في السادس عشر من أيلول 1982، أُطلقت في بيروت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية كإطارٍ جامعٍ لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. أسّسها جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وجمعت تحت لوائها قوى حزبية وسياسية متنوّعة من يسارٍ قومي وقوميين سوريين وشخصيات مستقلة. خلال أشهرها الأولى وحدها، نفّذت الجبهة أكثر من 128 عملية عسكرية ضد قوات الاحتلال، لتشكّل بذلك النموذج الأبرز لمقاومةٍ عابرةٍ للطوائف، قبل أن تنزلق التجربة تدريجيّاً نحو الطابع الفئوي والمذهبي. بعد أكثر من أربعة عقود، تعود الذكرى لتثير نقاشاً واسعاً في لبنان حول جوهر المقاومة وأهدافها. وفي هذا السياق، برز موقف النائب أسامة سعد، ابن مدينة صيدا وعائلة المقاومة، الذي دعا إلى استعادة البُعد الوطني الجامع للمقاومة، بعيداً عن الاحتكار الطائفي أو الحزبي. إلا أنّ تصريحاته لم تمر بهدوء؛ إذ وُوجهت بحملات انتقاد حادّة، وصولاً إلى التخوين، وكأنّ التذكير بجذور المقاومة الوطنية بات خروجاً عن الصف. بالنسبة لأسامة سعد، ليست هذه المواقف ترفاً سياسياً. فالعائلة دفعت ثمناً باهظاً في مواجهة الاحتلال؛ إذ تعرّض شقيقه مصطفى سعد لمحاولة اغتيال إسرائيلية عام 1985 أودت بحياة ابنته ناتاشا وعددٍ من رفاقه. هذه التجربة جعلت من آل سعد رمزاً للتضحية الوطنية، ورسّخت لدى أسامة قناعةً بأن المقاومة إن لم تكن شاملة لجميع اللبنانيين، فإنها تفقد معناها ومشروعيتها. لكن استعادة هذا النقاش التاريخي تزامن مع ملف آخر لا يقلّ حساسية: السلاح الفلسطيني في المخيمات اللبنانية. فبحسب وكالة الأونروا، يعيش في لبنان نحو 200 ألف لاجئ فلسطيني، منهم ما يزيد على 75 ألفاً في مخيم عين الحلوة وحده، أكبر المخيمات وأكثرها توتراً. وقد شهد المخيم في صيف 2023 مواجهات دامية أسفرت عن 30 قتيلاً ومئات الجرحى، لتعيد إلى الواجهة إشكالية السلاح غير الشرعي ودوره في استقرار لبنان. برز موقف النائب أسامة سعد، ابن مدينة صيدا وعائلة المقاومة، الذي دعا إلى استعادة البُعد الوطني الجامع للمقاومة، بعيداً عن الاحتكار الطائفي أو الحزبي 80% من العمليات ضد الاحتلال بين 1982 و1985 شاركت فيها مجموعات لبنانية متعددة الانتماءات قبل أن ينكفئ المشهد لصالح فصيل بعينه السلاح الفلسطيني يطرح معادلةً معقدة: فهو بالنسبة إلى اللاجئين وسيلةُ دفاعٍ عن النفس ورمزُ صمودٍ في ظلّ غياب الحقوق المدنية، لكنه بالنسبة إلى الدولة اللبنانية تهديدٌ مباشرٌ لسيادتها ومرجعيتها الأمنية. تجارب السنوات الماضية أثبتت أن هذا السلاح قد يتحول بسرعة إلى أداة صراع داخلي، ما يجعل أي معالجة قاصرة عن البُعد السياسي والاجتماعي محكومةً بالفشل. تُظهر الإحصاءات أنّ نحو 80% من العمليات ضد الاحتلال بين 1982 و1985 شاركت فيها مجموعات لبنانية متعددة الانتماءات قبل أن ينكفئ المشهد لصالح فصيل بعينه. هذه الحقيقة تعزّز حجّة أسامة سعد في الدعوة إلى استعادة روح المقاومة الجامعة، كما تسلّط الضوء على المخاطر الكامنة في حصر المقاومة أو السلاح بيد طرف واحد، سواء كان طائفياً أو فئوياً أو مخيمياً. في بلدٍ يعاني من أعمق أزماته الاقتصادية والاجتماعية، حيث بلغ معدّل التضخّم السنوي أكثر من 200% عام 2023 وتجاوزت البطالة 36% وفق البنك الدولي، يصبح النقاش حول المقاومة والسلاح ليس مجرد جدل سياسي بل شرطاً وجودياً. لبنان لا يحتمل المزيد من الانقسامات المسلحة، ولا يستطيع في المقابل تجاهل المخاوف الفلسطينية من فقدان الحماية. الحل، بحسب العديد من الخبراء، يتطلّب خطةً ثلاثية الأبعاد: حصر السلاح بيد الدولة عبر آلية تدريجية تشارك فيها القوى الفلسطينية؛ توفير حقوق مدنية واجتماعية للاجئين كضمانةٍ لثقتهم؛ وضمان مظلّة عربية ودولية تواكب العملية وتمنع استغلالها في صراعات إقليمية. إنّ ما قاله أسامة سعد، في جوهره، ليس سوى إعادةَ تأكيدٍ لمبدأ بسيط: كل شبرٍ من الأرض اللبنانية يعني كل اللبنانيين، والمقاومة لا تستقيم إلا إذا كانت مشروعاً وطنياً مشتركاً. أمّا إذا استُخدمت كأداة احتكار أو ورقة مساومة، فإنها تتحوّل من درعٍ للوطن إلى عبءٍ يثقل كاهله.
