حتّى في عزِّ الحربِ التي دارت بين إسرائيلَ وحزبِ الله قبل التوقيعِ على وقفِ إطلاقِ النار بين الجانبين، لم يتعرّضْ مخيَّمُ عينِ الحلوة لضربةٍ قاسيةٍ كتلك التي تعرّض لها مساءَ أمس، وأدّت إلى سقوطِ أكثرَ من 14 شهيدًا وعشراتِ الجرحى، فيما زعمَ الجيشُ الإسرائيليّ أنّه «استهدافٌ لاجتماعٍ لِعناصرَ من حركةِ حماس كانوا يُخطِّطون للتدريبِ والتأهيل بهدفِ تخطيطٍ وتنفيذِ مخططاتٍ ضدَّ إسرائيل». في خطوةٍ تصعيديّةٍ لافتة، شنّت القواتُ الإسرائيليةُ هجومًا جويًّا مساءَ يومِ الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025، استهدف موقعًا داخل مخيَّمِ عينِ الحلوة للاجئين الفلسطينيين في مدينةِ صيدا جنوبَ لبنان. يأتي هذا الهجوم في سياقٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ معقّد، خصوصًا في ظلِّ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار الهشّ القائم بين إسرائيلَ وحزبِ الله منذ نوفمبر 2024. وقع الهجوم بواسطة طائرةٍ مُسيّرةٍ إسرائيلية استهدفت بأكثرَ من صاروخٍ ما وصفه الجيشُ الإسرائيليّ بأنّه «مجمّعُ تدريبٍ تابعٌ لحماس».يقع مخيَّمُ عينِ الحلوة، المعروف بكونه «عاصمةَ الشتاتِ الفلسطيني»، خارج السيطرة الأمنية المباشرة للدولة اللبنانية، ويشكِّل معقلاً للعديد من الفصائل الفلسطينية المسلحة، بما في ذلك حركةُ حماس. هذا الوضعُ الخاصّ يجعلُه منطقةً شديدةَ الحساسيّة ومرشّحةً دائمًا للتوتّرات الأمنية. الضربةُ تحمل تحذيرًا واضحًا لحماس بأنّ لبنان ليس ساحةً آمنة، وأنّ إسرائيل قادرة على استهدافِ كوادرِها حيثما وُجدوا الأبعادُ الاستراتيجيةُ والتداعياتُ ماذا تعني هذه الضربةُ في التوقيتِ والشكلِ والمضمون؟ قراءةٌ في معانيها ودلالاتها. يُمثّل هذا الهجوم منعطفًا هامًّا في الديناميكيات الأمنية والسياسية في المنطقة، حاملاً في طيّاته رسائلَ متعددة وتداعياتٍ محتملة على الأطراف الثلاثة الرئيسية. على الصعيد الإسرائيلي من المنظور الإسرائيلي، يمكن تفسيرُ هذا الهجوم في إطارِ عدّة أهدافٍ استراتيجية: 1.توسيعُ بنكِ الأهداف وتجاوزُ الخطوطِ الحمراء: باستهدافها مخيمَ عينِ الحلوة، تكونُ إسرائيلُ قد تجاوزت خطًّا أحمر جديدًا. تاريخيًّا، كانت العملياتُ الإسرائيلية في لبنان تتركّز على أهدافٍ تابعةٍ لحزب الله. أمّا اليوم، فاستهدافُ حماس داخل مخيمٍ مكتظٍّ بالسكان يُشيرُ إلى استعدادٍ إسرائيليّ لتوسيعِ نطاقِ عملياتها جغرافيًّا ونوعيًّا. 2. تأكيدُ سياسةِ «الذراعِ الطويلة»: تبعث إسرائيل برسالةٍ واضحة مفادُها أنّها لن تتسامحَ مع أيّ وجودٍ عسكريٍّ لحماس على حدودها الشمالية، وأنّها مستعدّةٌ لملاحقة عناصرِ الحركة في أيّ مكان، حتى في عمقِ الأراضي اللبنانية وداخلِ المخيمات. 