زيارةٌ في توقيتٍ لا يحتملُ الغياب يصلُ إلى بيروت رئيسُ جهازِ المخابراتِ العامّةِ المصرية اللواء حسن رشاد، في زيارةٍ تحملُ دلالاتٍ سياسيةً وأمنيةً عميقةً، في لحظةٍ يتأرجحُ فيها لبنان بين احتمالِ الحربِ الشاملةِ ورهانِ الوساطات. الزيارةُ التي تأتي في إطارِ التنسيقِ الأمنيِّ والسياسيِّ بين القاهرةِ وبيروت، كما أكّد السفيرُ المصريُّ في لبنان، ليست حدثًا بروتوكوليًّا فحسب، بل رسالةٌ من مصرَ إلى المنطقة: أنَّ الغيابَ الطويلَ انتهى، وأنَّ القاهرةَ تعودُ إلى خطوطِ التماسِّ الإقليميِّ كـوسيطٍ نزيهٍ وفاعلٍ، يُوازِنُ بين العقلانيةِ والمصلحةِ العربية. وتأتي زيارةُ اللواء رشاد إلى بيروت في هذا السياق، لتُعيدَ تفعيلَ قنواتِ التواصلِ المصري–اللبناني، وتضعَ مصرَ في موقعِ الوسيطِ الضامنِ لاستقرارِ لبنان ومنعِ انزلاقِه إلى الحرب. تُدركُ القاهرةُ أنَّ أيَّ تفجّرٍ عسكريٍّ على الحدودِ الجنوبية سيُهدّدُ الأمنَ الإقليميَّ بأكمله، ولذلك تُصرّ على دعمِ مبدأِ حصريةِ السلاحِ بيدِ الدولةِ اللبنانية، وهو ما يتوافقُ مع القراراتِ الدوليّةِ والاتجاهِ العربيِّ العامّ. “وتشيرُ مصادرُ دبلوماسيةٌ مطّلعةٌ لصحيفة “البوست إلى أنَّ اللواء رشاد يحملُ رسائلَ عربيّةً ودوليّةً حسّاسةً إلى القيادةِ اللبنانية، تتمحورُ حولَ آلياتِ خفضِ التصعيدِ وضمانِ الالتزامِ بالقرار 1701، وربّما بحثَ إمكانيّةِ دورٍ مصريٍّ مباشرٍ في الوساطةِ بين بيروت وتل أبيب. البلدُ بين معادلتين يأتي التحرّكُ المصريُّ في وقتٍ يشهدُ فيه لبنان انقسامًا حادًّا بين من يدعون إلى احتكارِ السلاحِ بيدِ الدولة، ومن يرون أنَّ المقاومةَ تبقى “ضرورةً دفاعيّة”. في ظلِّ هذا التناقضِ البنيويّ، تلعبُ القاهرةُ دورًا مزدوجًا: فهي تدعمُ الشرعيةَ اللبنانيةَ ومؤسّساتِها، وفي الوقتِ ذاته تُدركُ حساسيةَ التوازنِ الطائفيِّ والسياسيِّ في البلاد، فلا تتدخّلُ إلّا بما يضمنُ الاستقرارَ من دون المساسِ بالسيادة. تُذكّرُ هذه المقاربةُ الواقعيةُ بالدبلوماسيةِ المصريةِ في عهد حسني مبارك، التي اتّسمت بـ”الهدوء المتحكَّم”، القادرةِ على جمعِ الفرقاءِ من دون افتعالِ ضوضاءٍ إعلاميّة. فمصرُ لا تسعى إلى فرضِ أجندة، بل إلى إعادةِ هندسةِ التوازناتِ بما يجنّبُ المنطقةَ انفجارًا جديدًا، خصوصًا أنَّ حربًا في لبنان اليوم ستُشعلُ النيرانَ على أكثرَ من جبهة، وتُربكُ معادلاتِ البحرِ الأحمرِ وغزّة وسوريا والعراق. ليست عودةُ مصرَ إلى بيروت حدثًا معزولًا، بل جزءًا من تحوّلٍ استراتيجيٍّ في الرؤيةِ المصريةِ الجديدةِ للشرقِ الأوسط. تعي القاهرةُ أنَّ النظامَ الإقليميَّ يعيشُ مرحلةَ تفكّك، وأنَّ غيابَ الدورِ العربيِّ تركَ فراغًا ملأته قوى غيرُ عربيّةٍ — من إيران إلى تركيا وإسرائيل. لذلك تعملُ مصرُ على استعادةِ زمامِ المبادرةِ العربية، عبر وساطاتٍ متوازنةٍ في لبنان وغزّة والسودان، تُعيدُ للعربِ حضورَهم كطرفٍ صانعٍ للتسوياتِ لا متفرّجٍ عليها. ويُدركُ المراقبون أنَّ جهازَ المخابراتِ العامّةِ المصريةِ أصبحَ الذراعَ التنفيذيةَ لهذه الدبلوماسيةِ الهادئة؛ فهو يتحرّكُ بين العواصمِ بخبرةٍ أمنيّةٍ وسياسيةٍ تسمحُ له بفهمِ المشهدِ من الداخل، بعيدًا عن الشعارات، وقريبًا من الواقعِ الميدانيِّ والإنسانيِّ معًا. يُعبّرُ التحرّكُ المصريُّ في لبنان عن رؤيةٍ عربيةٍ متكاملةٍ: أنَّ تثبيتَ السِّلمِ الأهليِّ مقدَّمٌ على أيِّ حساباتٍ سياسيةٍ أو فصائليةٍ، وأنَّ استقرارَ لبنان هو شرطٌ لاستقرارِ المشرقِ كلِّه.لا تُقدّمُ القاهرةُ اليوم نصائحَ فحسب، بل تعرضُ شراكةً استراتيجيةً لبيروت في إعادةِ بناءِ مؤسّساتِ الدولة وتعزيزِ التعاونِ الأمنيّ، بما يضمنُ تطبيقَ القوانينِ الدولية وتحييدَ البلادِ عن صراعاتِ المحاور. حينَ تصمتُ البنادقُ ويعلو صوتُ الدولة في زمنٍ تتسابقُ فيه القوى الإقليميّةُ على النفوذ، تُذكّرُ مصرُ الجميعَ بأنَّ النفوذَ الحقيقيَّ هو في القدرةِ على تهدئةِ النار لا إشعالِها، وفي أنْ تُسمَعَ كلمتُها في كلِّ أزمةٍ دون أن تُطلِقَ رصاصةً واحدة. من عبد الناصر إلى السادات، ومن مفاوضاتِ غزّة إلى زياراتِ بيروت، يبقى الدورُ المصريُّ وترًا ثابتًا في لحنِ الشرقِ الأوسطِ المتقلّب. لا تعودُ القاهرةُ إلى الساحةِ باندفاعٍ إعلاميٍّ، بل بخبرةِ التاريخِ ومراكمةِ الثقة، وبقناعةٍ أنَّ الشرقَ الأوسطَ لا يُدارُ بالصراخ، بل بالعقل.ولعلَّ زيارةَ اللواء حسن رشاد اليوم إلى لبنان تمثّلُ استكمالًا طبيعيًّا لمسيرةٍ طويلةٍ من القيادةِ الإقليميّةِ المصرية، التي تُدرِكُ أنَّ بناءَ السلامِ أصعبُ من إشعالِ الحرب، وأنَّه وحده القادرُ على أنْ يكتبَ فصلًا جديدًا من الاستقرارِ في المنطقة. من عبد الناصر إلى اليوم منذ خمسينياتِ القرنِ الماضي، كانت مصرُ بوصلةَ المنطقة، ومختبرَ التحوّلاتِ الكبرى في العالمِ العربيّ. في عهدِ الرئيس جمال عبد الناصر، تكرّست القاهرةُ مركزًا للقرارِ العربيّ، وقاعدةً لحركاتِ التحرّرِ من الاستعمار. دعمَ عبد الناصر القضيةَ الفلسطينية ولبنان كجبهةِ مواجهةٍ مع إسرائيل، وسعى لتوحيدِ الصفِّ العربيِّ تحت شعار الوحدة والمصير المشترك. ورغم أنَّ الحلمَ الوحدويَّ واجهَ تعقيداتٍ سياسيةً لاحقة، إلّا أنّه أسّسَ لمكانةِ مصرَ كـدولةِ ضميرٍ عربيٍّ تمتلكُ شرعيّةً معنويةً تتجاوزُ حدودَ الجغرافيا. ثم جاء عهدُ أنور السادات الذي نقلَ مصرَ من منطقِ الثورةِ إلى منطقِ الدولة، فخاضَ حربَ أكتوبر 1973 التي أعادتْ للعربِ توازنَ الكرامة، ثم أطلقَ “الدبلوماسية الواقعية” باتفاقيةِ كامب ديفيد، ليكرّسَ مبدأَ أنَّ السلامَ ليس تنازلًا بل إدارةً ذكيّةً للقوّة. هذا التحوّلُ جعلَ من مصرَ مركزًا لوساطاتٍ إقليميّةٍ معقّدة، من النزاعِ العربي–الإسرائيلي إلى ملفاتِ لبنان وغزّة واليمن والسودان. في السنواتِ الأخيرة، ومع تصاعدِ الأزماتِ من غزّة إلى الجنوبِ اللبناني، برزت مصرُ مجدّدًا كـقوّةٍ إقليميةٍ متوازنةٍ تمتلكُ القدرةَ على التحدّثِ إلى جميعِ الأطرافِ دون عداءٍ أو انحيازٍ أيديولوجيٍّ.
