في بلدٍ تداخلت فيه الولاءات، حتى صارت السيادة وجهةَ نظر، يقبع خلف القضبان رجلٌ لم يرتكب جريمة، بل رفع صوته دفاعًا عن الدولة حين صمت الجميع.الشيخ أحمد الأسير، الذي أمضى 13 عامًا في السجن، لم يكن متمرّدًا على الوطن، بل مدافعًا عنه. طالب بأن يكون السلاح بيد الجيش لا بيد حزب الله، وأن تكون الدولة مرجع الطوائف لا خاضعةً لها، وأن تكون العدالة ميزان الجميع لا أداة أحد.فكان جزاؤه السجن، لا لأن القانون أدانه، بل لأن الآخرين خافوا من كلمته، والدولة عجزت عن حمايته البراءة جريمة لم يعد السؤال اليوم: هل الأسير بريء؟ فبراءته واضحة كالشمس، مدعومة بالأدلة الصوتية والمرئية، وبالشهادات التي تنسف كلّ التهم المعلّبة. لكن المفارقة أنّه كلّما ازدادت براءته وضوحًا، ازدادت «المنظومة» إصرارًا على إبقائه في السجن.كلّ دليلٍ جديد يُقابَل بتعتيمٍ إعلاميّ أو بتغاضٍ قضائيّ، وكأنّ السلطة تخشى الحقيقة أكثر ممّا تخشى الخطأ. فالاعتراف ببراءته يعني عمليًا إدانة شبكةٍ كاملة من التحالفات التي حكمت لبنان بالولاء والترهيب لعقود. لكن الأهمّ أنّ الدفاع عن هذا الأسير ليس دفاعًا عن شخص، بل عن الدولة اللبنانية ذاتها.فإحقاق العدالة في قضيته هو دفاع عمّا تبقّى من مؤسساتها الحقيقية، عن القضاء الحرّ، والجيش الوطني، والإدارات التي لم تخضع بعد. تحريره ليس انتصارًا لفرد، بل خطوة أولى لاستعادة الدولة من قبضة من صادرها. عبرا… الحقائق التي سُحِقَت أُريد لأحداث عبرا أن تكون بداية الحكاية ونهايتها، لكنّها في الحقيقة كانت غطاءً لتصفية صوتٍ وطنيّ أكثر منها محاكمةً لحدثٍ أمنيّ. فكلّ الأدلة اللاحقة أظهرت أنّ ما جرى كان سياسيًا بامتياز: حزبٌ أراد أن يُخضع كلّ من يعارضه، ودولةٌ وافقت بالصمت. لكن الخطأ الحقيقي لم يكن في المحاكمة وحدها، بل فيما سبقها: في السماح لحزب الله بأن يتجاوز الدولة، ويقرّر متى تُستَخدم القوّة، ومتى يُعفى عنها.يومها بدأت معركة السيادة الحقيقية، بين دولةٍ تحاول أن تكون، وحزبٍ يرى في وجودها تهديدًا لسلطته. قضية الأسير تختصر مأساة لبنان كلّها: دولةٌ خضعت، وشعبٌ خاف، ومنظومةٌ استبدلت القانون بالولاء. لكنها تفتح أيضًا باب الأمل بأنّ العدالة يمكن أن تكون بداية الخلاص هل أخطأنا؟ على مدى أكثر من ثلاثة عقود، تمدّد الحزب في مفاصل الدولة. من الوزارات إلى البلديات، من المرافئ إلى الجمارك، من القضاء إلى الإعلام، بنى شبكةً كاملة من الولاءات. تحت شعار «المقاومة»، أدخل رجاله إلى كلّ إدارة ومؤسسة، حتى تفاصيل الحياة اليومية خضعت لسلطته.حتى الجمعيات، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، صارت جزءًا من اقتصاده الموازي. بهذا التغلغل، تحوّلت الدولة إلى واجهةٍ إدارية لسلطةٍ حزبية فعلية. فهل أخطأنا وقتها؟هل أخطأنا حين سكتنا عن الاغتيالات؟هل أخطأنا حين قبلنا أن يدير الحزب المرفأ والحدود والمعابر؟هل أخطأنا حين تجاهلنا الفساد المُغلَّف بالقداسة؟والأهمّ، هل أخطأنا عندما تركنا قرار السِّلم والحرب له بدلًا من الدولة الوطنية؟ لقد خسرنا الدولة يوم خِفنا من مواجهته، وتركنا الأسير وحده يجابه سطوته.