الفكرة أقوى من…القنبلة


بينما كان العالم غارقًا في صخبه اليومي، بين ضجيج الملاعب وصالات السينما ومنصّات التواصل، كانت في غزّة أيادٍ أخرى تكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الصراع.
في أحد الأنفاق المحاصَرة، وتحت سماءٍ لا ترى فيها سوى طائرات استطلاعٍ وعدسات عدوٍّ متربّص، أعادت كتائب القسّام، الذراع العسكري لحركة حماس، هندسة قنبلة أمريكيّة الصنع من طراز MK-84 ــ لم تنفجر بعدما أُلقيت على القطاع ــ لتتحوّل إلى سلاح فلسطيني ميداني دقيق دمّر دبابة “ميركافا” وجرافة مصفّحة في عمليّةٍ نوعيّة وصفت بأنّها من أكثر الضربات تأثيرًا منذ اندلاع الحرب
قنبلة تعود من الموت
ليست القنبلة MK-84 قطعة حديد عاديّة. إنّها من أثقل وأخطر القنابل في الترسانة الأمريكيّة، تُستخدم عادةً لتدمير المطارات والجسور والتحصينات الخرسانيّة. لكنّها في غزّة، تحت الحصار، تحوّلت إلى سلاحٍ من صنعٍ فلسطيني بالمعنى الكامل للكلمة.
بعمليّة هندسة عكسيّة نفّذها خبراء المقاومة بإمكانات محدودة، أُعيد توظيف أداة دمارٍ صُنعت لتُبيدهم، لتصبح سلاحًا يردّ به الفلسطيني على من ألقاها.
هي مفارقة تختصر المشهد: تحويل القهر إلى قدرة، والركام إلى فكرة، والدمار إلى ابتكار.
العمليّة لم تكن مجرّد ضربة تكتيكيّة؛ لقد كانت بيانًا سياسيًّا وعقائديًّا بامتياز. بيانًا يقول إنّ المقاومة في غزّة قادرة على أن تُنتج أدواتها، وأنّ الاعتماد على الخارج ليس شرطًا للتحرّر، بل أحيانًا عائقٌ أمامه.
الاستقلال لا يُقاس بعدد الحلفاء
منذ سنوات، تُحاصَر حركة حماس بالأسئلة الكبرى:
هل هي جزء من محورٍ إقليمي؟ هل تتحرّك بأجندة خارجيّة؟ هل تقاتل بقرارها أم بقرار غيرها؟
لكنّ مشاهد القنبلة المُعاد تشغيلها من تحت الركام جاءت كإجابة أبلغ من أيّ تصريح.
فالذي يصنع سلاحه من حطام قنابل عدوّه، والذي يبتكر في العراء، ويقاوم بلا مصانع ولا حدود مفتوحة، لا يمكن وصفه إلا بأنّه مقاوم ينتمي إلى الأرض.
في الواقع، أثبتت تجربة غزّة أنّ الاستقلال الوطني لا يعني العزلة، بل القدرة على اتخاذ القرار من داخل الذّات الجماعيّة، بعيدًا عن وصايات التمويل أو أجندات العواصم.
فكل مقاومة ترتبط بمشروع خارجي تُفرّغ مع الوقت من مضمونها، وتتحوّل من أداة تحرّر إلى أداة نفوذ.
أمّا المقاومة التي تستمدّ قوّتها من معاناة شعبها، فهي وحدها التي يمكن أن تُعبّر عن وجعه وكرامته في آنٍ واحد.
عبقريّة تحت الحصار
من الناحية التقنيّة، لا يمكن التقليل من حجم الإنجاز العسكري الذي أظهرته هذه العمليّة. فإعادة هندسة قنبلة أمريكيّة ثقيلة وتحويلها إلى عبوة أرضيّة فعّالة تتطلّب خبرات هندسيّة معقّدة، ودقّة عالية في التعامل مع المتفجّرات، وقدرة على التشغيل الآمن في ظروفٍ ميدانيّة قاسية.
لكن خلف التقنيّة هناك ما هو أعمق: عقلٌ مقاوم يؤمن أنّ الحصار لا يُطفئ الذكاء، بل يشحذه. لقد تحوّلت غزّة، رغم قيودها، إلى مختبرٍ مفتوح للإبداع العسكري المحلّي، وميدانٍ حيّ يُنتج فكرًا وتكنولوجيا مقاومة لا تُشبه إلا نفسها.
جيل الوعي لا جيل اللهو
البيان الإعلامي لكتائب القسّام لم يكتفِ بعرض تفاصيل العمليّة، بل قدّم صورة رمزيّة لجيلٍ جديد من المقاومين — جيلٍ وُلد بين القصف، تربّى في المساجد، واشتدّ عوده في ساحات المواجهة لا في صالات اللهو.
جيلٌ يحفظ القرآن قبل أسماء اللاعبين، ويعرف معنى الشهادة قبل أن يحفظ أسماء الممثّلين.
قد تبدو اللغة عاطفيّة، لكنّها في عمقها رسالة اجتماعيّة: هذا الجيل لا ينتظر العالم، ولا يراهن على مؤتمرات السلام، بل يصنع توازنه الداخلي بين الإيمان والعلم، بين التقوى والابتكار، بين الروح والميدان.
من الميدان إلى الفكرة
حين نحاول قراءة الحدث بعيدًا عن الانبهار الإعلامي، نجد أنّنا أمام تحوّلٍ نوعي في فلسفة المقاومة الفلسطينيّة:
لم تعد حماس تقاتل لتثبت الوجود فقط، بل لتُعيد صياغة مفهوم المقاومة نفسه — من كونه ردّ فعلٍ على العدوان، إلى فعلٍ وطني مستقل يصنع معادلته الخاصّة.
بهذا المعنى، تتحرّر حماس — تدريجيًّا — من صورة “الوكيل الإقليمي”، وتقترب أكثر من مفهوم “المقاومة السياديّة”، التي تُحدّد ميدانها وتختار أدواتها وفق المصلحة الوطنيّة الفلسطينيّة لا سواها.
ليست العمليّة الأخيرة مجرّد تدمير دبابة وجرافة، بل إعادة تعريف للمعركة. ففي زمنٍ تتسابق فيه القوى على النفوذ عبر الوكلاء، تبدو تجربة حماس أشبه بإصرارٍ على إثبات أنّ القرار الوطني لا يُمنَح، بل يُصنَع.
