في مساءٍ كان يجب أن يكون خفيفًا، بسيطًا، عاديًا، كان عددٌ من تلاميذِ “الأونروا” يركضون خلف كرةِ القدم في ملعبٍ عامٍّ داخلَ مخيّمِ عينِ الحلوة. ملعبٌ لا يملك شيئًا من رفاهيةِ الملاعبِ الحديثة، لكنّه كان بالنسبةِ لهؤلاءِ الصبية مساحةَ حياةٍ، مساحةَ تنفّس، مساحةً يتذكّرُ فيها اللاجئُ أنّه طفلٌ قبل أن يكون ملفًّا سياسيًا. ثمّ وقعتِ الغارة. وتحوّل الملعبُ إلى حفرةٍ أعمقَ من الجرح. حفرةٌ كشفت أنّ التفويضَ الأمميّ، الذي امتدَّ للتوّ حتى منتصفِ عام 2029، لا يزال معلّقًا في الهواء، بينما الأطفال، الذين يُفترض أن يكونوا في صُلبِ هذا التفويض، معلّقون على حافةِ الخطر. أغلبُ الضحايا لم يبلغوا الثامنةَ عشرة. لكنّ “الأونروا”، المكلّفةُ قانونيًا بحمايتهم، لم تُصدرْ حتى اللحظة بيانًا واحدًا ينعى تلاميذها، أو يدين استهدافهم، أو يذكّر بحقوقهم الإنسانيّة الأساسية. المجزرةُ التي عَرَّت القانونَ الدوليّ من الناحيةِ القانونية، التفويضُ الممنوحُ لـ”الأونروا” يربطها بعددٍ من الالتزامات: حمايةُ القاصرين، تقديمُ الخدماتِ الأساسية، الدفاعُ عن حقوقِ اللاجئين، وتحمّلُ مسؤوليّةِ الإحالةِ الحقوقيّة في حال انتهاكِ سلامتهم. لكنّ ما حدثَ في عينِ الحلوة كشفَ فجوةً مخيفةً بين النصّ والواقع؛ أطفالٌ قُتلوا أثناء لعبِ كرةِ القدم، في ملعبٍ عامّ، ضمن منطقةٍ تعرف الوكالةُ هشاشتَها جيّدًا… ومع ذلك لم تتحرّك حتى على مستوى خطابٍ رسميّ. ليس هذا الغياب مجرّد “قصورٍ إعلاميّ”. إنّه إخفاقٌ قانونيّ، لأنّ الصمتَ في حالاتٍ كهذه يُعتبر انحرافًا عن المسؤوليّةِ الدوليةِ المُفوَّضة. والأخطر أنّه يخلق سابقةً: أن يموتَ طفلٌ لاجئ وهو تحت ولايةِ “الأونروا” دون أن يجد الوكيلُ الدوليّ مبرّرًا لتوثيقِ موته… أو لحمايته بعد رحيله. الأكثرُ إثارةً للدهشة أنّ المديرةَ العامة لـ”الأونروا” في لبنان لم تُقطَع زيارتُها إلى عمّان، ولم تُغيّر جدولَ ارتباطاتها، بل حضرت مأدبةَ عشاءٍ مع دبلوماسيّين عشيةَ المجزرة، وكأنّ المخيّم الذي تديره إدارتُها ليس جزءًا من مسؤوليّاتها المباشرة هشاشة الأونروا موتُ الأطفالِ في الملعب فعلٌ بلا احتمالاتٍ سياسيةٍ معقّدة: لم يكن هناك اشتباكاتٌ. لم يكن هناك مسلّحون. كان هناك كرة… ووجوهٌ تركض. لكنّ هذا المشهدَ البريءَ بالذات أظهر هشاشةَ “الأونروا”: انفصالها عن الميدان، افتقارها لمنظومةِ استجابة، غيابها عن مسؤوليّاتها الوقائيّة، وتردّدُها المزمن في ممارسةِ واجبها في “حمايةِ اللاجئ”، وهو الركنُ الذي بُنيت عليه الوكالةُ أصلًا. ما قيمةُ تجديدِ التفويضِ حتى 2029 إذا كانت الوكالةُ تتخلّى عن أبسطِ مظاهرِ الحماية — حتى حمايةِ الذاكرة؟ ولماذا يتجدّد التفويضُ لوكالةٍ لم تَعُد ترى الأطفالَ إلّا عندما يجلسون في الصفّ… وتغضّ النظر عندما يسقطون على أرضِ الملعب؟ مائدةٌ مُضاءَة وواقعٌ مُظلِم الأكثرُ إثارةً للدهشة أنّ المديرةَ العامة لـ”الأونروا” في لبنان لم تُقطَع زيارتُها إلى عمّان، ولم تُغيّر جدولَ ارتباطاتها، بل حضرت مأدبةَ عشاءٍ مع دبلوماسيّين عشيةَ المجزرة، وكأنّ المخيّم الذي تديره إدارتُها ليس جزءًا من مسؤوليّاتها المباشرة. بل خرجت، خلال الاجتماعاتِ نفسها، بموقفٍ يدعمُ مراجعةَ بلادِها للتمويلِ المخصّص لـ”الأونروا”، رغم حساسيّةِ اللحظة، ورغم إدراكها أنّ التمويلَ نفسَه هو صمّامُ الأمانِ الوحيد لبقاء الخدماتِ الأساسية. والأدهى أنّ هذه المراجعة ليست نابعةً من رؤيةٍ إصلاحيّة، بل من صراعٍ داخل المؤسسة مع المفوّضِ العامّ الحاليّ، الذي تطمحُ إلى أن تحلّ مكانه بعد انتهاء ولايته. وهكذا يصبح دمُ الأطفال — ولو رغمًا عن الجميع — عنصرًا في لعبةِ قوّةٍ داخلية: ضغطٌ سياسيّ، منافسةٌ على منصب، ومحاولةُ إعادةِ رسمِ النفوذِ داخل الوكالة. انهيارُ الحمايةِ وميلادُ صدعٍ أخلاقيّ المأساةُ هنا مزدوجة: سقوطُ الضحايا، وسقوطُ المؤسسة. فالوكالةُ التي أُسِّست لتكون مظلّةَ حمايةٍ باتت عاجزةً حتى عن إصدارِ بيانِ حماية. والوكالةُ التي خُصّص لها تفويضٌ دوليّ باتت تنظر إلى الأحداثِ الميدانية كأنّها أحداثٌ خارج نطاقِ عملها. والوكالةُ التي جُدّد لها العالمُ تفويضَها حتى 2029، تبدو اليوم وكأنها تحتاج إلى مراجعةٍ شاملة قبل أن تتسلّم عامًا إضافيًا واحدًا. إنّ صمتَ “الأونروا” أمام المجزرة ليس خطأً بروتوكوليًا.إنه فشلٌ في أداءِ جوهرِ وظيفتها.وهو فشلٌ يُلزِم المجتمعَ الدوليّ لا بزيادةِ الضغطِ على المخيّمات، بل بزيادةِ الضغط على الوكالة نفسها، حتى لا يتحوّل التفويضُ إلى مظلّةٍ بلا أعمدة. كان الأطفالُ يركضون خلف كرةٍ، لكنّ الكرةَ اصطدمت بالحقيقة قبل أن يصطدموا هم بالضربة: الحقيقةِ بأنّ الحمايةَ الدولية ليست في الملعب، والوكالةَ المكلّفة بها ليست في الميدان، والتفويضَ الذي يُمدَّد كل بضع سنوات لم يَعُد يتجاوز الورق. إذا كانت "الأونروا" غير قادرةٍ على حمايةِ طفلٍ أثناء لعبه، فكيف يمكن الوثوقُ بأنها قادرةٌ على حمايةِ مجتمعٍ كامل تحت القصفِ والفقرِ والتهجير؟ هنا يبرز السؤالُ الأكبر، السؤالُ الذي تخشاه الوكالةُ لكنّه أصبح حتميًا: هل بات اللاجئون بحاجةٍ إلى نظامِ حمايةٍ جديد… بعد أن أصبحت "الأونروا" خارج وظيفتها وخارج الملعب؟
يحق لكل صيداوي، ولكل ساكن في المدينة، بعد قراءة هذا المقال، التساؤل: لماذا يجب عليّ أن أدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف، بينما إخوان لي في الوطن على بعد أمتار قليلة مني، في ذات الجغرافيا، يعفون من ذلك؟ هذا التساؤل يجب أن يصل إلى نواب المدينة، وإلى القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحيّة فيها، لتكون صوتاً للمواطنين، وتنقل مطالبهم إلى الجهات المعنية، بما يمكّن من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع في الحقوق الواجبات. بتاريخ 14/8/2025 نُشِر في الجريدةِ الرسميّة تصحيحُ الخطأِ المادّيِّ الواردِ في القانونِ رقم 22 الصادرِ في 11 تمّوز 2025، بحيث أصبح النصُّ الجديد يُعفي جميعَ المكلّفين بدلَ المتضرّرين في قرى أقضية: حاصبيا، مرجعيون، بنت جبيل، جزّين وصور، من رسومِ الكهرباءِ للعام 2024، ومن رسومِ المياهِ والهاتفِ عن العام 2025. يحقّ لأهلِنا في تلك القرى والبلدات هذا الدعمُ، وأكثرُ بكثير، وهو أضعفُ الإيمان، ولا يُوازي جرحَ إصبعِ ولدٍ منكم. فهذه المناطق دفعت من دمّها وشبابِها واقتصادِها واستقرارِها أثمانًا باهظة جرّاء العدوان، وما زال أبناؤها يعيشون تحت وطأة التهجير والدمار والخوف. لكن، في قلبِ هذا المشهد، يبرز سؤالٌ أساسيّ: أليست صيدا عاصمةَ الجنوب الذي يضمّ كلّ تلك الأقضية؟ وإذا كانت عاصمةً إداريّةً وجغرافيّةً وسياسيّةً للجنوب، فلماذا تُستثنى من برامج الدعم، وكأنها مدينةٌ على هامش المشهد أو خارج خريطة الجنوب المتضرّر؟ المركزيةُ المقنّعة صيدا، التي شكّلت عبر تاريخها رئةَ الجنوب وممرّه وواجهتَه، كانت دائمًا أوّل المتلقّين لارتدادات أيّ توتّر أمني في الجنوب. اقتصادها يتأثّر، أسواقها تفرغ، مؤسساتها تنكمش، وقطاعاتها الإنتاجية تتضرّر بشكل مباشر. فالعدوان الذي يضرب الجنوب لا يمرّ “جغرافيًا” عبر حدود صيدا، بل يمرّ “اقتصاديًا” عبرها دائمًا. على الرغم من ذلك، يجد الصيداويون أنفسهم اليوم أمام معادلة غريبة: هم جزء لا يتجزّأ من الجنوب حين يتعلّق الأمر بالأعباء، لكنّهم خارج الجنوب حين يتعلّق الأمر بالدعم. الجنوب “يتّسع” ليشمل صيدا سياسيًا وانتخابيًا، لكنه “يضيق” عندما يدخل في حسابات الإعفاءات والمساعدات. تأثيرات اقتصادية مباشرة تُظهر الوقائع الميدانية أنّ صيدا لم تكن بمنأى عن ارتدادات الحرب:• حركة الناس من الجنوب إلى المدينة تراجعت بشدّة.• قطاع المطاعم والسوق التجاري تكبّد خسائر متواصلة. • السياحة الداخلية التي كانت تشكّل متنفسًا انعدمت.• مؤسسات صيدا الصحية والتربوية استقبلت أعدادًا كبيرة من النازحين من الجنوب، ما فرض أعباء إضافية.• الحركة اللوجستية والنقل بين المرفأ والمناطق الجنوبية شهدت اضطرابات وخسائر. ومع كل ذلك، يطلب من الصيداويين دفع فواتيرهم كاملة: كهرباء، مياه، هاتف… وكأنّ المدينة ليست جزءًا من دائرة الانهيار التي سبّبها العدوان، ولا نقطة تأثير اقتصادي أساسية في الجنوب بأكمله. أين تُرسم حدود “الجنوب”؟ القضية هنا لا تتعلّق بفاتورة ماء أو كهرباء فقط، بل بما هو أعمق: كيف تفكّر الدولة؟ وكيف ترسم أولوياتها؟ وما هي المعايير التي تُعتمد لتحديد من يستحق الدعم؟ إذا كانت صيدا تُعامل خارج إطار الجنوب، فهل هذا يعني أنها ليست عاصمة الجنوب فعليًا؟ أم أنّ هذا اللقب يُستخدم فقط عند الحاجة السياسية والانتخابية؟ وإذا كانت صيدا غير متضرّرة بنظر واضعي القانون، فهل زار أحد منهم أسواقها؟ هل سأل التجار؟ هل رصد الخسائر؟ هل تابع الأزمات الاجتماعية الناتجة عن تهجير آلاف العائلات عبرها وإليها؟ من حقّ القرى المتضرّرة الحصول على الإعفاء، بل يجب توسيع الدعم لها أضعافًا.لكن من حقّ الصيداوي أيضًا أن يسأل:• لماذا تُعامل صيدا كجزء من الجنوب عندما يتعلّق الأمر بالعبء، لا بالدعم؟• لماذا لا يُحتسب الضرر الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بها؟• ولماذا تُستثنى مدينة هي مركز كلّ الحركة الاقتصادية والصحية والاجتماعية للجنوب؟ صيدا ليست مدينة عابرة قد لا تكون الخطوط الأمامية قد وصلت إلى بابها، لكن ارتدادات الحرب وصلت إلى بيت كلّ صيداوي، ومحلّه، ومؤسسته، وجيبه. فإذا كان الجنوب وحدة واحدة في المأساة، فلماذا يصبح أجزاء منفصلة في الدعم؟ والسؤال يبقى معلّقًا… أيّ جنوبٍ هذا الذي تُخرج صيدا من حساباته حين يتعلّق الأمر بحقوق أبنائها؟
