متضررون لليوم الثاني على التوالي، يواصل العاملون في بلدية صيدا، من موظفين وأجراء، إضرابهم المفتوح الذي بدأ صباح الأربعاء، 8 تشرين الأول، للمطالبة بحقوق يعتبرونها مكتسبة ومشروعة. يتمسك المضربون بمطلبين أساسيين: شمولهم بـ “تعويض المثابرة” بمفعول رجعي، ومنحهم ثلاث درجات استثنائية منذ عام 2017، أسوة بزملائهم في القطاع العام وبعض البلديات الأخرى.يأتي هذا التحرك في وقت حرج، حيث تقع أعباء خدمة أكثر من 200 ألف مواطن في ثالث كبرى مدن لبنان على عاتق 14 موظفاً و46 أجيراً فقط. هذا العدد الضئيل هو نتيجة طبيعية لسياسة وقف التوظيف التي أدت إلى تناقص الكادر الوظيفي بشكل حاد، بعد أن كان يضم 105 موظفين، إما بسبب التقاعد أو الاستقالة، مما فاقم من الضغط على العاملين الحاليين.ما يزيد الوضع تعقيداً، أن الأجراء في البلدية يعانون من غياب تام للتغطية الصحية، فهم غير مشمولين بأي نظام ضمان صحي أو استشفائي، سواء من جهة رسمية أو خاصة، مما يتركهم وعائلاتهم في مواجهة مصير مجهول. لا يأتي هذا الإضراب من فراغ، بل يستند إلى قرارات رسمية لم تجد طريقها إلى التنفيذ في البلديات. فقرار مجلس الوزراء رقم (1) الصادر في 28 شباط 2024، نص صراحةً في بنده الثالث على منح “تعويض مثابرة” للعاملين في الإدارة العامة، كما سمح التعميم رقم 13/2024 للمؤسسات العامة الإدارية بتطبيق القرار ذاته. في حديث ل”البوست” يتسأل أحد الموظفين المضربين بمرارة: “لماذا تُستثنى البلديات، وهي المؤسسات الأكثر احتكاكاً بالمواطنين وخدماتهم اليومية؟ ليس من العدل أن يتقاضى موظف من الفئة الثانية في البلدية راتباً يعادل راتب موظف من الفئة الثالثة في أي إدارة عامة أخرى”. يضيف موظف آخر: “الحل يكمن في إصدار وزارة الداخلية والبلديات تعميماً مماثلاً لتعميم رئاسة مجلس الوزراء، يمنحنا حقنا في تعويض المثابرة”. يُذكر أن رئيس بلدية صيدا السابق، حازم بديع، كان قد خاطب وزير الداخلية والبلديات بهذا الشأن في كتاب رسمي بتاريخ 16 نيسان 2025، لكن دون جدوى. وحتى اليوم، لا يزال العاملون ينتظرون تحويل الوعود المتكررة من المسؤولين إلى خطوات عملية وجادة، بينما تبقى مصالح المواطنين معلقة.
ما شهده السوق التجاري لمدينة صيدا عصر اليوم، هو مظهر من مظاهر الهيمنة والاحتلال الناعم، الذي لم يعُد ناعمًا أو مُقنِعًا، بل بات على المكشوف. فليس هناك من يُحسَب له حساب في المدينة اليوم. عشرات الأشخاص يُجاء بهم من كل حدب وصوب ليحتلّوا شوارع المدينة تحت عنوان الفن والرسم والإبداع الفكري، تحت علم فلسطين القضية إحياءً لذكرى اغتيال نصر الله وصفِيّ الدين، تحت عنوان: “إنّا على العهد”. أيُّ عهد؟ صيدا لم تُعطِ أيًّا منكما عهدًا ولا وعدًا.
