُعتبر غيرَ مستندٍ إلى الأصول القانونية. فهل تلتزم بلديةُ صيدا القانونَ بهذا الخصوص، أم تجد استشارةً قانونيةً حول الموضوع شبيهةً باستشاراتها حول معملِ معالجةِ النفايات بلا معالجة؟
لا يمكن لأيّ مُراقبٍ مُنصِفٍ أن يتجاهل الحضورَ الدينيَّ النابضَ في قلب مدينة صيدا. فالشواهدُ تتجلّى في كلِّ زاويةٍ، من حلقاتِ الذِّكر التي تَعمُرُ بها المساجدُ، إلى المهرجاناتِ القرآنيّة وتخريجِ أفواجِ حَفَظةِ كتابِ الله، وصولاً إلى مشهدِ صلاةِ الفجرِ التي تَكتظُّ بها بعضُ مساجدِ المدينةِ حتى أصبحتْ علامةً فارقةً لها. ولا يَغيبُ عن الذاكرةِ وهجُ “الحركةِ الأسيريّة” التي حوّلتْ منطقةَ “عبرا” إلى منارةٍ دعويّةٍ نشطة، قبل أن تنطفئ في أتونِ صراعٍ مأساويٍّ دفع ثمنَه شبابُ أهلِ السُّنّة، بعد اصطدامها بقوى من داخلِ البيتِ السُّنّي وخارجه، أبرزُها حزبُ الله وحركةُ أمل. سؤال الهُويّة الأكبر رغم كلِّ هذه المظاهر، يظلُّ السؤالُ الجوهريُّ قائمًا: هل صيدا مدينةٌ “إسلاميّة” بالمعنى الهُويّاتيّ الشامل؟ وهل نجح الإسلاميون في صبغِها بهذه الصبغة؟الجوابُ، بكلِّ وضوحٍ، هو: لا. صيدا ليست مدينةً إسلاميّة بالتعريفِ الصِّرف للهُويّة. هي مدينةٌ محافظةٌ يَغلُب عليها الطابعُ الدينيُّ السُّنّي، وهو ما يظهرُ جليًّا في الاحتفالاتِ وزينةِ الشوارع، التي لا يَكسِرُها إلا مناسباتٌ استثنائيّة كرأسِ السنة. لكنّ هذا الطابعَ المحافظ لم يُترجَم إلى هُويّةٍ إسلاميّةٍ راسخة. فلماذا هذا الإخفاق؟ يمكنُ إيجازُ الأسبابِ في ثلاثةِ محاورَ رئيسيّة: ضعفُ وغيابُ للرؤية يكمنُ الضعفُ الأبرزُ في غيابِ رؤيةٍ استراتيجيّةٍ موحّدة. فالتحرّكاتُ غالبًا ما تكونُ ردودَ فعلٍ متناثرةً تفتقرُ إلى الحكمةِ والجاذبيّة؛ فهُنا تُغلَقُ شوارعُ اعتراضًا على حفلٍ تحت شعار “صيدا لن ترقص”، وهناك تُستخدَمُ قضايا كبرى مثل غزّة كمتراسٍ دفاعيٍّ بدلًا من أن تكون منطلقًا للعملِ البنّاء. لو امتلك الإسلاميون قوّةَ التأثير الدعويّ، المبنيّ على بصيرةٍ ومحبّةٍ، لأصبحتْ مهرجاناتُ الآخرين مجرّدَ أصداءٍ باهتة. التجربةُ الشخصيّةُ تُثبت أنّ الجمهورَ مُتعطّشٌ للبديلِ الهادف؛ فقد تجاوز الحضورُ في مهرجانٍ رياضيٍّ وإنشاديٍّ أُقيمَ في قلبِ صيدا 2500 شخص، معظمُهم لم يكونوا من الملتزمين بالضرورة. هذا يُثبت أنّ الساحةَ خصبةٌ، لكنّها تحتاجُ إلى زارعٍ ماهر. إنّ ضعفَ التأثيرِ يترجمُ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، وهو رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض، ويَكشِفُ عن عجزٍ في تحويلِ التعاطفِ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ فاعلة. يترجم ضعفَ التأثيرِ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض هيمنة العلمانية المشهدُ السياسيُّ السُّنّي في صيدا يخضعُ، للمفارقة، إلى هيمنةِ تيّاراتٍ علمانيّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الالتزامِ الدينيّ. فالمقعدان النيابيّان المخصّصان للطائفةِ تُسيطرُ عليهما أحزابٌ تتراوحُ بين العلمانيّة