مِن النادرِ أنْ يجدَ رئيسٌ أميركيٌّ نفسَه في مأزقٍ بعدَ إطلاقِ مبادرةٍ كبرى للسلامِ أو وقفِ إطلاقِ النار. غيرَ أنّ الردَّ الفلسطينيَّ الأخيرَ على مقترحِ الرئيسِ دونالد ترامب بشأنِ غزّة كشفَ عن معادلةٍ جديدة: «نعم، ولكن». لم يكنْ هذا الردُّ مجرّدَ صياغةٍ دبلوماسيّةٍ غامضة، بل خطوةٌ محسوبةٌ نقلتِ التحدّي إلى البيتِ الأبيض، وفتحتِ البابَ أمامَ جولةٍ تفاوضيّةٍ أكثرَ تعقيدًا ممّا توقّعها ترامب وإدارته. قبولٌ مشروطٌ لا رفضٌ مباشر أعلنتْ حركةُ حماس قبولَها عناصرَ أساسيّة من الخطة، مثل استعدادِها لمناقشةِ ترتيباتٍ تنفيذيّةٍ انتقاليّةٍ والإفراجِ عن أسرى ضمنَ صيغةٍ تفاوضيّة، لكنّها ربطتْ أيَّ موافقةٍ نهائيّةٍ بجملةٍ من الشروطِ الوطنيّةِ والسياسيّة، وعلى رأسها رفضُ نزعِ السلاحِ القسريّ وضرورةُ التشاورِ مع بقيّةِ الفصائلِ الفلسطينيّة. هذا الموقفُ لا يمكنُ اعتبارُه رفضًا، لكنّه أيضًا ليسَ قبولًا مطلقًا. إنّه خريطةُ طريقٍ لإعادةِ صياغةِ المقترحِ على أُسسٍ جديدة. هيَ مناورةٌ على أكثرَ من جبهة. الاستجابةُ الفلسطينيّة وفّرتْ للحركةِ مساحةً أوسعَ للمناورة: أمامَ المجتمعِ الدوليّ: قدّمتْ صورةَ طرفٍ مسؤولٍ لا يرفضُ التسوياتِ جملةً وتفصيلًا. أمامَ جمهورِها الداخليّ: أكّدتْ أنّها لا تُفرّطُ بالحقوقِ الوطنيّةِ ولا تخضعُ لإملاءاتٍ خارجيّة. أمامَ الوسطاءِ الإقليميّين: أرسلتْ رسالةً واضحةً بأنّها طرفٌ لا يمكنُ تجاوزُه في أيّ عمليّةٍ سياسيّة تخصُّ غزّة أو مستقبلَ القضيّةِ الفلسطينيّة. حرجُ البيت الأبيض الإدارةُ الأميركيّةُ راهنتْ على ردٍّ سريعٍ وحاسم: «نعم أو لا». لكنّ الصيغةَ المشروطةَ أجبرتْ واشنطن على مواجهةِ معضلةٍ؛ فإمّا أنْ تضغطَ من جديدٍ وتُجازفَ بتصعيدٍ عسكريٍّ يُغرقُها في نزاعٍ مفتوح، أو أنْ تقبلَ بالدخولِ في مفاوضاتٍ متعدّدةِ الأطرافِ تفقدُ معها عنصرَ المبادرةِ الذي أرادَ ترامبُ احتكارَه. بكلماتٍ أخرى، الردُّ الفلسطينيُّ عرّى محدوديّةَ القدرةِ الأميركيّةِ على فرضِ تسوياتٍ أحاديّة. والأهمُّ أنّ هذه المناورةَ فتحتِ البابَ أمامَ الفاعلينَ الإقليميّين ـ من مصرَ وقطرَ وتركيا إلى الأممِ المتّحدة ـ كي يعودوا إلى المشهدِ كوسطاء. وهذا يُعيدُ توزيعَ أوراقِ اللعبةِ الدبلوماسيّةِ ويمنعُ واشنطن من الانفرادِ بالقرار. الرسالةُ الأوضح: لا حلَّ دونَ حضورٍ فلسطينيٍّ فعليٍّ على الطاولة، ولا خطةَ قابلةً للحياةِ إذا لم تُراعِ الحدَّ الأدنى من الحقوقِ السياسيّةِ والإنسانيّة. بينَ الذكاءِ والمخاطرة مع ذلك، ليستِ المناورةُ بلا ثمن. فالتعويلُ على «نعم، ولكن» قد ينجحُ في كسبِ الوقتِ وحمايةِ الموقفِ الوطنيّ، لكنّه قد يعرّضُ غزّة لمزيدٍ من الضغوطِ العسكريّة إذا فسّرتْ إسرائيلُ أو الولاياتُ المتّحدةُ الردَّ بأنّه محاولةٌ لكسبِ الوقتِ فقط. النجاحُ في هذا