3. استغلالُ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار مع حزبِ الله: يأتي الهجوم في ظلِّ الهدوءِ النسبي على الجبهة الشمالية. يبدو أنّ إسرائيل تستغلُّ هذا الاستقرار لتصفيةِ ما تعتبره تهديداتٍ أخرى، وعلى رأسها حماس، مرجِّحةً أنّ حزبَ الله لن يردّ على هجومٍ يستهدف فصيلاً فلسطينيًا في هذه المرحلة. 4. رسالةُ ردعٍ لمحورِ المقاومة: الضربةُ تحمل تحذيرًا واضحًا لحماس بأنّ لبنان ليس ساحةً آمنة، وأنّ إسرائيل قادرة على استهدافِ كوادرِها حيثما وُجدوا. على الصعيدِ اللبناني بالنسبة للبنان، الهجومُ يمثّل تحدّيًا كبيرًا وتعميقًا لأزماته: 1. انتهاكٌ صارخٌ للسيادة: هو انتهاكٌ جديد يؤكّد عجزَ الدولة عن حماية أراضيها ومنع تحويلها إلى ساحةِ صراعاتٍ إقليمية. 2. إحراجٌ للدولة وحزبِ الله: الدولةُ اللبنانية عاجزةٌ عن الردّ، فيما يجدُ حزبُ الله نفسَه بين معادلةِ «وحدةِ الساحات» وضغوطٍ داخلية ودولية تطالبه بضبطِ النفس. 3. إعادةُ فتحِ ملفِّ السلاحِ الفلسطيني: الهجوم يعيد تسليطَ الضوء على ملفّ السلاح داخل المخيمات، ما قد يؤدّي إلى توتراتٍ ومشاكل داخلية جديدة. على صعيدِ حركةِ حماس 1. استهدافُ الوجود العسكري: يمثّل الهجوم ضربةً مباشرة لمحاولاتِ حماس بناء قدراتٍ عسكرية في لبنان وفتح جبهةٍ شمالية ضد إسرائيل. 2. تحدّي استراتيجية «وحدةِ الساحات»: عدم الردّ على هذا الهجوم سيضعف مصداقية هذه الاستراتيجية، ويُظهر محدودية القدرة على الردّ من الأراضي اللبنانية. 3. خسائر بشرية ومعنوية: إضافةً إلى الشهداء والجرحى، تُعدّ الضربةُ صفعةً معنويةً للحركة، لأنها تكشف هشاشةَ مواقعِها داخل بيئةٍ كانت تُعدُّ أكثرَ أمنًا لها. يمكن القول إنّ الهجومَ الإسرائيليَّ على مخيمِ عينِ الحلوة خطوةٌ محسوبةٌ من تل أبيب، تهدفُ إلى منعِ حماس من ترسيخِ وجودِها العسكري في لبنان وتعزيزِ قدرتها على الردع. لكنّها في الوقت نفسه خطوةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، إذ إنّها تُهدّد اتفاقَ وقفِ إطلاقِ النار الهش، وتفتح البابَ أمام مواجهةٍ أوسع في الجنوب إذا قررت حماس أو أحدُ حلفائها الردّ.
تتّجه أنظارُ كثير من الناس حول العالم اليوم إلى القدسِ المحتلّة مع انطلاق محاكمةِ الشيخِ عكرمة صبري، إمامِ وخطيبِ المسجدِ الأقصى ورئيسِ الهيئةِ الإسلاميةِ العليا في القدس، البالغ من العمر (86 عاماً) في خطوةٍ تُوصف بأنّها تصعيدٌ خطيرٌ يستهدفُ أعلى مرجعيّةٍ دينيّة في المدينة وأحد أبرز الأصواتِ المدافعةِ عن المسجدِ الأقصى وقضيّتِه. يُعدّ الشيخُ عكرمة صبري من أبرزِ علماءِ القدسِ وفلسطين. شغل منصبَ مُفتي القدسِ والديارِ الفلسطينية لسنوات، ولا يزالُ حتى اليوم خطيبًا للمسجدِ الأقصى ورئيسًا للهيئةِ الإسلاميةِ العليا. ارتبط اسمُه بكلِّ محطاتِ الدفاعِ عن الأقصى، من هبّاتِ المقدسيين المتتالية، إلى مواجهتِه العلنيّة لمحاولاتِ تغييرِ الوضعِ التاريخيّ والقانونيّ للمسجد، ما جعله في مرمى الاستهدافِ الدائم من قبلِ سلطاتِ الاحتلال عبر الإبعاداتِ المتكررة والتهديداتِ والاستدعاءات. خلفيّة الاتهامقدّمت النيابةُ العامةُ في دولةِ الاحتلال ضدّ الشيخِ صبري لائحةَ اتّهامٍ تتضمّن ما تسمّيه “التحريضَ على الإرهاب” على خلفيّة كلماتِ تعزيةٍ وخُطبٍ ألقاها في مناسباتٍ مختلفة، بينها تأبينُ شهداء فلسطينيين وخطبةٌ في المسجد الأقصى.الشيخُ من جهته يؤكّد أنّ ما قاله يندرجُ في إطارِ الواجبِ الدينيّ والوطنيّ، وأنّ الاتهاماتِ تأتي في سياقِ “محاكمةِ الموقفِ والكلمة”، لا محاكمةِ مخالفةٍ قانونيّةٍ حقيقية، معتبرًا أنّ الهدفَ هو زرعُ الخوفِ في قلوبِ الناس ومنعُهم من التعبيرِ عن رفضهم للاحتلال وجرائمه بحقّ القدس والأقصى. استفرادٌ بالمرجعيّة الدينيّةخطورةُ ما يجري لا تكمُنُ فقط في مضمونِ الاتهامات، بل في شخصِ المستهدَف؛ فالشيخُ عكرمة صبري يمثّل مرجعيّةً دينيّةً وروحيّة واسعةَ التأثير داخل القدس وخارجها.تفتحُ محاكمتُه البابَ، أمامَ سابقةٍ قضائيةٍ تسمحُ للاحتلال بملاحقةِ كلّ عالمٍ أو خطيبٍ أو شخصيةٍ دينيةٍ تتخذُ موقفًا واضحًا في مواجهةِ سياساته، تحت لافتةِ “التحريض”، ما يعني عمليًا إعادةَ تشكيلِ المشهدِ الدينيّ في المدينة بما يخدمُ الرؤيةَ الإسرائيلية.وتزامنًا مع الملفّ القضائيّ، تشهدُ محيطُ منزلِ الشيخِ بين الحين والآخر تحرّكاتٍ لمجموعاتٍ من المستوطنين المتطرفين، يردّدون هتافاتٍ تحريضيّةً وتكفيريّةً بحقّه، في ظلّ حمايةٍ من الشرطة، وسط مخاوفَ حقيقيةٍ من تحوّلِ التحريضِ الإعلاميّ والسياسيّ إلى استهدافٍ جسديّ، في ظلّ صمتٍ رسميّ عربيّ وإسلاميّ مُقلق. تفتحُ محاكمتُه البابَ، أمامَ سابقةٍ قضائيةٍ تسمحُ للاحتلال بملاحقةِ كلّ عالمٍ أو خطيبٍ أو شخصيةٍ دينيةٍ تتخذُ موقفًا واضحًا في مواجهةِ سياساته، تحت لافتةِ “التحريض” الأقصى في قلب المعركةلا يمكنُ فصلُ محاكمةِ الشيخِ صبري عن الصراعِ المفتوح على المسجدِ الأقصى.فالشيخُ كان في مقدّمةِ من تصدّى لإجراءاتِ الاحتلال عند بواباتِ الأقصى، وشارك في قيادةِ الحراكِ الشعبيّ الذي أحبط محاولاتِ فرضِ بواباتٍ إلكترونية وكاميراتٍ ذكيّة على مداخلِ المسجد، كما كان من أوائلِ من حذّروا من مخططاتِ التقسيمِ الزمانيّ والمكانيّ وسعيِ الجماعاتِ الاستيطانية لتحويلِ الاقتحاماتِ اليومية إلى أمرٍ واقعٍ دائم.