من وسائل الإخضاع والحصار لإسقاط المدن والقلاع المنيعة تاريخيًّا، كانت حرب المياه، وقطع الإمدادات وتجفيف المنابع، وذلك لضمان السيطرة على منطقةٍ عصيّةٍ على مُحتلّ. اليوم تبدّلت الأيّام، لكن نفس سلوكيّات الهيمنة لا تزال موجودة في ذهنيّة الغزاة. قطع الهواء يبدو صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، لكنّ التحكّم بمصادر المياه وتوزيعها أمرٌ ممكن، أساسي. تفاهة متكررة فحين تتبحّر في أزمة مياه مدينة صيدا، وهي أزمة تتكرّر بشكلٍ تافهٍ وسخيفٍ ومريبٍ كل عام منذ سنين، لتؤذي حياة مئات الآلاف من أهل المدينة وسكّانها، وحين تدخل في فكّ شيفرات الأمور من الداخل، تجد أنّ هناك تقصّدًا غير مُبرَّر لإبقاء المدينة تحت أزمة مياه متواصلة. خاضعة، مرتهنة لحفنةٍ من غير المبالين، على الرغم من أنّ الحلول ممكنة ومتاحة، إن كانت هناك نوايا طيّبة للحلّ ولإراحة الناس. فهل يعقل أن تعاني مدينة عريقة على شاطىء المتوسط وتجاور نهرين من أزمة شّح في المياه، بينما تعيش بلدات وقرى بسيطة في جوارها وفرة مهدورة. الحلول موجودة وكثير من الدراسات والأبحاث والكلام قيل في هذا المجال على مدى سنين. ليس الموضوع ماديا أو تقنيا فحسب. “لب” الموضوع، هو رضوخ، وكسل، ولا مبالاة لدى المعنيين بالأمر قبل المتحكمين برقابنا. فلا “تفذلكوها” كثيرا. غريبٌ أمر هذه المدينة؛ قد يرتكب أحدهم جريمةً دفاعًا عن ولده إن علم بأنّ أحدًا ينوي إيذاءه بـ “شوكة”، لكنّه لا يحرّك ساكنًا على مدى سنين، ولو علم بأنّ ولده سيموت جفافًا مع الأيّام. يكفي أن تعلم أنّه في السنوات الأخيرة تمّ تعيين أكثر من 100 موظّف في “مصلحة مياه صيدا والجنوب”، 5 أو 6 منهم فقط من صيدا، لتفهم أنّ “الأمن المائي” في المدينة في خطرٌ داهم، يفرض “تحريك شُويّة طياز” لدى المعنيّين والجميع على حد سواء، قبل ألا تكفي ثرواتكم المكدَّسة كلها لشراء كوب ماءٍ لأحد أحفادكم…
“نؤمن بتعدّد الزوجات، أمّا تعدّد الثقافات واللغات والديانات والحضارات والحريّات فلا يشملنا!” عبارة تختصر مأساة الوعي في مجتمعاتٍ ترفع شعار المقاومة وتُسقطه عند أوّل اختلافٍ في الرأي.لم يحتجّ جمهور حزب الله في صيدا لأن أحدًا أساء إلى المقاومة، بل لأن النائب أسامة سعد تجرّأ على ممارسة حقّ التفكير النقدي داخل البيت الوطني. تلك الجريمة الكبرى التي لا تُغتفر في زمن “المقدّسات السياسيّة”. العصمة السياسيّة تحوّلت المقاومة في خطاب جمهورها من مشروع تحرير إلى عقيدةٍ مغلقةٍ لا تُمسّ.أيّ نقدٍ يُعتبر مسًّا بالرمز، وأيّ مراجعةٍ تُعدّ خيانة.لكن هل المقاومة، التي انطلقت من وجع الناس وكرامتهم، بحاجةٍ إلى مناعةٍ ضدّ النقد، أم إلى تطعيمٍ بالعقل؟