التكتيك سيتوقّفُ على قدرةِ الحركةِ على تحويلِ الشروطِ إلى مسارٍ سياسيٍّ مدعومٍ عربيًّا ودوليًّا، بدلَ أنْ تبقى حبرًا على ورق. ما جرى لم يكنْ مجرّدَ ردٍّ على مبادرةٍ أميركيّة، بل إعادةَ صياغةٍ للمعادلةِ برمّتِها. في لحظةٍ كان يُفترضُ أنْ يُحشَرَ الفلسطينيّون بينَ القبولِ أو الرفض، جاء الجوابُ ليقول: «نعم، ولكن وفقَ شروطِنا». إنّها رسالةٌ بأنّ اللعبةَ لا تُدارُ في البيتِ الأبيضِ وحده، وأنّ إرادةَ الشعوبِ ـ حتّى في أضعفِ الظروف ـ قادرةٌ على إعادةِ توزيعِ موازينِ القوى على الطاولة.
تقف منطقةُ الشرق الأوسط اليوم أمامَ منعطفٍ إقليميٍّ حاسم، لا تقتصر تداعياتُه على لبنان وحده، بل تمتدُّ إلى عمق المشهد في سوريا والعراق واليمن. اغتيالُ السيّد حسن نصرالله، بما يحمله من رمزيةٍ وتأثير، لا يمكن حصرُه في “البيئة الشيعية” أو في الساحة اللبنانية فحسب، بل يفتح الباب أمام تغيّرٍ استراتيجيٍّ كبير قد يرسم ملامحَ مرحلةٍ جديدة في المنطقة.فالإعلانُ عن وفاته لا يُعَدّ حدثًا عابرًا، بل يُشكِّل بدايةً حقيقية لتراجع النفوذ الإيراني الذي بلغ ذروته بعد دخول القوات الأميركية إلى العراق عام 2003 حواجز سُنيّة كبرى ذلك النفوذ الذي تمدّد على وقع سقوط ثلاثة حواجز سنيّة كبرى في المنطقة: إعدامُ صدّام حسين، وفاةُ ياسر عرفات، واغتيالُ رفيق الحريري.مهّدت هذه التحوّلات الطريقَ أمام المشروع الإيراني الذي بُني على فكرة استمالة الأقليات في مواجهة ما اعتُبر “الخطر السنّي”، مستفيدًا من لحظةٍ إقليمية ودولية سمحت له بالتوسّع.في العراق، دخلوا عبر الطائفة الشيعية؛ في سوريا، عبر النظام العلوي؛ وفي لبنان، عبر حزب الله وتحالفه مع جزءٍ من المسيحيين، تحت ما سُمّي بـ”تحالف الأقليات”.لم يكن هذا المشروع نتاجَ التخطيط الإيراني وحده، بل جاء أيضًا بتواطؤ أو تغاضٍ أميركي، حيث ساد الاعتقاد أن دعم الجناح الشيعي قد يضبط الحالة السنيّة ويمنع ما سُمّي بـ”التطرّف الإسلامي”. لكن التجربة أثبتت العكس. اكتشف الأميركيون أن التطرّف ليس حكرًا على مذهبٍ دون آخر، وأن تسليح طرفٍ لمواجهة طرفٍ آخر لا يؤدّي بالضرورة إلى الاستقرار. تجربة يحيى السنوار خير دليل، إذ ظنّ البعض أن الأموال القطرية ستُغريه بالسلطة، لكن الهجوم في 7 تشرين قلب كلَّ التوقّعات. إعادة النظر بتحالف الأقليات حتى إسرائيل، التي كانت من أوائل الداعمين لفكرة تحالف الأقليات، بدأت تُعيد النظر في ذلك. فعلى الرغم من أن حافظ الأسد هو من قدّم هذا المفهوم بشكل علني في جامعة دمشق عام 1976، إلا أن إسرائيل كانت قد طرحت الفكرة قبل ذلك، وسعت إلى بناء تحالفات مع الأقليات في المنطقة، على قاعدة أن العدو المشترك هو الأغلبية السنيّة. اليوم، يبدو أن جناحًا داخل إسرائيل بات يُدرِك أن هذا التحالف لم يعُد مجديًا، بل ربما أصبح مُكلفًا.