لا يمكن لأيّ مُراقبٍ مُنصِفٍ أن يتجاهل الحضورَ الدينيَّ النابضَ في قلب مدينة صيدا. فالشواهدُ تتجلّى في كلِّ زاويةٍ، من حلقاتِ الذِّكر التي تَعمُرُ بها المساجدُ، إلى المهرجاناتِ القرآنيّة وتخريجِ أفواجِ حَفَظةِ كتابِ الله، وصولاً إلى مشهدِ صلاةِ الفجرِ التي تَكتظُّ بها بعضُ مساجدِ المدينةِ حتى أصبحتْ علامةً فارقةً لها. ولا يَغيبُ عن الذاكرةِ وهجُ “الحركةِ الأسيريّة” التي حوّلتْ منطقةَ “عبرا” إلى منارةٍ دعويّةٍ نشطة، قبل أن تنطفئ في أتونِ صراعٍ مأساويٍّ دفع ثمنَه شبابُ أهلِ السُّنّة، بعد اصطدامها بقوى من داخلِ البيتِ السُّنّي وخارجه، أبرزُها حزبُ الله وحركةُ أمل. سؤال الهُويّة الأكبر رغم كلِّ هذه المظاهر، يظلُّ السؤالُ الجوهريُّ قائمًا: هل صيدا مدينةٌ “إسلاميّة” بالمعنى الهُويّاتيّ الشامل؟ وهل نجح الإسلاميون في صبغِها بهذه الصبغة؟الجوابُ، بكلِّ وضوحٍ، هو: لا. صيدا ليست مدينةً إسلاميّة بالتعريفِ الصِّرف للهُويّة. هي مدينةٌ محافظةٌ يَغلُب عليها الطابعُ الدينيُّ السُّنّي، وهو ما يظهرُ جليًّا في الاحتفالاتِ وزينةِ الشوارع، التي لا يَكسِرُها إلا مناسباتٌ استثنائيّة كرأسِ السنة. لكنّ هذا الطابعَ المحافظ لم يُترجَم إلى هُويّةٍ إسلاميّةٍ راسخة. فلماذا هذا الإخفاق؟ يمكنُ إيجازُ الأسبابِ في ثلاثةِ محاورَ رئيسيّة: ضعفُ وغيابُ للرؤية يكمنُ الضعفُ الأبرزُ في غيابِ رؤيةٍ استراتيجيّةٍ موحّدة. فالتحرّكاتُ غالبًا ما تكونُ ردودَ فعلٍ متناثرةً تفتقرُ إلى الحكمةِ والجاذبيّة؛ فهُنا تُغلَقُ شوارعُ اعتراضًا على حفلٍ تحت شعار “صيدا لن ترقص”، وهناك تُستخدَمُ قضايا كبرى مثل غزّة كمتراسٍ دفاعيٍّ بدلًا من أن تكون منطلقًا للعملِ البنّاء. لو امتلك الإسلاميون قوّةَ التأثير الدعويّ، المبنيّ على بصيرةٍ ومحبّةٍ، لأصبحتْ مهرجاناتُ الآخرين مجرّدَ أصداءٍ باهتة. التجربةُ الشخصيّةُ تُثبت أنّ الجمهورَ مُتعطّشٌ للبديلِ الهادف؛ فقد تجاوز الحضورُ في مهرجانٍ رياضيٍّ وإنشاديٍّ أُقيمَ في قلبِ صيدا 2500 شخص، معظمُهم لم يكونوا من الملتزمين بالضرورة. هذا يُثبت أنّ الساحةَ خصبةٌ، لكنّها تحتاجُ إلى زارعٍ ماهر. إنّ ضعفَ التأثيرِ يترجمُ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، وهو رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض، ويَكشِفُ عن عجزٍ في تحويلِ التعاطفِ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ فاعلة. يترجم ضعفَ التأثيرِ نفسَه بوضوحٍ في صناديقِ الاقتراع، حيث لا يتجاوزُ رصيدُ الإسلاميين في الانتخاباتِ النيابيّة والبلديّة 3500 صوت، رقمٌ ضئيلٌ لا يَعكسُ حجمَهم الحقيقيَّ المُفترَض هيمنة العلمانية المشهدُ السياسيُّ السُّنّي في صيدا يخضعُ، للمفارقة، إلى هيمنةِ تيّاراتٍ علمانيّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الالتزامِ الدينيّ. فالمقعدان النيابيّان المخصّصان للطائفةِ تُسيطرُ عليهما أحزابٌ تتراوحُ بين العلمانيّة الليبراليّة، واليساريّة، والبعثيّة. في