الأسير لم يطالب بإلغاء أحد، بل بدولةٍ تضمن للجميع حرية المعتقد والانتماء، ضمن إطارٍ واحد هو الدستور. رؤيته كانت وطنية خالصة: أن تتساوى الطوائف أمام الدولة، لا أن تتصارع تحت وصاية الأحزاب. لكنّه بذلك مسّ جوهر الصراع القائم. فالحزب الذي طوّع الجيش والقضاء والإدارة لمصلحته، لا يمكن أن يقبل بمعادلةٍ تُعيد الدولة إلى موقعها الطبيعي.لذلك لم يكن سجنه إجراءً قانونيًا صرفًا، بل قرارًا سياسيًا لحماية منطق القوّة على حساب منطق العدالة. إدارة الصورة وجوهر الحقيقة في هذا السياق، من المهمّ التمييز بين إدارة الصورة وجوهر الحقيقة.فالأولى تهدف إلى التحكّم في نظرة الناس إلى المؤسسات عبر تلميع المشهد بدل تصحيح الواقع، بينما الثانية تُعنى بمصارحة الرأي العام بالحقيقة مهما كانت قاسية. وهنا تبرز مقابلة العميد شامل روكز الأخيرة مثالًا واضحًا على ذلك. فقد حاول إعادة تلميع صورة الجيش والمغاوير، نافيًا أي تنسيقٍ أمنيّ بين مجموعته والحزب، رغم وجود فيديوهات ووثائق تُثبت العكس.تحدّث عن رفض ضرب المسجد «احترامًا للطوائف»، ليبدو حريصًا على الحسّ الوطني، بينما تشير التقارير إلى أنّه أقفل هاتفه واتّخذ قرار الحسم العسكري دون أن يسمع من أحد. كلّ هذه الأقوال تقع في خانة إدارة الصورة، أي تحسين الانطباع لا تصحيح الحدث.هي محاولة لتجميل الماضي بدل مواجهته، ولتثبيت الثقة بالمظهر بدل بنائها على الجوهر.لكن حماية المؤسسة لا تكون بالتبرير، بل بالشفافية، ولا باستبدال الحقيقة بروايةٍ منمّقة.فمن يخطئ داخل المؤسسة لا يُعبّر عن الدولة، بل عن نقيضها. فكيف تُبرّئ الدولة دون أن تُدين نفسها؟ العدالة والبراءة اليوم تواجه الدولة اللبنانية مأزقًا مزدوجًا: كيف تُبرّئه من دون أن تعترف بأنّ مؤسساتها ظلمته؟ وكيف تخرج من هذا الملف من دون أن تُدين نفسها وتُسقط ما تبقّى من هيبتها؟ هل من الممكن أن يكون الحلّ، لا في تجاهل القضية، بل في الاعتراف البنيوي؟ هل من الممكن أن تقول الدولة إنّ الخلل كان في بنيتها آنذاك؟ في عدالةٍ مُسَيَّسة، وقضاءٍ خاضع، وأمنٍ مُخترق؟ هل تستطيع أن تُعلن أنّ ما جرى لم يكن خطأً فرديًا، بل نتيجة منظومةٍ سمحت للحزب أن يُمسك بالدولة من عنقها، وهي اليوم تقاوم سلاحه؟ تحقيق العدالة في قضية الشيخ أحمد الأسير طال أكثر ممّا تحتمل العدالة نفسها.فالعدالة لا يمكن أن تبقى وعدًا مؤجّلًا. 13 سنة قضاها في السجن ليست ثمنًا يُعادِل الظلم.فالبراءة تُنصف الفرد، لكن العدالة تُنقذ الوطن، وهي وحدها القادرة على كسر الدائرة التي حوّلت الدولة إلى رهينة، وعلى محاسبة من أمر، ومن نفّذ، ومن تستّر.فالحرية من دون مساءلة تُكرّر الجريمة، والمسامحة من دون اعترافٍ تُعيد إنتاج الظلم. الاتّجاه الدولي الجديد لم تعد هذه القضية لبنانية فحسب. فالعالم من حولنا يتّجه اليوم نحو منطق الدولة لا الميليشيا، نحو مبدأ السلاح الواحد الشرعي، ورفض أي «مقاومة» خارج القانون.