في المقابل، تعيش إيران حالةً من التراجع الداخلي والخارجي. منذ احتجاجات مهسا أميني، وتحت وطأة العقوبات الأميركية، وسعيها الدائم لتسوية الملف النووي، تعاني إيران من أزمةٍ اقتصادية متفاقمة وصراعٍ داخلي بين أجنحة متشدّدة وأخرى أكثر انفتاحًا. رئيسها الجديد، جرّاحُ قلبٍ يتقن الإنجليزية، حمل إلى نيويورك خطابَ اعتدال، في محاولةٍ لإعادة صياغة صورة “الجمهورية الإسلامية” على المسرح الدولي، لكن من غير المؤكّد أن بمقدورها الحفاظ على المشروع ذاته الذي تمدّد خلال العقدين الماضيين. لا يمكن بناء دولةٍ حديثة على أساس فرض نمطٍ ثقافي أو سياسي واحد، بل على مشاركةٍ حقيقية في صياغة هويةٍ وطنية جامعة تعكس واقع المجتمع بكلّ تعقيداته مشهد جديد أمّا إسرائيل، فهي لم تُقدِم على اغتيال نصرالله لأن قدراتها تطوّرت فجأة، بل لأنها أرادت استباق مبادرة دولية يُقال إنها ستنطلق من نيويورك لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي. نتنياهو، بإدارته للمرحلة عبر اغتيالات محدّدة وسلسلة عمليات عسكرية، يحاول فرض وقائع ميدانية تتيح له الدخول في أي تسويةٍ من موقع القوّة.أمّا حزب الله، فقد تمدّد إلى درجة بات معها عبئًا على مصالح دولية وإقليمية عدّة. من البحر الأحمر إلى الملاحة الدولية، من قمع الثورة السورية إلى تشكيل الحشد الشعبي في العراق، من تهديد قبرص إلى تعطيل الداخل اللبناني، أصبح الحزب عاملَ توتّرٍ دائم. هذا التمدّد غير المحسوب جعل الكثير من الدول تلتقي مصالحُها في ضرورة وضع حدٍّ لهذا الدور، ما أدّى إلى تراكب إراداتٍ دولية وإقليمية مختلفة نحو هدفٍ واحد.في لبنان، يواجه الشيعة اليوم أزمةً بنيوية، ولكن في المقابل، ثمّة فرصة نادرة لكل اللبنانيين لإعادة التفكير في شكل الدولة. فمع سقوط حزب الله، تتهاوى معه فكرتان أساسيتان: فكرة توازن الرعب والأمن الذاتي، وفكرة النموذج الطائفي القوي الذي حاولت طوائف أخرى استنساخه داخل بيئاتها حفاظًا على مصالحها. التجربة أثبتت أن هذا النموذج لم يُحقّق لا الأمن ولا الاستقرار، بل عمّق الانقسامات وأفرغ الدولة من مضمونها.ارتبطت صورة لبنان الحديث طويلًا بفكرة المارونية السياسية، حيث تمّ تشكيل الهوية الوطنية على أساسٍ ثقافي–سياسي محدّد. ولكي تكون “لبنانيًا”، كان عليك أن تتماثل مع هذا النموذج، بغضّ النظر عن انتمائك الديني. حتى مفاهيم مثل “العيش المشترك” كانت، في كثير من الأحيان، أقرب إلى “العيش بالاشتراك”، حيث يُطلَب من الآخر أن يُعدّل من نفسه وينكفئ عن بعض خصوصياته كي يندرج ضمن هويةٍ مفروضة سلفًا. عن أي اتفاقٍ نبحث؟ العيش المشترك الحقيقي لا يمكن أن يقوم على هذا النوع من التكيّف القسري، بل على الاعتراف المتبادل والاحترام الحقيقي للتنوّع. لا يمكن بناء دولةٍ حديثة على أساس فرض نمطٍ ثقافي أو سياسي واحد، بل على مشاركةٍ حقيقية في صياغة هويةٍ وطنية جامعة تعكس واقع المجتمع بكلّ تعقيداته. لكن هذا يطرح السؤال الأهم: ما هو نوع الاتفاق الذي نبحث عنه بين الطوائف؟