في كلِّ صفحةٍ من التاريخ، هناك روايتان: روايةٌ تُنشَر، وأخرى تُخنَق في الصمت. وبين القلمِ والسيف، يقف السؤالُ الذي لم يجدْ إجابةً نهائية حتى يومِنا هذا: مَن يكتبُ التاريخ؟هل هو المُنتصِر الذي يمتلك القوّةَ والمنابر؟ أم الحقيقة التي تبقى حيّةً، تنتظر لحظةَ انكشافها مهما طال الزمن؟ منذ فجرِ الحضارة، كان التاريخُ مرآةَ الأمم، لكنه كثيراً ما كان مرآةً مشروخة. فالحروب لا تكتفي بقتل البشر، بل تقتل أيضاً الذاكرة، فتتركُ المُنتصِرَ يُدوّن ما يشاء، ويمحو ما يشاء. وهكذا، تصبح الحقيقة ضحيةً أخرى على صفحات التاريخ. يقول الكاتبُ البريطاني جورج أورويل: «مَن يتحكّم في الماضي يتحكّم في المستقبل، ومَن يتحكّم في الحاضر يتحكّم في الماضي.»عبارة تختصر مأساةَ التاريخ الإنساني، حيث تتحوّل الأقلامُ إلى أدواتِ سلطة، لا إلى شهودِ حق. المُنتصِر يكتب… لكن بأيِّ حِبر؟ مَن يتأمّل كتبَ التاريخ يُدرك أن المُنتصِر غالباً هو مَن يكتب الروايةَ الأولى. فالإمبراطورية الرومانية مثلاً، رسمت خصومَها كـ«برابرةٍ متوحشين»، بينما كانوا شعوباً تدافع عن أرضها وهويتها.وفي الحروبِ الصليبية، وُصفت الحملات بأنّها «تحريرٌ للأرض المقدّسة»، رغم أنّها كانت غزواً ونهباً تحت غطاءٍ ديني.حتى في الفتوحاتِ الحديثة، كان الاستعمارُ الأوروبي يُقدَّم في الكتب المدرسية على أنه «تمدينٌ للشعوب»، لا نهبٌ لثرواتها واستعبادٌ لأهلها.إنها لعبةُ الأقلام بعد صمت السيوف. قد يطمسُ المُنتصِر الحقيقةَ مؤقتاً، لكنه لا يستطيع أن يدفنها أبداً، فالتاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل يُنقش بالعدل والذاكرة والدم فلسطين… شاهدٌ حيّ على تزوير الرواية في واقعنا المعاصر، تقف فلسطين المثالَ الأوضح على معركة الحقيقة ضد روايةِ القوّة.منذ أكثر من سبعة عقود، يحاول الاحتلالُ أن يُعيد كتابةَ التاريخ بمداد الزيف، فيحوّل المظلوميةَ إلى تُهمة، والحقَّ إلى جُرم.لكن الأرض لا تنسى، والذاكرة لا تُمحى.فكلُّ زيتونةٍ باقية، وكلُّ بيتٍ مهدوم، وكلُّ حجرٍ ما زال شاهداً على أن التاريخَ الحقيقي يُكتَب بالدم لا بالحبر. رغم ما يملكه العدو من أدواتٍ إعلامية ضخمة ودعمٍ سياسيٍّ غير محدود، تبقى الكاميرا البسيطة، وصوت الشاهد، وصورة الطفل المكلوم أصدقَ من ألف كتابٍ مُزيَّف.وفي زمن الإعلام الرقمي، تغيّر ميزانُ القوّة: لم يَعُد التاريخ يُكتب فقط بأقلام المنتصرين، بل بعدسات الهواتف ووعي الشعوب. بين القولَين… مَن يملكُ الخاتمة؟ بين مَن يقول إن «المُنتصِر هو مَن يكتب التاريخ»، ومَن يرى أنّ «الحقيقة لا بد أن تظهر»، يقف الواقع شاهداً على صدقِ القولين معاً؛ فالمُنتصِر يكتب المسوّدةَ الأولى، لكن الزمنَ وحده يُراجعها: الوثائقُ تظهر، الشهودُ يتكلّمون، والمظلومون يورّثون أبناءَهم الذاكرة كما يورّثون الأرض.وربما تتأخّر الحقيقةُ في الوصول، لكنها لا تُهزَم أبداً. التاريخ ليس ما يُكتب بالحبر، بل ما يُنقش في الضمير الإنساني. قد يطمس المُنتصِر الحقيقةَ مؤقتاً، لكنه لا يستطيع أن يدفنها أبداً. فالتاريخ لا ينام، والحق لا يشيخ. وإن كتب المُنتصِر السطرَ الأوّل، فالحقيقة وحدَها مَن تكتبُ الخاتمة.
