تغيّر معنى الموت. بعد الحروب الأخيرة التي تعيشها البشريّة، لاسيّما في هذه المنطقة من العالم، أصبح الموت أمرًا سهلًا. لم يعد أمرًا يحسبه الفكر البشري شيئًا مَهولًا، بعيدًا، هامشيًّا، يحصل لغيرنا لا معنا…صار أمرًا عاديًّا يحصل في جزء من ثانية، دون توقّع ودون حصانة لأحد. ساهم التقدّم التكنولوجي الكبير ودخول الذكاء الاصطناعي بشكل واسع في تقزيم القيمة العظيمة للموت باعتباره أمرًا ذا شأن للبشر جميعًا. صار حدثًا يوميًّا متوقَّعًا في أي مكان وأي زمان. مسيَّرة في السماء، أو صاروخ ذكيّ مُوجَّه، أو حتّى شعاع قاتل غير مرئيّ، يمكن أن يقطع آلاف الأميال، ليدخل نافذةً في كوخ ناءٍ، أو كُوَّةً في خيمة مموّهة، حتّى في مجاهل غابات الأمازون، ويضع حدًّا لهدفٍ مرصود. أمّا الفاعل، فقد يكون في غرفة مُكيَّفة الهواء، على كرسيّ مريح، أمام شاشة مرتبطة بكاميرا وشبكة تواصل. يكفي للآن. ما حصل في الدوحة باغتيال أو محاولة اغتيال إسرائيل لقياديّين في حركة “حماس”، مؤشِّر أنّ الموت صار بمتناول الجميع، لا عصمة لأحد من أحد. الشرير يملك قوّة ما، وهو المتحكِّم في عالم اليوم. للخانعين المستسلمين أمام “الآلهة” الجديدة التي تختزل القوّة المادّية والتكنولوجيّة، نذكّركم بالحادثة التالية: كتب كِسرى (أمبراطور فارس) إلى باذان عامله على اليمن في ذلك الحين، أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز (يقصد النبيّ، عليه الصلاة والسلام)، فليأتياني بخبره. فبعث باذان قهرمانه ورجلًا آخر، وكتب معهما كتابًا، فقدما المدينة، فدفعا الكتاب إلى النبيّ، فتبسّم رسول الله ﷺ، ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد. وقال: «ارجعا عنّي يومكما هذا، حتّى تأتياني الغد، فأُخبِركما بما أريد». فجاءاه من الغد، فقال لهما: «أبلغا صاحبكما أنّ ربّي قد قتل ربَّه كسرى في هذه الليلة». حينها كانت التكنولوجيا كلّها بيد كسرى… لكنّ القوّة دوما ما تكون لله… في كلّ زمان ومكان. مهما تبدلت التفاصيل أو تغيرت…
في سبتمبر/أيلول 2004، خرج شاب فلسطيني لم يتجاوز الثامنة عشرة، يضع لثامًا أسود يخفي ملامحه. ثلاث ساعات فقط فصلت بين تكليفه بالمهمة الأولى وصعوده إلى المنصة ليقرأ بيانًا عسكريًا باسم كتائب القسّام. كانت لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها صنعت ميلاد شخصية ستصبح لاحقًا واحدة من أكثر الرموز حضورًا في الصراع العربي–الإسرائيلي: أبو عبيدة لم يكن الفتى حينها يدرك أن دقائق قليلة خلف الميكروفون ستغيّر حياته للأبد. فقد حصل على مجموع دراسي يؤهله لدخول كلية الطب، لكنه اختار دراسة الشريعة. قرأ أول بيان رسمي قبل أن تطأ قدماه قاعة جامعية، واختار أن يحمل رسالة جماعية بدل أن يحمل حقيبة طبيب.صناعة أيقونةمنذ ذلك اليوم، لم يعد أبو عبيدة مجرد ناطق رسمي. صار صوتًا لمجتمع محاصر، ورمزًا إعلاميًا وعسكريًا في آن واحد. لثامه الأسود تحوّل إلى شعار للسرّية والمقاومة، وعيناه وسبابته أصبحتا لغة بصرية يحفظها الملايين.