هل نريد اتفاقًا يُكرّس الزعامات ويُعيد إنتاج المحاصصة؟ أم تفاهمًا يُكرّس المواطنة ويُعيد الاعتبار للفرد؟ هل نسعى إلى ميثاق ضمانات طوائف، أم إلى عقدٍ وطنيٍّ جديد يضمن العدالة والمساواة للجميع؟ هل نبني شراكة خوف أم شراكة أمل؟ وهل نحن مستعدّون لنقل النقاش من “مَن يحكم لبنان؟” إلى “كيف نحكم لبنان معًا؟” حتى إسرائيل، التي كانت من أوائل الداعمين لفكرة تحالف الأقليات، بدأت تُعيد النظر في ذلك الأسئلة الصعبة سقوط حزب الله، بكلّ ما يُمثّله، قد يكون فرصةً تاريخية لإعادة تعريف معنى الدولة في لبنان. لكنه لن يكون كافيًا ما لم نمتلك الشجاعة لطرح الأسئلة الصعبة والبحث عن إجاباتٍ خارج القوالب الجاهزة. فربما لا يكون الحل في “الدولة المدنية” كما تُطرَح اليوم، ولا في “الدولة الطائفية” كما نعرفها، بل في نموذجٍ ثالث، لبناني الهوية، لا مستورَدًا ولا مفروضًا، يُعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المشاركة، لا الهيمنة، وعلى أساس الحقوق، لا الولاءات. هذا النموذج لا يمكن أن يولَد من صراع المصالح فقط، بل من خيالٍ سياسي جديد، ومن إرادةٍ حقيقية لدى مختلف المكوّنات بأن الوقت قد حان لنهاية اللعبة القديمة، وبداية مشروع وطني جامع. وربما، ولأول مرة منذ عقود، بات هذا السؤال ملحًّا أكثر من أي وقت مضى: أيّ دولةٍ نريد؟ وأيّ اتفاقٍ نحتاج لنعيش معًا؟.. لا بجانب بعضنا، بل فعلاً مع بعضنا. * دكتور محاضر في العلوم السياسية والاجتماع الولايات المتحدة الأميركية
منذ ثلاثة عقود وأكثر، تُسوَّق بين اللبنانيين، وبخاصةٍ في البيئة الشيعية، مقولة أصبحت أقرب إلى المُسلَّمة: «الجيش ضعيف… ما عنده الإمكانيات ليحمينا». هذه الجملة التي تتردّد في المجالس الشعبية وفي خطاب الميليشيا الإعلامي، تحوّلت إلى ذريعة لاستمرار ازدواجية السلاح في لبنان، ولإبقاء قرار الحرب والسِّلم خارج مؤسّسات الدولة. لكنّ الوقائع الميدانية، والأرقام الاقتصادية، والتجربة المريرة في الحرب الأخيرة، تُثبت أن هذه الأسطورة لم تعُد صالحة، لا أخلاقيًّا ولا عمليًّا. امتحان فشل فيه السلاح القول إن ترسانة «حزب الله» حمت الأرض أو صانت البشر ليس دقيقًا. إسرائيل استهدفت في الأشهر الأخيرة الماضية الجنوب والضاحية والبقاع بآلاف الغارات، فكانت النتيجة أكثر من 1200 قتيل مدني وآلاف الجرحى، فيما نزح ما يزيد عن 120 ألف مواطن من منازلهم نحو بيروت ومناطق أكثر أمانًا.البنية التحتية الحيوية – من محطات الكهرباء والجسور والمستشفيات – انهارت في ساعات، فيما الصواريخ التي أُطلقت من الجنوب لم تمنع آلة الحرب الإسرائيلية من التوغّل أو القصف، بل وفّرت لها الذريعة لتوسيع بنك الأهداف.