أفضلِ الأحوال، قد نجدُ سياسيًّا يُصلّي ويصوم، ولكنّه يتبعُ نهجًا انتقائيًّا يَغلُب عليه الطابعُ الشكليّ، حيث يُنظرُ إلى الدعوةِ للعودةِ إلى الكتابِ والسُّنّة على أنّها “رجعيّة”. هذا التباينُ العميقُ ألقى بظلالِه على الحركاتِ الإسلاميّة نفسها، التي انقسمتْ وتشرذمتْ في خياراتِها السياسيّة، كما ظهرَ جليًّا في الانتخاباتِ البلديّة الأخيرة، ممّا أكّد أنّ النماذجَ الملتزمة ليستْ هي القاطرةَ التي تقودُ المشهد. فراغُ المرجعيّة وتوظيفُ الدين تُعاني صيدا من غيابِ مرجعيّةٍ دينيّةٍ حقيقيّةٍ ومستقلّة. فغالبيةُ المشايخِ موظّفون ضمن “دار الفتوى”، وهي مؤسّسةٌ رسميّة تتبعُ دولةً لا ينصُّ دستورُها على هُويّتِها الإسلاميّة، بل يَعترفُ ويُقنّن مؤسّساتٍ تتناقضُ مع أبسطِ مبادئِ الدين. يُضافُ إلى ذلك، أنّ بعضَ حاملي الرسالةِ الدينيّة يفتقرون إلى العمقِ العلميّ والتأهيلِ الكافي، ممّا يُضعفُ من قدرتِهم على التأثيرِ والإقناع. وفي ظلّ غيابِ المرجعيّاتِ الراسخة التي كانت تُمثّلُها الأجيالُ السابقة، ظهرتْ “أشباهُ مرجعيّات” باتتْ تدورُ في فلكِ رجالِ المالِ والسياسة، وتُصدِرُ فتاوى تُرضي أهواءَهم طمعًا في مكاسبَ دنيويّة، ممّا أفرغَ الخطابَ الدينيَّ من مصداقيّتِه. المواجهةُ تبدأ من الذات قبل أن تُوجّهوا اللومَ إلى الناشطِ العَلمانيّ، أو المناضلِ اليساريّ، أو المستثمرِ في الفنِّ الهابط، أو حتى “المُستشيخ” الذي يطرقُ أبوابَ السلطة، عليكم أن تتوقّفوا وتلوموا أنفسَكم. فالعِلّةُ تكمُنُ في تقصيرِكم عن ترتيبِ البيتِ الداخليّ، وفي استغلالِ الدينِ لمصالحَ شخصيّةٍ ضيّقة. الطريقُ نحو التغيير طويلٌ وشاقّ، ولا يمكن أن يبدأ إلا بخطوتين متلازمتين: الإيمانُ والعمل. الإيمانُ يتجذّرُ بالوعيِ العقائديّ الصحيح، والعملُ يتجسّدُ في تقديمِ نماذجَ قياديّةٍ مُلهِمة وتطبيقٍ عمليٍّ على أرضِ الواقع. لن تتغيّرَ صيدا بين ليلةٍ وضحاها، بل بالصبرِ والعملِ الدؤوبِ وتقوى الله. حينها فقط، قد ترتدي المدينةُ "تاجَ الوقار" الذي تتمنّونه، وتتشكلُ الهُويّةُ التي تسعونَ إليها.
في حادثةٍ تُضاهي مشاهدَ الكوميديا السوداء في المدينة، تَعرّض أحدُ “المشايخ” المنتسبين لواحدة من العائلات الصيداوية الكبيرة، المَعروف بولائه التاريخي لخطّ الممانعة، إلى سرقةٍ مُدوِّية طالت هذه المرّة… حِذاءه! وذلك من أمام المسجد الذي يُؤمُّهُ لصلاة الجمعة. المصادرُ المَحلِّيّة رَبَطت بين الحادثة و”العَصر المالي” الذي يعيشه الشيخُ منذ أن جفّت “حنفيّة” حزب الله التي كانت تُغدِق عليه سابقًا بالدعم والبركات. ومع توقُّف هذه “المكرُمات”، تراجَع عددُ المرافِقين، وفرغت سياراتُ المواكبةُ الواحدة تِلوَ الأُخرى، حتى بات الشيخُ يقفُ أمام المسجد مُجرَّدًا إلّا مِن خُطبه الرنّانة… وصُبّاطه المفقود. المُفارقة أنَّ البعضَ اعتبر الحادثة “رسالة رمزيّة” من الشارع الصيداوي لهذه الشخصية: فحين تُختَزَل الممانعةُ في حذاء، يكفي أن يختفي الصُّبّاط… لتنكشِف القُدسيّة!