في لبنان، لا شيءَ ينتهي فعلاً، بل يُعاد تدويرُه بأسماءٍ أنيقةٍ ووجوهٍ “نظيفة”.يطلّ علينا نواف سلام اليوم كرجل “الإصلاح” و”الشفافية”، يحمل في جيبه مشروعًا يُشبه بيانًا وزاريًا صاغته السفارة الأميركيّة، ويضع نصب عينيه مهمّة “تاريخيّة”: سحب سلاح حزب الله. أمّا الوعود بالمقابل؟ فسلامٌ سياسيّ شامل، مساعداتٌ ماليّة “محتملة”، وترشيح رمزيّ لجائزة نوبل للسلام، لأنّ العالم يُحبّ دائمًا أن يُكافئ من يُكافئ إسرائيل. منذ الحرب الأهليّة، كان لبنان حقلَ تجاربٍ للتطبيعِ المقنّع.اليوم، المشهدُ نفسُه يُعاد بنسخةٍ أكثر “دبلوماسيّة”: بدل القائد العسكري، لدينا قاضٍ دوليّ يبتسم أمام الكاميرا ويعدنا بـ”عصرٍ جديد بلا سلاح”. الفرق الوحيد أنّ التطبيعَ اليوم يُسوَّق على أنّه “سلامٌ شجاع”، لا “خيانةٌ صريحة”. أميركا تصنع الرموز ولبنان يُصفّق في واشنطن، يبدأ المشروع بجملة: “نريد وجهًا مقبولًا في بيروت”.فيُستخرج أحدُهم من أروقة القضاء الدولي، ويُعطى رتبة “رجل الدولة العاقل”، وتُرسَم له طريقٌ مفروشة بالتصريحات المتزنة. لكن خلف الكواليس، اللعبة أوضح من أن تُخفى: سحب سلاح حزب الله، تفكيك السلاح الفلسطيني في المخيمات، وتهيئة لبنان كمنصّة تطبيعٍ دبلوماسيّ هادئ. وما هو المقابل؟ صورٌ جميلة في نيويورك، تصفيقٌ في مجلس الأمن، وهمُ “الدولة السيّدة” التي لا تملك من السيادة إلّا بيانًا حكوميًا منمّقًا.أمّا الشعب، فله حصّتُه المعتادة من “الوعود الدوليّة”، ودرسٌ جديد في فنّ بيع الوطن بالتقسيط السياسي المريح. من غوتيريش إلى سلامهل يكون نواف سلام المرشّح القادم لخلافة أنطونيو غوتيريش؟ربما. فالغرب يُحبّ الوجوه التي تعرف كيف تتحدّث بلغة “الحقوق الدوليّة” بينما تبتسم للمصالح الأميركيّة.لكن “السلام” الذي يُعَدّ له في بيروت ليس سلامًا بين لبنان وإسرائيل، بل سلامًا بين لبنان ووصايتِه الجديدة.سلامٌ يُنتزع فيه السلاح لا لوقف الحرب، بل لوقف فكرة المقاومة.سلامٌ يُعاد فيه رسم المخيّمات الفلسطينيّة على طريقة “التنظيم المدني”، أي تفكيك آخر جيبٍ يحمل ذاكرة الكفاح.سلامٌ ينتهي بعبارةٍ منمّقة في الأمم المتحدة: “نحن في الشرق الأوسط الجديد”. قد يحصل نواف سلام على جائزة نوبل للسلام، وربما تُعلّق صورتُه في أروقة الأمم المتحدة، لكن لبنان سيبقى بلا كهرباء، بلا عدالة، وبلا كرامة. سيبقى “البلد الذي سلّم سلاحه قبل أن يسلّم فقره”، وصدّق أنّ واشنطن تمنح الجوائز لمن يُحبّ، لا لمن يخضع. والتاريخ، يا دولة الرئيس، لا ينسى مَن سلّم البندقيّة طوعًا ليكسب تصفيقةً عابرةً من عواصم القرار. قد يكتب عنك التاريخ يومًا: “هو الرجل الذي أراد أن يصنع السلام… فخسر البلاد”.