إذًا، ما الذي حُمي؟ لا الأرض صينت، ولا الإنسان وُقِي من المجازر. وهنا يظهر الفرق بين «مغامرة عسكرية» بلا غطاء سياسي، وبين «استراتيجية دفاعية وطنية» يضعها جيش واحد يمثّل الشرعية. مؤسّسة واحدة لدولة واحدة لبنان اليوم لا يملك ترف وجود جيشَين. الدولة تُختزل بمؤسّساتها، والجيش هو رمز وحدتها. أي تبرير لبقاء ميليشيا مسلّحة خارج الشرعية يعني عمليًّا تفكيك الدولة نفسها. لكن يجب أن يُقال بوضوح: لا يمكن أن يصبح الجيش قويًّا «بلحظة». الأزمة المالية التي بدأت عام 2019 دمّرت قدرة المؤسّسة العسكرية. الرواتب التي كانت تُقدَّر بحوالي 1.6 مليار دولار سنويًّا قبل الانهيار، انخفضت قيمتها الفعلية إلى أقل من 210 ملايين دولار عام 2021 بفعل انهيار الليرة وتضخّم الأسعار. هذا التدهور أدّى إلى موجات فرار واستقالات، وأجبر الجيش على الاعتماد على مساعدات غذائية ومالية من دول مانحة مثل فرنسا والولايات المتحدة ودول الخليج.ومع ذلك، لا يزال الجيش يضم نحو 80 ألف عنصر ناشط، ويشكّل المؤسّسة الوطنية الوحيدة التي تحظى بثقة اللبنانيين بنسبة تفوق 70% بحسب استطلاعات الرأي. هذه الثقة هي رأسماله الحقيقي، وليست الصواريخ العابرة للحدود ولا الشعارات الطائفية. العقلانية مقابل الارتجال قرارات الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية لا تُتَّخذ بالعاطفة أو الثأر. الجيش اللبناني مُلزَم بحسابات دقيقة: حماية المدنيين، تجنّب المجازر، صون البنية التحتية، والتصرّف ضمن معادلة الردع المتاحة.في المقابل، أثبتت التجربة أن القرارات الارتجالية لبعض القوى المسلّحة أدّت إلى تهجير الناس من قراهم، وإلى سقوط ضحايا مدنيين لا علاقة لهم بأي مواجهة.العقلانية ليست ضعفًا، بل هي مسؤولية. أمّا التهوّر فهو مغامرة دموية يدفع ثمنها الأبرياء. جيش مدعوم وعلاقات متوازنة المعادلة واضحة: لا استقرار ولا عودة للنازحين إلى قراهم إلّا بجيش واحد، مُموَّل ومدعوم ومجهَّز. وهذا يتطلّب مجموعة من العوامل: إصلاح مالي حقيقي يوقف نزيف الفساد الذي تُغطيه الميليشيات. شراكات عربية ودولية تمنح الجيش التدريب والتمويل والمعدّات. الولايات المتحدة وحدها قدّمت أكثر من 3 مليارات دولار منذ 2006 دعمًا للجيش، لكن المطلوب هو رؤية لبنانية تُترجِم هذا الدعم إلى بناء مؤسّسات لا إلى ترقيع. إجماع وطني على أن لا أمن ولا سيادة في ظل ازدواجية السلاح. الأسطورة التي تقول «الجيش ضعيف» لم تعُد تنطلي على اللبنانيين. ضعف الجيش ليس قدرًا، بل نتيجة إفقارٍ مُتعَمَّد لدولةٍ مُصادَرة. الجيش يمكن أن يقوى، إذا تحرّرت الدولة من وصاية السلاح الموازي، وإذا أُعيد وصل لبنان بعمقه العربي وبشراكاته الدولية. أمّا الاستمرار في المقولة نفسها فهو ببساطة خيانة لمستقبل بلدٍ يريد أن يعيش أبناؤه بأمان، تحت راية دولة واحدة، لا دويلات متناحرة.