الإعلام الإسرائيلي نفسه أقرّ بأن ظهوره “يهزّ المعنويات”، إذ يرتبط اسمه غالبًا بالإعلان عن عمليات نوعية أو رسائل تهديد مباشرة. تقارير عبرية عام 2021 ذكرت أن اسمه تكرر في نشرات الأخبار العبرية أكثر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية.خطبة في زمن الحربخطابه مزيج بين نبرة الواعظ ولغة القائد العسكري. فهو يستشهد بالآيات القرآنية، ويستحضر التاريخ، ويطرح تهديدات محددة. هذه اللغة جعلت بياناته ذات وقع مزدوج:عربيًا: مصدر إلهام ورفع للمعنويات.إسرائيليًا: إنذار وتحذير يترقبه الجنود وعائلاتهم بقلق.أظهرت إحصاءات لوسائل الإعلام أنه:خلال حرب 2021، تصدّر اسم “أبو عبيدة” الترند على تويتر 14 مرة في دول عربية وإسلامية.في حرب 2023–2024، حققت أول كلمة له بعد اندلاع المواجهة أكثر من 50 مليون مشاهدة في 48 ساعة عبر الفضائيات والمنصات الرقمية.اظهر استطلاع رأي أجراه مركز فلسطيني عام 2023 أن 70% من الشباب الفلسطيني يعتبرون أبو عبيدة رمزًا للقوة والصمود. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بعينين وسبابَةوراء لثام أسود، لم يظهر من وجهه سوى العينين. ومع كل خطاب، كان يرفع سبابته للتأكيد على رسالته. هذه الإشارات تحوّلت إلى لغة بصرية كاملة؛ انتشرت في رسوم وكاريكاتيرات وميمز على مواقع التواصل، لتصبح جزءًا من الثقافة الشعبية العربية.في مقابل عشرات الزعماء العرب الذين يملكون جيوشًا ودولًا، ظهر هو بجسد نحيل وصوت متعب ليؤكد أن الرمزية لا تُقاس بحجم الدولة، بل بحجم الفعل والإصرار.حين يتكلم اللثامالأثر الأكبر لأبو عبيدة ربما لم يكن عسكريًا بقدر ما كان نفسيًا. ففي حرب 2014، حين أعلن عن أسر الجندي شاؤول آرون، سُجّلت في إسرائيل واحدة من أكبر حالات الصدمة الجماعية، إذ تضاعفت مكالمات العائلات إلى خطوط الجيش بنسبة 40% في يوم واحد.في حرب 2023–2024، بمجرد أن ألمح إلى مصير بعض الأسرى الإسرائيليين، تصدّر نشرات الأخبار العبرية، متجاوزًا تصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع. محللون نفسيون إسرائيليون وصفوا خطابه بأنه جزء من “المعركة على الوعي”.يعتمد أبو عبيدة على أسلوب “التصعيد الموزون”: يبدأ بآية أو دعاء، ثم يطلق وعدًا أو تهديدًا محددًا، قبل أن يذكّر بواقعة سابقة تحققت، ما يعزز المصداقية. وبحسب تقديرات مراكز بحث إسرائيلية، فإن 70% من وعوده العسكرية في العقدين الأخيرين تحققت كليًا أو جزئيًا، ما جعل بياناته موثوقة في نظر الجمهور الإسرائيلي قبل العربي.لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية: نيلسون مانديلا كتب بياناته من السجن، وتشي غيفارا صار رمزًا عالميًا بفضل صوره وخطاباته. لكن المختلف في حالة أبو عبيدة أن الفضاء الرقمي ضاعف أثره، فجعل بيانه الصادر من غزة يصل إلى جاكرتا وإسطنبول خلال دقائق. لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية ظهور أخير.. أم بداية جديدة؟ في آخر تسجيلاته، ظهر أبو عبيدة بملامح متعبة وصوت مثقل، لكنه حافظ على نبرة التحدي. كأنما يودّع أو يوصي، أو يفتتح فصلًا جديدًا. "يا أحرار هذا العالم …”.. لم تكن الكلمات دعاءً عابرًا، بل تلخيصًا لمسيرة بدأت في عمر الثامنة عشرة حين وُضع اللثام، واستمرت حتى صار رمزًا لجيل بأكمله يعيش بالحرب ويتكلم بالبيان.