لم تقتصر زيارة وزير الصحّة ركان ناصر الدين، أواسط أيلول الماضي، إلى مدينة صيدا على مراكز الرعاية الصحيّة الأساسيّة الرسميّة في المدينة، والتي يتقاسمها قوى سياسيّة أساسيّة، بل زار أيضًا مستوصف الحسين المحسوب على قوّة سياسيّة محدّدة، لتأكيد المحاصصة السياسيّة التي تلتزم بها السلطة المركزيّة، تلك التي ترفع شعبويًّا شعار بناء “دولة المؤسّسات والقانون”، لا “دولة المحاصصات”. في مستشفى صيدا الحكومي قال ناصر الدين إنّ وزارته “ستحاول الالتزام بتسعيرة وزارة الصحّة في المستشفيات الحكوميّة، كي نطالب المستشفيات الخاصّة الالتزام بذلك”.ويبدو من كلامه أنّه يعلم بالمخالفات التي ترتكبها إدارة المستشفى حول فروقات الوزارة، لكنّ الحلول لا تأتي بالتمنّيات، بل بالمراقبة والمساءلة واستخدام سلطة الوصاية التي تملكها وزارة الصحّة على المستشفيات الحكوميّة. لكنّه، وكحال معظم الوزراء، يأخذ في الاعتبار قوى الأمر الواقع. وهذا لا ينطبق على صيدا فحسب، بل يشمل جميع المستشفيات الحكوميّة التي تخضع للزبائنيّة السياسيّة ومصالح الزعماء. اضطُرّت الإدارة إلى تنظيف الممرّات والغرف والأقسام، والتحضير الجدّي لاستقباله. لكنّها كلّفت البعض وقتًا طويلًا، خصوصًا يوم الجمعة في 19 أيلول الفائت، لتنظيف المعلومات والتدقيق فيها على الحاسوب عَضَّة كلب ومراقبة الأسعار أُصيب أحد المواطنين في صيدا بعضّة كلب، ودفع عند الجرعة الأولى 4,900,000 ل.ل.، وعند الجرعة الثانية دفع فقط 1,900,000 ل.ل. بعد اتّصال من أحد زعماء المدينة المستفيدين من الفساد المستشري في المستشفى.لا بدّ من توجيه الشكر لجهد الوزير في تأمين آلة MRI وCT Scan ومنظار العيون، لكن السؤال: كيف ستتمّ مراقبة الاستخدام والأسعار التي ستحصَّل من المرضى؟أما الوعد بتأمين 300 ألف دولار أميركي، فالسؤال يصبح: كيف ستُصرَف؟ نرجو أن تتحقّق أمنية مدير المستشفى الحكومي أحمد الصمدي بأنّ توفّر التجهيزات قد يدفع عددًا من الأطبّاء للعودة إلى المستشفى. لكن هذا الهدف يتناقض مع سياسة “تلزيم الأقسام والاختصاصات” في المستشفى المذكور. لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى ملاحظة الوزير حول خدمة أهالي مخيّم عين الحلوة، وكأنّه لا يعلم أنّ عددًا كبيرًا من المرضى اللبنانيّين يفضّلون التوجّه إلى مستشفى الهمشري التابع للهلال الأحمر الفلسطيني. وأنّ الخدمة الأساسيّة التي يستفيد منها أهالي عين الحلوة هي توفير مواقف لسيّاراتهم في موقف المستشفى… مع بدلٍ مدفوع طبعًا. رواتب وتباينات العاملون في المستشفى المذكور يقضون وقتًا طويلًا بانتظار نصف الراتب الشهري بحجّة “عدم وجود مال”، فيما أحد الموظّفين المرضيّ عنهم حصل على 270 ساعة إضافيّة وقبض أكثر من 50 مليون ل.ل. بدل عمل إضافي، بينما الكثير من العاملين لم يقبضوا حتى نصف الراتب.ويتقاضى أعضاء في مجلس الإدارة بدل حضور جلسات المجلس… وهم خارج لبنان! نعود ونشكر الوزير على اهتمامه بتأمين معدّات وتجهيزات، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أحد الموظّفين اقترح على الإدارة تأمين آلات الأوكسجين بالتقسيط، فيما فضّلت الإدارة شراء قارورات الأوكسجين من أحد المتعهّدين بكلفة تتراوح بين 1500 – 2000 دولار أسبوعيًّا. في المختبر وقسم الأشعّة هناك مشكلات قانونيّة بحاجة إلى حلول، كان لزيارة ناصر الدين إيجابيّة كبيرة، إذ اضطُرّت الإدارة إلى تنظيف الممرّات والغرف والأقسام، والتحضير الجدّي لاستقباله. لكنّها كلّفت البعض وقتًا طويلًا، خصوصًا يوم الجمعة في 19 أيلول الفائت، لتنظيف المعلومات والتدقيق فيها على الحاسوب… درءًا لأيّ تدقيق قد يحصل، و”حتماً لن يحصل”. من المسؤول؟ إنّ مسؤوليّة ما يحصل لا تتحمّلها إدارة المستشفى وحدها، بل يشاركها جميع المسؤولين الذين على علم بما يجري… وهم صامتون. أكتب هذا التقرير علّ الوزير ناصر الدين يطّلع عليه، مع قناعتي التامّة أنّه لن يتدخّل للتصحيح، شأنه شأن من سبقه من وزراء الصحّة، لأنّ نظام المحاصصة والاستفادة من المؤسّسات العامّة لخدمة الزعماء أقوى من القوانين. ولكن، هل تحصل مفاجأة؟ أستبعد ذلك.