في شرم الشيخ أمس، حيث اجتمعت الوفود لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، كان المشهد واضحًا بقدر ما كان صادمًا: الجميع يلعب دورًا ما، إلّا محمود عبّاس.رئيس السلطة الفلسطينيّة حضر القمّة، لكنّه لم يكن جزءًا منها. جسدٌ حاضر، وصوتٌ غائب.لم يُلقِ كلمة، ولم يوقّع على الاتفاق، ولم يقف على المنصّة الرئيسيّة. لم يُذكر اسمه في أيّ خطاب، ولم تلاحقه عدسات المصوّرين كما اعتاد في مؤتمرات “الصورة التذكاريّة”.كأنّما اجتمع العالم حول قضيّة فلسطين، وقرّر أن يتحدّث عنها من دون الفلسطيني الرسمي. إلى الهامش حين جاءت لحظة التقاط الصورة الجماعيّة، كان المشهد أبلغ من أيّ تصريح:عبّاس في الصفّ الثاني، أقصى اليسار، في موقع أقرب إلى “الظلّ الدبلوماسي” منه إلى رأس كيانٍ يُفترض أنّه يمثّل فلسطين.ابتسامة باهتة، نظرات مشتّتة، ووقفة توحي بأنّ الرجل نفسه يُدرك أنّه بات جزءًا من ديكور القمم، لا من مضمونها.لم يكن الغياب عن الخطابات أقلّ قسوة؛ لم يُوجّه أحد من القادة الكبار شكرًا له، لا تصريحًا ولا تلميحًا. بدا وكأنّه حاضرٌ في حدثٍ لا يعترف بوجوده.بل حتّى التغطية الإعلاميّة تجاهلته؛ لم تظهر صورٌ قريبة له، ولم يُذكر اسمه في نشرات الأخبار الأولى، وكأنّ الصحافة الدوليّة تبنّت الموقف السياسي ذاته: “عبّاس… خارج اللعبة”. قمّة بلا دور في الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن يظهر “رئيس فلسطين” في موقع القيادة، ليُعلن موقفًا أو يفاوض أو يعترض على الأقل، اكتفى الرجل بالصمت المطبق، تمامًا كما اعتاد في اللحظات المفصليّة.صمتٌ مريب في لحظةٍ تتكلّم فيها كلّ الأطراف، بما في ذلك الأطراف التي لا علاقة مباشرة لها بالحرب.في الكواليس، تساءل كثيرون: ما الهدف من حضوره؟ هل جاء ليسجّل “وجودًا شكليًا”؟أم ليؤكّد للعالم أنّ قرار فلسطين لم يعد في يده؟ ومهما كان السبب، النتيجة واحدة: عبّاس لم يكن سوى ضيف مجاملة في مسرح الأحداث الكبرى، لا أكثر. الغياب الحقيقي الأغرب أنّ بعض الحاضرين أكّدوا أنّ عبّاس غاب عن بعض الفقرات الخاصّة والاجتماعات الجانبيّة، ما جعل تساؤلات الدبلوماسيّين تتضاعف: هل انسحب احتجاجًا؟ أم اكتشف أنّ وجوده لا يغيّر شيئًا ففضّل الانسحاب بصمت؟ الأرجح أنّه لم يُدعَ إليها أساسًا.صورة عبّاس في شرم الشيخ تختصر حال السلطة الفلسطينيّة اليوم: كيان رسمي فقد أدوات التأثير، يكتفي بالمشاركة في الصور الجماعيّة، ويغيب عن القرارات التي تخصّ مصير شعبه.لقد تحوّل الرجل إلى ما يُشبه “شاهد ما شافش حاجة” في السياسة الإقليميّة، لا يُستشار، ولا يُنتظر منه موقف، ولا يُحسب حسابه في أيّ معادلة.حتّى المقارنة الساخرة أصبحت مؤلمة: عبّاس بدا في القمّة كأنّه رئيس أرمينيا أو رئيس الاتّحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو — وجوه تُشاهد في اللقطات الجماعيّة فقط، لا علاقة لها بالحدث نفسه. “شو بدّك بهالروحة؟” يبقى السؤال الشعبي البسيط، الأكثر اختصارًا ودقّة:شو بدّك بهالروحة يا أبو مازن؟ زعلت لتروح… وها هي النتيجة: كأنّك ما كنت.ربّما كانت هذه المشاركة آخر فصلٍ في رواية “الحضور الرمزي”، حيث يتحوّل من يُفترض أنّه صاحب القضيّة إلى تفصيل بروتوكولي، ينتظر ذكر اسمه لا أكثر.لكنّ الرسالة التي خرجت من شرم الشيخ كانت أقوى من كلّ الكلمات: فلسطين حاضرة… وعبّاس غائب. بل لعلّ الغياب هذه المرّة كان أبلغ من الحضور. لقد تحوّل الرجل إلى ما يُشبه “شاهد ما شافش حاجة” في السياسة الإقليميّة، لا يُستشار، ولا يُنتظر منه موقف، ولا يُحسب حسابه في أيّ معادلة. حتّى المقارنة الساخرة أصبحت مؤلمة
إن كنا عاجزين أمامَ هولِ مشاهدِ الموتِ والدمارِ والقتلِ والتشرِيدِ، ولا نعرفُ ماذا يمكنكَ أن نفعلَ لنصرة الحقِّ والمظلُومينَ وبدونَ إطلاقِ رصاصةٍ واحدةٍ، والدُّخولِ بدوامةِ عنفٍ، فليكن يومُ الجمعةِ المقبلُ يومَ «سماءُ العرب تعاقِبُ إسرائيلَ».