في لبنان، لا شيءَ ينتهي فعلاً، بل يُعاد تدويرُه بأسماءٍ أنيقةٍ ووجوهٍ “نظيفة”.يطلّ علينا نواف سلام اليوم كرجل “الإصلاح” و”الشفافية”، يحمل في جيبه مشروعًا يُشبه بيانًا وزاريًا صاغته السفارة الأميركيّة، ويضع نصب عينيه مهمّة “تاريخيّة”: سحب سلاح حزب الله. أمّا الوعود بالمقابل؟ فسلامٌ سياسيّ شامل، مساعداتٌ ماليّة “محتملة”، وترشيح رمزيّ لجائزة نوبل للسلام، لأنّ العالم يُحبّ دائمًا أن يُكافئ من يُكافئ إسرائيل. منذ الحرب الأهليّة، كان لبنان حقلَ تجاربٍ للتطبيعِ المقنّع.اليوم، المشهدُ نفسُه يُعاد بنسخةٍ أكثر “دبلوماسيّة”: بدل القائد العسكري، لدينا قاضٍ دوليّ يبتسم أمام الكاميرا ويعدنا بـ”عصرٍ جديد بلا سلاح”. الفرق الوحيد أنّ التطبيعَ اليوم يُسوَّق على أنّه “سلامٌ شجاع”، لا “خيانةٌ صريحة”. أميركا تصنع الرموز ولبنان يُصفّق في واشنطن، يبدأ المشروع بجملة: “نريد وجهًا مقبولًا في بيروت”.فيُستخرج أحدُهم من أروقة القضاء الدولي، ويُعطى رتبة “رجل الدولة العاقل”، وتُرسَم له طريقٌ مفروشة بالتصريحات المتزنة. لكن خلف الكواليس، اللعبة أوضح من أن تُخفى: سحب سلاح حزب الله، تفكيك السلاح الفلسطيني في المخيمات، وتهيئة لبنان كمنصّة تطبيعٍ دبلوماسيّ هادئ. وما هو المقابل؟ صورٌ جميلة في نيويورك، تصفيقٌ في مجلس الأمن، وهمُ “الدولة السيّدة” التي لا تملك من السيادة إلّا بيانًا حكوميًا منمّقًا.أمّا الشعب، فله حصّتُه المعتادة من “الوعود الدوليّة”، ودرسٌ جديد في فنّ بيع الوطن بالتقسيط السياسي المريح. من غوتيريش إلى سلامهل يكون نواف سلام المرشّح القادم لخلافة أنطونيو غوتيريش؟ربما. فالغرب يُحبّ الوجوه التي تعرف كيف تتحدّث بلغة “الحقوق الدوليّة” بينما تبتسم للمصالح الأميركيّة.لكن “السلام” الذي يُعَدّ له في بيروت ليس سلامًا بين لبنان وإسرائيل، بل سلامًا بين لبنان ووصايتِه الجديدة.سلامٌ يُنتزع فيه السلاح لا لوقف الحرب، بل لوقف فكرة المقاومة.سلامٌ يُعاد فيه رسم المخيّمات الفلسطينيّة على طريقة “التنظيم المدني”، أي تفكيك آخر جيبٍ يحمل ذاكرة الكفاح.سلامٌ ينتهي بعبارةٍ منمّقة في الأمم المتحدة: “نحن في الشرق الأوسط الجديد”. قد يحصل نواف سلام على جائزة نوبل للسلام، وربما تُعلّق صورتُه في أروقة الأمم المتحدة، لكن لبنان سيبقى بلا كهرباء، بلا عدالة، وبلا كرامة. سيبقى “البلد الذي سلّم سلاحه قبل أن يسلّم فقره”، وصدّق أنّ واشنطن تمنح الجوائز لمن يُحبّ، لا لمن يخضع. والتاريخ، يا دولة الرئيس، لا ينسى مَن سلّم البندقيّة طوعًا ليكسب تصفيقةً عابرةً من عواصم القرار. قد يكتب عنك التاريخ يومًا: “هو الرجل الذي أراد أن يصنع السلام… فخسر البلاد”.