كُلِّف الذكاء الاصطناعي بإدارة السلطة التنفيذيّة في لبنان؟ واستقال وزراء الحكومة لصالح حكومة من خوارزميّات؛ لا طائفة، لا حزب، ولا زعيم يوزِّع المناصب. وزير الأشغال برنامجٌ دقيق يوزِّع الحُفَر بالتساوي على الطرقات، ووزير التربية تطبيقٌ يُرسِل إشعارًا عند تحديث المناهج، أمّا وزير المالية فهو آلة لا تعرف المحسوبيّة، بل أرقامٌ صُلبة لا تُجامل أحدًا معيار النزاهة والحوكمة وفق مؤشّر مدركات الفساد (Transparency International)، يحتل لبنان المرتبة 154 من أصل 180 دولة عام 2024. وبينما السياسيّون يتبادلون الاتهامات، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يطبِّق الحياد التام ويضمن الشفافية المطلقة، حيث تصبح كلّ القرارات قابلة للتدقيق الرقمي، بلا محاصصة أو ولاء طائفي. المفارقة هنا أنّ آلة قد تكون أكثر نزاهة وإنسانيّة من حكومة بشريّة “تُراعي مصالح الطائفة قبل الوطن”. الكفاءة الاقتصاديّة: نموذج وزارة الماليّة لو أُسنِدت حقيبة الماليّة إلى وزير اصطناعي، فإنّه سيواجه دينًا عامًّا يقارب 97 مليار دولار (2025)، أي أكثر من 190% من الناتج المحلّي. في حين أنّ وزراء لبنان السابقين اشتهروا بدوران العجز كألعاب بهلوانيّة، سيعتمد الوزير الرقمي معايير صندوق النقد الدولي لإعادة الهيكلة، مع خطة لتقليص العجز إلى أقل من 3% خلال خمس سنوات. التهرّب الضريبي، الذي يُكلِّف الدولة نحو 5 مليارات دولار سنويًّا، لن يُحَلّ بالخطابات، بل بتقنيات تتبّع رقميّة مثل Blockchain. سعر الصرف، حيث تتعدّد الأسعار الرسميّة وغير الرسميّة، سيخضع لمنصّة موحّدة متوافقة مع بازل III للرقابة المصرفيّة. كما ستُدار السندات والأسواق الماليّة عبر تحليلات تنبؤية تقلّل خطر الانهيارات المفاجئة، بما يُذكِّر بفقاعات 2019. التحدّيات الواقعيّة لكن لبنان يحتل المرتبة 118 من أصل 140 دولة في مؤشر الجاهزيّة التكنولوجيّة (WEF)، ما يجعل استمرار حكومة إلكترونيّة في بلد يعاني من انقطاع الكهرباء والإنترنت يوميًّا، تحدّيًا كبيرًا. كما أنّ السيادة الوطنيّة تُطرَح هنا: هل يقبل اللبنانيّون إدارة ماليّة دولتهم بخوارزميّات مُطوّرة خارجيًّا؟ أمّا الطبقة السياسيّة التقليديّة فلن تسمح بتسليم السلطة لآلة تُحرِّر القرار من زعماء الطوائف. فجدار المقاومة ضدّ التغيير لن يكون تقنيًّا، بل سياسيًّا واجتماعيًّا. البعد القانوني والدستوري الدستور اللبناني (مادة 17) ينص على أنّ السلطة التنفيذيّة موكولة إلى مجلس الوزراء. إذا استُبدل الوزراء ببرمجيّات، يُطرَح السؤال: هل للذكاء الاصطناعي أهليّة دستوريّة؟ بعض الدول منحت الروبوتات جنسيّة رمزيّة، لكن الاعتراف بوزير إلكتروني لم يحدث بعد. الحكومة هنا تصبح مسرحيّة عبثيّة: لا تُستدعى للاستجواب، ولا تحتاج حصانة، ولا تغيب عن اجتماعات مجلس الوزراء بسبب عطلة طائفيّة. التوقّعات والتغييرات الإيجابيّات: قرارات خالية من الفساد والمحسوبيّة، سياسات اقتصاديّة شفافة، إدارة رشيدة للبيانات الضخمة، وقدرة على تخفيف الفقر الذي يطال أكثر من 80% من اللبنانيّين. السلبيّات: غياب الحسّ الإنساني، مخاطر القرصنة، وإقصاء القوى السياسيّة ممّا قد يولِّد صدامًا جديدًا، هذه المرّة بين البشر والآلة، لا بين الطوائف. لبنان بين وهم الآلة وحقيقة الإنسان قد تبدو حكومة الذكاء الاصطناعي في لبنان يوتوبيا رقميّة تُسقِط أوهام الفساد والمحاصصة، لكنها في النهاية مرآة للمجتمع. إذا ظلّ الإنسان أسيرًا ولاءاته الطائفية، فإن حتى الآلة قد تُستَغل لتكرار النمط القديم نفسه. قد تنجح في إدارة الماليّة والأرقام، لكنها ستقف عاجزة أمام السياسة الحقيقيّة، حيث لا خوارزمية قادرة على برمجة نزعة الزعامة أو تعطّش السلطة. في لبنان، تبدو الآلة أذكى من بعض البشر، لكنها لن تكون أعظم منهم إلا إذا غيَّر المجتمع قواعد اللعبة نفسها.