من هنا، يقرأُ كثيرون هذه المحاكمة باعتبارِها حلقةً في سلسلةٍ طويلة تهدفُ إلى إبعادِ الرموزِ المؤثّرة عن مشهدِ الدفاعِ عن الأقصى، سواء عبر قراراتِ الإبعاد والمنعِ من الدخول، أو عبر المحاكماتِ والضغوطِ الأمنيةِ والقانونية. صمتٌ عربيّ وإسلاميّفي مقابلِ هذا التصعيد، يُلاحظُ ضعفُ التفاعلِ الرسميّ العربيّ والإسلاميّ مع ملفّ الشيخِ عكرمة صبري، والاكتفاءُ ببياناتٍ خجولةٍ لا ترقى إلى مستوى الحدث ولا إلى مكانةِ الرجل ولا إلى خطورةِ استهدافِه.هذا الصمتُ يرسلُ، برأي كثيرين، إشاراتٍ خاطئةً للاحتلال تُشجّعه على المضيّ قُدمًا في سياسةِ “ترويض” المرجعياتِ الدينيّة في القدس واحدةً تلو الأخرى. في المقابل، يراهنُ الشيخُ صبري على التفافِ الشارعِ الفلسطينيّ والعربيّ والإسلاميّ حول القدسِ والأقصى، وقد دعا مرارًا إلى تحويلِ محاكمتِه من قضيةٍ شخصية إلى قضيةِ رأيٍ عام تُعبّر عن رفضِ محاكمةِ الكلمةِ والموقف، وعن التمسّكِ بحقِّ الدفاعِ عن المسجدِ الأقصى والقدس بكلِّ الوسائلِ السلميةِ والقانونيةِ المتاحة. ليست محاكمةُ الشيخِ عكرمة صبري مجرّدَ ملفٍّ قضائيّ عابر، بل اختبارًا جديدًا لإرادةِ الأمة تجاه القدس. فإذا نجح الاحتلالُ في محاكمةِ أعلى مرجعيةٍ دينيةٍ في المدينة بتهمةِ “التحريض”، فسيفتح البابَ واسعًا أمام محاكماتٍ أخرى تطالُ كلَّ من يرفع صوتَه دفاعًا عن الأقصى.وعليه، تتحوّلُ هذه القضيةُ إلى نداءٍ عاجلٍ للهيئاتِ الدينية، والمنظماتِ الحقوقية، ووسائلِ الإعلام، والشارعِ العربيّ والإسلاميّ، للتحرّك من أجل حمايةِ حريةِ الكلمة والدفاعِ عن هويةِ القدس، قبل أن يصبحَ استهدافُ العلماءِ والأئمةِ والمقدسات أمرًا اعتياديًا لا يثيرُ إلا القليلَ من ردودِ الفعل.
عَلِمَتْ صحيفةُ “البوست” من مصادرَ سياسيّةٍ مُطَّلِعة، أنّ حزبَ الله تقدَّم، منذ فترة، بعدّة طَلَباتٍ بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، عبر شخصيّاتٍ صديقة، لطلبِ تحديدِ لقاءٍ بين وفدٍ من الحزب والنائب أُسامة سعد. إلّا أنّ الجواب كان يأتي على الشكلِ الآتي: “الحكيم مَشغول هالفترة”؛ وذلك بعدَ احتدامِ الخلافِ بين الطرفين، عقبَ انسحابِ وفدٍ من الحزب من فعاليّةٍ سياسيّةٍ في صيدا، تناولَ فيها سعدٌ موضوعَ انتقالِ المقاومة “مِن حَوْلِ المقاومةِ إلى فِعلٍ مَذهبيٍّ ضيّق”. وبحسبِ مُتابعين، تأتي هذه المحاولاتُ من قِبَلِ الحزب لإعادةِ الوَصلِ مع نائبِ صيدا في توقيتٍ دقيق، على أعتابِ ترقّبِ تصعيدٍ في العدوانِ الإسرائيلي، من المتوقَّعِ أن يُنتِجَ حالةَ نُزوحٍ “جنوبيّ” باتجاهِ عاصمةِ الجنوب. كما لا يمكنُ قراءةُ الأمرِ إلّا باعتباره مؤشِّرًا دالًّا على مَعالِمِ التحالفاتِ التي منَ المُحتَمَل أن “تِركَب” على خارطةِ المتنافسين في الانتخاباتِ النيابية المقبلة. فهل يُعيدُ سعدٌ تبييضَ صفحةِ الحزب في المدينة بعد كلّ ما جرى؟ في السياسةِ لا شيء ثابت… ولا حتّى مُتحرّك….هي لعبةُ المصالح على حسابِ “القطيع”.