أسامة سعد، ابن البيت الوطني العريق في صيدا، لم يفعل أكثر من محاولة تصويب البوصلة نحو خطابٍ وطنيّ جامع.لكن الردّ لم يأتِ بنقاشٍ فكريّ أو حوارٍ حضاريّ، بل بتخوينٍ علنيّ ووصمٍ جماعيّ، وكأنّ كلّ من لا يهتف مع القطيع هو بالضرورة في معسكر العدو.حين نقبل بتعدّد الزوجات ونرفض تعدّد الثقافات، فنحن لا ندافع عن الدين بل نغتاله بمنطقٍ ذكوريٍّ سياسيٍّ مقنّع. وحين نُجرّم التفكير المستقلّ، نُعلن رسميًّا نهاية المقاومة كفعلٍ تحرّري، ونحوّلها إلى أداة ضبطٍ اجتماعيّ وطاعةٍ سياسيّة.لقد تحوّل الجمهور — لا عن سوء نيّة بل عن غسيل وعيٍ مزمن — إلى حارسٍ على البوابة يمنع الهواء النقيّ من الدخول.كلّ ما لا يُشبهنا عدوّ، وكلّ ما يُخالفنا كفرٌ سياسيّ.بهذا المنطق لا تبقى مقاومة، بل طائفة مقاومة ضدّ الآخرين وضدّ نفسها. حرّيّة واحدة… لا أكثر من يؤمن بتعدّد الزوجات عليه أن يتعلّم أوّلًا كيف يتعامل مع تعدّد الأفكار.فالمجتمعات لا تنهض بكثرة الزوجات، بل بكثرة الأصوات.والمقاومة لا تكتمل بالنصر على العدو، بل بالقدرة على سماع المختلف من دون خوف. صيدا تقول لا في مدينةٍ كصيدا، التي عاشت كلّ وجوه الاحتلال والخذلان، يحقّ لها أن تكون صوت الوعي الأخير. من الطبيعي أن يخرج صوتٌ من داخلها يقول: نعم للمقاومة، لكن لا لعصمة المقاومين. نعم لحماية لبنان، لكن لا لتحويل السلاح إلى هويّة. أسامة سعد لم ينتقد المقاومة، بل أنقذها من التحجّر. قال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله: إنّ المقاومة بلا مراجعة تتحوّل إلى سلطة، والسلطة بلا نقد تتحوّل إلى عبوديّة.
على الرغمِ من أنَّ الموضوعَ لا يتعدّى كونه مجرّدَ انتخاباتٍ عاديّةٍ لجمعيّةٍ خيريّةٍ، على عراقتِها والتصاقها بعائلات صيدا تاريخيا، باعتبارِ أنَّ الأمرَ برمّتِه لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّرُ في مجموعةِ أزماتٍ متشعِّبةٍ تعيشُها المدينة، إلّا أنَّ مصادرَ صيداويّةً مُتابِعةً توقّفت عند النتائجِ التي أفضت إليها انتخاباتُ هذه الجمعيّة اليوم، والتي جاءت على عكسِ ما كانت تُريدُ فرضَه إحدى القوى السياسيّةِ الأساسيّةِ في المدينة، التي كانت تُفَضِّلُ تغييرًا في منصبِ الرئاسةِ والأعضاء، وهو ما لم يحدث. بحسبِ مُطَّلعين، فقد سعت قوى سياسيّةٌ أساسية في المقلب الآخر لكسرِ هذا القرار في الساعاتِ الأخيرة ما قبلَ الانتخابات، وتثبيتِ الرئيسِ الحالي، لتكريسِ أنَّ ليس كلُّ ما يُقرِّرُه هذا القُطبُ وحدَه سيتمُّ التعاملُ معه باعتبارِه “فرمانًا” مُلزِمًا. ما حصل قد يمر مرور الكرام عند كثيرين من الصيداويين، لكنه مؤشِّرٌ واضحٌ الدلالة على أنَّ الانتخاباتَ النيابيّةَ قد انطلقت بأشكالٍ مُقنَّعةٍ، وحروبٍ صغيرةٍ ستكبرُ تباعًا في القادم من الأيام.