من العراق إلى اليمن، ومن السودان إلى غزّة، أصبحت الرسالة واضحة: لا استقرار بلا سيادة، ولا سيادة بلا احتكارٍ شرعيٍّ للقوّة. ما دعا إليه الأسير منذ سنوات هو اليوم التوجّه العام للقوى الإقليمية والدولية: سلامٌ داخلي يتيح الاختلاف، لكن تحت سقفٍ واحد هو الدولة، لا خارجها. قضية الأسير تختصر مأساة لبنان كلّها: دولةٌ خضعت، وشعبٌ خاف، ومنظومةٌ استبدلت القانون بالولاء. لكنها تفتح أيضًا باب الأمل بأنّ العدالة يمكن أن تكون بداية الخلاص.لقد احتكر «الحزب» لسنوات كلمة «المقاومة»، لكن الحقيقة أنّ العدالة وحدها هي المقاومة: مقاومة الفساد، ومقاومة الخوف، ومقاومة التبعية. من يطالب اليوم بإنصاف الأسير لا يطلب حكمًا قضائيًا فحسب، بل يطالب بعودة الدولة اللبنانية إلى نفسها: دولة لا تخاف من الحقيقة، ولا تساوم على السيادة، ولا تسجن أبناءها لأنهم أحبّوها أكثر ممّا يحتمل الطغاة.
“منذُ أيّام، خُضتُ حوارًا عفويًّا ودودًا مع سيّدةٍ مارونيّةٍ من أهل المتن، خطّت سنوها الـ 77 عامًا.الكلامُ الذي كان يفيض محبّةً وانسجامًا مع امرأةٍ مفعمةٍ بحبّ الحياة وتقدير الجمال والفرح، لم تنجح السنواتُ الصِّعاب التي عاشتها في ثنيها عن الاهتمام بحُسن مظهرها الخارجي، كما روحها. للسيّدة ابنتان متزوّجتان، واحدة من رجلٍ سنّي، والأخرى من شيعي. تجربتها طويلة مع الإسلام، فهي تعرف عنه الكثير بحكم مآل حياتها، ومع ذلك تسألني بفضولٍ حين تعلم بأنني صحافي «صحيح إنّو الجولاني حيفوت عَ لبنان مع جماعتو؟» وتتابع «لازم نتوحّد كلّنا ضدّه، إسلام ومسيحيّة. ما بحب هالمناظر يا الله»، وتشير بيدها نحو ذقنها نزولًا للدلالة على اللحية الطويلة. #### ما قالته المرأة بعفويّةٍ صادقة، قد يكون حال مئات الملايين حول العالم، تجاه “شكل” الإسلام بدايةً، ومن ثم “مضمونه” تاليًا.هل مشكلة “الآخر” مع الإسلام في الشكل أم في المضمون؟ أم في كليهما؟ سؤالٌ كبيرٌ حقًّا. و“الآخر” هنا ليس بالضرورة أن يكون غير مسلم. الريبةُ ممّا لا يشبهك وتجهله، مصحوبةٌ بتنميطٍ عن فكرةٍ مُكرّسةٍ في الأذهان والممارسات، تخلق حاجزًا من الخوف يصبح من الصعب إزالته. أمس، كان الجميع أمام امتحانٍ من هذا النوع فرضته صورةُ هاتفٍ صودف أنّها كانت في المكان. إنّها المرّة الأولى التي نرى فيها الشيخ أحمد الأسير خارج “كادر” السجن. بيننا، في شارع عام. آخر مرّةٍ له وسط مشهدٍ مدني كانت في غرفةٍ في مطار بيروت. أعطت الصورةُ المُسرَّبة عند مدخل مستشفى المقاصد في بيروت أبعادًا من عوالم أخرى. خلقت حيّزًا مختلفًا لكلٍّ منّا كي يرى مرغماً من خلال الهامة المنتصبة في تلك العباءة البنيّة، وهيبة الشيبة التي بيّضتها السنين. كم هو غريبٌ هذا “الأسير”، وكلّ ما يتعلّق به. حتّى بعد سنوات التهميش والإقصاء والتشويه والظلم والتنكيل، يبقى حاضرًا رغم كلّ محاولات الطمس والنسيان.الصورة واحدة، لكنّ كلًّا رآها كما يريد ويدرك. شيءٌ يشبه ما يُشاع عن لوحة “الموناليزا”، وكيف أنّك تراها مرّةً مبتسمةً ومرّةً حزينة، بحسب حالتك النفسيّة. #### من الوسائل الناجحة المعتمدة في علم النفس السريري مجابهةُ المخاوف التي يعاني منها المريض، لا الهروبُ منها. مصطلح “التروما” ذائعُ التداول اليوم، يُكرّس مبدأ العلاج بأن تقذف نفسك في قلب المشكلة للخلاص منها ومن ذيولها وتداعياتها. أن تصنع صورةً لرجلٍ يسعى الكثيرون لنسيانه، كلّ هذه “التروما”، حينها يصبح الشيخ الأسير كعلاجٍ نفسيٍّ ضرورة للكثير من اللبنانيين وغيرهم. وحدة قياس تجاه منظومة من القيم والمفاهيم الكبرى. إعرف نفسك، بحسب ما شعرت، خزي؟ لا مبالاة؟ شماتة؟ عجز؟ نقمة؟ كره… ومع كل هذه الأحاسيس، تُكرّس الصورة نفسها واقعًا لا مفرّ منه. فإمّا أن تتقبّلها كوجودٍ حقيقي، وإمّا أن تتغافل عنها موهومًا بأنّها لن تكمل المسار. لكن جوهر الأمر فليس عند الأسير، بل عند ربّه. ترى كم سيجارة “ميريت” إضافيّة دخّن المفتي دريان حين شاهد صورة “عالِم” من زمانه يُقاد بالأصفاد في شارعٍ لا يبعد عن بيته إلّا أمتارًا معدودة؟ ماذا قال في نفسه؟ هل توقّف أصلًا عند المشهد، أم مرّ عليه وكأنّه حدثٌ عابر لا يحتمل كثيرًا من “ضجيجكم”؟ يقتل الكثيرَ منّا الفضولُ لنعرف بما شعر به جوزيف عون، أو نوّاف سلام، أو حتّى نعيم قاسم، وغيرهم من السياسيّين ورجالات ونساء الشأن العام، حين وصلتْهم صورةُ الأسير الجديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو “الواتساب”… #### في عالم الألوان، يستخرج “الزيتي” من “البنّي”، والقميص الفريد الذي يُحتفَل به في الذكرى الأولى لسقوط الطاغية، تحتويه العباءة مهما عظُم. أمس، كُنّا نحن الأسرى أيّها الأسير… وكنتَ أنت الحسينيَّ الوحيدَ بيننا.
توقّفَ مصدرٌ سياسيٌّ صيداويٌّ مُتابِع، في إحدى اللقاءاتِ الجامعةِ التي انعقدَت أخيرًا على مستوى المدينة، عندَ التظاهرةِ الشعبيّةِ الحاشدةِ التي نظّمَها أنصارُ الشيخِ أحمدَ الأسير منذ أيّامٍ عندَ دُوّارِ إيليّا، للمطالبةِ بإقرارِ العفوِ العامِّ عن الموقوفينَ في هذا الملفِّ وإطلاقِ سراحِهم. وقالَ المصدرُ إنّ “ظاهرةَ الشيخِ الأسير”، على الرغمِ من كلِّ التنكيلِ والتشويهِ اللذينِ تعرّضت لهما خلالَ السنواتِ الماضيةِ بهدفِ شيطنتِها وطمسِها، إلّا أنّها أظهرت أنّها باقيةٌ ومستمرةٌ، بل وتتنامى في الأوساطِ الصيداوية، خاصّةً بعدما أظهرتِ الفيديوهاتُ التي تمَّ نشرُها في الآونةِ الأخيرةِ حقيقةَ الافتراءِ والكذبِ الذي شهدتهُ أحداثُ عبرا، ومشاركةُ حزبِ الله وسرايا المقاومةِ في المعركةِ دونَ أن تتمَّ مساءلتُهم في محاكمةٍ عادلةٍ، وصوابيّةُ الخطابِ الذي كانَ يقولهُ الرجلُ، وأثبتهُتْهُ الأيّامُ وتبنّاهُ لبنانُ “العهدُ الجديد” رسميًّا. وأكّدَ المصدرُ أنّ عددَ المشاركينَ الذي شهدهُ الحشدُ لا يمكنُ اعتبارُهُ مشهدًا عابرًا في المدينة، في وقتٍ قد تعجزُ بعضُ القوى السياسيّةِ الفاعلةِ عن حشدِ مثلِهِ في مثلِ هذه الظروف. وأنّ عددَ المشاركينَ وإنْ كانَ مُؤشِّرًا، إلّا أنّ دلالتَهُ تكمنُ في التأثيرِ الأعمّ. لافتًا إلى أنّ هناكَ مصلحةً مشتركةً من قبلِ القوى السياسيّةِ الصيداويةِ لإبقاءِ ملفِّ الشيخِ الأسيرِ مُغلَقًا، خوفًا من أن خروجَه قد يغيّرَ في حساباتِ هذه القوى بالنسبةِ لمجرياتِ المعركةِ الانتخابيةِ المقبلة، وهو السببُ الذي يُفسِّرُ عدمَ إقدامِ هذه القوى على التطرّقِ لهذا الأمرِ بعد كلِّ ما ظهرَ فيه.