في منتصف القرن الثاني عشر، اهتز العالم الصليبي بسقوط مملكة الرها، أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق خلال الحملة الصليبية الأولى. كان هذا السقوط على يد القائد المسلم عماد الدين زنكي، الذي وحّد قواته وأعاد للمسلمين هيبتهم في شمال الشام شكل هذا الحدث صدمة عنيفة في أوروبا، مما دفع البابا إيجين الثالث إلى إطلاق نداء لحملة صليبية ثانية، استجاب لها أقوى ملوك أوروبا في ذلك الوقت: لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا. كانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها ملوك أوروبا بأنفسهم في حملة صليبية، مما أضفى عليها أهمية استثنائية.كان الهدف المعلن للحملة هو استعادة الرها ومعاقبة زنكي، لكن الأهداف الخفية كانت تتجاوز ذلك بكثير، حيث كانت القوى الأوروبية تطمح إلى السيطرة على دمشق، المدينة الاستراتيجية التي ظلت صامدة في وجه المحاولات الصليبية السابقة. تحركت جيوش جرارة من فرنسا وألمانيا، متجهة نحو الأراضي المقدسة عبر الأناضول، التي كانت تحت سيطرة الدولة السلجوقية بقيادة السلطان ركن الدين مسعود. ركن الدين مسعود..حائط الصد كان السلطان ركن الدين مسعود قائدًا فذاً وحاكمًا لدولة سلاجقة الروم التي تمرست في قتال البيزنطيين والصليبيين. أدرك مسعود ببعد نظره الاستراتيجي أن تقدم الجيوش الصليبية عبر أراضيه سيشكل خطرًا ليس فقط على دولته، بل على العالم الإسلامي بأسره. فلو تمكنت هذه الجيوش من الوصول إلى الشام، فإنها ستشكل تهديدًا مباشرًا لدمشق، وقد تنجح في استعادة الرها، مما سيقوض الانتصارات التي حققها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود.قرر ركن الدين مسعود أن يتصدى لهذه الحملة بنفسه، مدركًا أن جيشه الصغير، الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل، لا يمكنه مواجهة الجيوش الصليبية الضخمة في معركة مباشرة. لذلك، اعتمد على تكتيكات حربية ذكية تعتمد على الاستنزاف والمناوشات السريعة، مستغلاً معرفته الدقيقة بتضاريس الأناضول الوعرة. رفض مسعود عرض المساعدة من الزنكيين في الشام، مؤكداً لهم أن بإمكانه التعامل مع الموقف، وطالباً منهم فقط الدعاء له بالنصر. رفض مسعود عرض المساعدة من الزنكيين في الشام، مؤكداً لهم أن بإمكانه التعامل مع الموقف، وطالباً منهم فقط الدعاء له بالنصر. سحق الجيش الألمانيوصل الجيش الألماني بقيادة كونراد الثالث إلى الأناضول أولاً. كان كونراد قائدًا متعجرفًا، يستهين بقوة السلاجقة، ويتقدم بجيشه دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة. استغل ركن الدين مسعود هذا الغرور، وأرسل فرقة من فرسانه بقيادة القائد “بريجادين بن أرسلان” لمهاجمة مؤخرة الجيش الألماني، حيث تم تدمير الإمدادات والمؤن، مما أدى إلى إرباك الجيش الألماني وإصابته بالإرهاق. أجبر هذا الهجوم كونراد على تغيير خططه، وأمر جيشه بالتحرك ككتلة واحدة، مما زاد من معاناتهم في التضاريس الجبلية القاسية. كان الجيش الألماني يعاني من العطش الشديد، وكان كل همهم هو الوصول إلى نهر “لبيتيس” لإنقاذ جنودهم وخيولهم. وهنا، كان ركن الدين مسعود قد نصب لهم فخًا محكمًا.عندما وصل الألمان إلى منطقة جبال “دوريليوم”، انقض عليهم الرماة السلاجقة من كل جانب، بينما كان فرسان ركن الدين يهاجمون مقدمة الجيش. كانت مذبحة مروعة، حيث تم إبادة معظم الجيش الألماني. نجا كونراد الثالث بصعوبة مع حفنة من رجاله، وفروا إلى الجيش الفرنسي، حاملين معهم أخبار الهزيمة المذلة. كمين للجيش الفرنسيلم يكتف ركن الدين مسعود بهذا النصر الساحق، بل توجه بجيشه لملاقاة الجيش الفرنسي الذي كان يتقدم ببطء. تعلم لويس السابع من أخطاء كونراد، وحاول أن يكون أكثر حذراً، لكنه لم يكن مستعدًا للكمين الذي أعده له البطل المسلم.عندما وصل الجيش الفرنسي إلى بلدة “إزنيق”، حاصرهم ركن الدين مسعود وبدأ في قصفهم بالسهام. لم يتمكن الفرنسيون من الصمود، وحاولوا الهرب، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين من كل جانب. في خطوة يائسة، أمر لويس السابع جيشه بالخروج دفعة واحدة، في محاولة لكسر الحصار، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وأدت إلى مقتل نصف الجيش الفرنسي وأربعة من أمرائه. نهاية الحملة الصليبية فر لويس السابع مع من تبقى من جيشه إلى أنطاكية، حيث استقبلهم السكان بسخرية وازدراء. كانت الهزيمة قاسية ومذلة، وفقدت الحملة الصليبية الثانية كل زخمها. حاول الصليبيون بعد ذلك مهاجمة دمشق، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وعادوا إلى أوروبا يجرون أذيال الخيبة والعار. هكذا، انتهت الحملة الصليبية الثانية التي قادها أعظم ملوك أوروبا بهزيمة نكراء، بفضل الله ثم بفضل حنكة وشجاعة السلطان ركن الدين مسعود، الذي تمكن بجيش صغير من سحق جيوش أوروبا مجتمعة، وتلقينهم درسًا لن ينسوه. يظل ركن الدين مسعود بطلاً منسياً في تاريخنا، على الرغم من أن انتصاراته كانت حاسمة في حماية العالم الإسلامي من خطر الحملات الصليبية.