الليبراليّة، واليساريّة، والبعثيّة. في أفضلِ الأحوال، قد نجدُ سياسيًّا يُصلّي ويصوم، ولكنّه يتبعُ نهجًا انتقائيًّا يَغلُب عليه الطابعُ الشكليّ، حيث يُنظرُ إلى الدعوةِ للعودةِ إلى الكتابِ والسُّنّة على أنّها “رجعيّة”. هذا التباينُ العميقُ ألقى بظلالِه على الحركاتِ الإسلاميّة نفسها، التي انقسمتْ وتشرذمتْ في خياراتِها السياسيّة، كما ظهرَ جليًّا في الانتخاباتِ البلديّة الأخيرة، ممّا أكّد أنّ النماذجَ الملتزمة ليستْ هي القاطرةَ التي تقودُ المشهد. فراغُ المرجعيّة وتوظيفُ الدين تُعاني صيدا من غيابِ مرجعيّةٍ دينيّةٍ حقيقيّةٍ ومستقلّة. فغالبيةُ المشايخِ موظّفون ضمن “دار الفتوى”، وهي مؤسّسةٌ رسميّة تتبعُ دولةً لا ينصُّ دستورُها على هُويّتِها الإسلاميّة، بل يَعترفُ ويُقنّن مؤسّساتٍ تتناقضُ مع أبسطِ مبادئِ الدين. يُضافُ إلى ذلك، أنّ بعضَ حاملي الرسالةِ الدينيّة يفتقرون إلى العمقِ العلميّ والتأهيلِ الكافي، ممّا يُضعفُ من قدرتِهم على التأثيرِ والإقناع. وفي ظلّ غيابِ المرجعيّاتِ الراسخة التي كانت تُمثّلُها الأجيالُ السابقة، ظهرتْ “أشباهُ مرجعيّات” باتتْ تدورُ في فلكِ رجالِ المالِ والسياسة، وتُصدِرُ فتاوى تُرضي أهواءَهم طمعًا في مكاسبَ دنيويّة، ممّا أفرغَ الخطابَ الدينيَّ من مصداقيّتِه. المواجهةُ تبدأ من الذات قبل أن تُوجّهوا اللومَ إلى الناشطِ العَلمانيّ، أو المناضلِ اليساريّ، أو المستثمرِ في الفنِّ الهابط، أو حتى “المُستشيخ” الذي يطرقُ أبوابَ السلطة، عليكم أن تتوقّفوا وتلوموا أنفسَكم. فالعِلّةُ تكمُنُ في تقصيرِكم عن ترتيبِ البيتِ الداخليّ، وفي استغلالِ الدينِ لمصالحَ شخصيّةٍ ضيّقة. الطريقُ نحو التغيير طويلٌ وشاقّ، ولا يمكن أن يبدأ إلا بخطوتين متلازمتين: الإيمانُ والعمل. الإيمانُ يتجذّرُ بالوعيِ العقائديّ الصحيح، والعملُ يتجسّدُ في تقديمِ نماذجَ قياديّةٍ مُلهِمة وتطبيقٍ عمليٍّ على أرضِ الواقع. لن تتغيّرَ صيدا بين ليلةٍ وضحاها، بل بالصبرِ والعملِ الدؤوبِ وتقوى الله. حينها فقط، قد ترتدي المدينةُ "تاجَ الوقار" الذي تتمنّونه، وتتشكلُ الهُويّةُ التي تسعونَ إليها.
في حادثةٍ تُضاهي مشاهدَ الكوميديا السوداء في المدينة، تَعرّض أحدُ “المشايخ” المنتسبين لواحدة من العائلات الصيداوية الكبيرة، المَعروف بولائه التاريخي لخطّ الممانعة، إلى سرقةٍ مُدوِّية طالت هذه المرّة… حِذاءه! وذلك من أمام المسجد الذي يُؤمُّهُ لصلاة الجمعة. المصادرُ المَحلِّيّة رَبَطت بين الحادثة و”العَصر المالي” الذي يعيشه الشيخُ منذ أن جفّت “حنفيّة” حزب الله التي كانت تُغدِق عليه سابقًا بالدعم والبركات. ومع توقُّف هذه “المكرُمات”، تراجَع عددُ المرافِقين، وفرغت سياراتُ المواكبةُ الواحدة تِلوَ الأُخرى، حتى بات الشيخُ يقفُ أمام المسجد مُجرَّدًا إلّا مِن خُطبه الرنّانة… وصُبّاطه المفقود. المُفارقة أنَّ البعضَ اعتبر الحادثة “رسالة رمزيّة” من الشارع الصيداوي لهذه الشخصية: فحين تُختَزَل الممانعةُ في حذاء، يكفي أن يختفي الصُّبّاط… لتنكشِف القُدسيّة!