“البوست”- جنوب لبنان تُعدُّ محطات معالجة مياه الصرف الصحي من المشاريع الحيوية التي تعكس مدى التزام الدول بتحقيق التنمية المستدامة وحماية البيئة. في لبنان، تبرز قصتان متناقضتان تمامًا في هذا المجال، تجسدهما محطتا تكرير المياه في مدينتي صيدا والنبطية. ففي حين تمثل محطة النبطية نموذجًا واعدًا للمعالجة الحديثة والفعالة، تقف محطة صيدا كشاهد على الفشل الذريع والهدر المالي والبيئي. فشل مستمر منذ 2010 تم إنشاء محطة تكرير المياه في منطقة سينيق جنوب صيدا بهدف إنهاء الكارثة البيئية الناجمة عن صب مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر. بدأ تشغيل المحطة في عام 2010 بتمويل من الحكومة اليابانية على شكل قرض بقيمة 38 مليون دولار، بالإضافة إلى منحة بقيمة 300 ألف دولار لبدء التشغيل. إلا أن المحطة لم تعمل يومًا كما هو مخطط لها. فمنذ اللحظة الأولى، اقتصر عملها على فصل الحمأة عن السائل، دون أي معالجة حقيقية للمياه التي تُضخ في البحر عبر أنبوب يمتد لمسافة 1.8 كيلومتر، لقاء مليون دولار سنويًا للشركة المتعهدة. كشفت تقارير كثيرة عن فضائح بيئية وإدارية خطيرة. فبالإضافة إلى عدم فعاليتها، تم فتح “عبّارة” جانبية لتصريف المياه الملوثة مباشرة في البحر لتوفير تكاليف المازوت، ما أدى إلى تلوث الشاطئ وانتشار الروائح الكريهة. كما أن الحمأة الناتجة عن المعالجة الأولية تُرمى في بحيرة مجاورة للمحطة، ما يزيد من حجم الكارثة البيئية. ورغم أن تكلفة التشغيل السنوية تبلغ مليون دولار، إلا أن التكلفة الحقيقية لا تتجاوز 250 ألف دولار، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول الهدر المالي. النبطية: نموذج للمعالجة الحديثة على النقيض تمامًا، تمثل محطة معالجة الصرف الصحي في منطقة الشرقية بالنبطية قصة نجاح. تم تنفيذ المحطة بتمويل من البروتوكول الفرنسي وبأحدث المواصفات من قبل شركة OTV Veolia الفرنسية العالمية. تخدم المحطة حوالي 17 بلدة في قضاء النبطية، وتستوعب ما يصل إلى 10,900 متر مكعب من المياه يوميًا. تتميز المحطة بتقنيات معالجة ثانوية متقدمة، تشمل نظامًا لمعالجة الحمأة بالطرد المركزي والمعالجة بالكلس، ونظام تحكّم آلي (سكادا) للمراقبة والتشغيل. ورغم أنها واجهت بعض التحديات في البداية، حيث كانت تعمل بخط واحد من أصل خطين، خضعت لاحقًا لعمليات تأهيل وصيانة شاملة بتمويل من اليونيسف والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). نتيجة لهذه الجهود، أصبحت المحطة تنتج مياهًا معالجة صالحة للاستخدام في الصناعة وري الأشجار غير المثمرة. كما تم تأهيل محطة ضخ النميرية التي تضخ مياه الصرف الصحي من منطقة النبطية إلى محطة الشرقية، ما يضمن استمرارية عمل المنظومة بكفاءة عالية. درس من الواقع اللبناني يمثل الفارق الشاسع بين معملي صيدا والنبطية صورة مصغرة عن واقع المشاريع العامة في لبنان. ففي حين يثبت معمل النبطية أن النجاح ممكن عند توفر الإرادة السياسية، والخبرة التقنية، والرقابة الفعّالة، يكشف معمل صيدا عن عمق الفساد وسوء الإدارة الذي ينخر مؤسسات الدولة. إن قصة هذين المعملين يجب أن تكون درسًا للمستقبل، وحافزًا لمحاسبة المسؤولين عن هدر المال العام وتلويث البيئة، وتشجيعًا لتعميم التجارب الناجحة على كافة الأراضي اللبنانية.