في صباح السبت السادس والعشرين من يوليو 2025، ودّع لبنان والعالم العربي أحد أعظم رموزه الفنية والثقافية، الموسيقار والمسرحي والمفكر زياد الرحباني، الذي رحل عن عمر ناهز التاسعة والستين عامًا، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا وفكريًا لا يُقدر بثمن، وفراغًا لن يملأه أحد في المشهد الثقافي العربي رحل زياد قبل أن نعرف فعلاً “بالنسبة لبكرا شو؟”، وقبل أن تنتهي فصول “الفيلم الأميركي الطويل” الذي فضح تفاصيله على خشبات المسرح وفي شوارع السياسة الموجوعة. لكننا نعرف — كما كان يقول — إنو “الإنسان ما بموت إلا ما تجي ساعتو… أي ساعة تقريبًا؟ في ساعتو بينه وبين ربّه الواحد، بس الواحد بيتكل عالله وبيمشي”. ابن العائلة الذهبية الذي اختار طريقه الخاص ولد زياد عاصي الرحباني في الأول من يناير عام 1956، في قلب عائلة تنتمي إلى أرستقراطية الفن العربي. أمه نهاد حداد، المعروفة بـ”فيروز”، صوت لبنان الذي طاف العالم، ووالده عاصي الرحباني، نصف الثنائي الأسطوري “الأخوين رحباني” الذي أعاد تعريف الموسيقى والمسرح العربي في القرن العشرين. لكن زياد، منذ نعومة أظفاره، أبى أن يكون مجرد امتداد لإرث عائلته العريق. في سن السادسة، كان يقطع واجباته المدرسية ليحكم على ألحان والده الجديدة، وفي السابعة من عمره، بدأ يدندن ألحانًا من تأليفه، مما دفع والده عاصي للتساؤل بدهشة: “أين سمعت هذا اللحن من قبل؟”، ليجيب الطفل ببراءة: “لم أسمعه مطلقًا، بل هو يتردد في ذهني منذ حين”. هكذا اكتشف عاصي الرحباني أن ابنه يحمل في داخله موهبة موسيقية استثنائية، لكنها موهبة ستأخذ مسارًا مختلفًا تمامًا عن المسار الذي رسمته العائلة. في عامي 1967 و1968، وهو لا يزال في الحادية عشرة والثانية عشرة من عمره، كتب زياد أولى أعماله الأدبية بعنوان “صديقي الله”، وهي مجموعة شعرية كشفت عن عمق فكري مبكر ونضج روحي لافت لطفل في هذا العمر. هذه الأعمال، التي تنبأت بولادة “شاعر مهم” كما وصفها النقاد لاحقًا، كانت بمثابة الإعلان الأول عن شخصية زياد المتمردة والمستقلة. لكن الموسيقى كانت تجري في عروقه كالدم. في عام 1971، وهو في الخامسة عشرة من عمره، قدم أول لحن له لأغنية “ضلك حبيني يا لوزية”، معلنًا دخوله الرسمي إلى عالم التلحين. وفي عام 1973، في لحظة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، قدم زياد أول لحن لوالدته فيروز، وكان ذلك عندما كان والده عاصي في المستشفى. كانت الأغنية “سألوني الناس”، التي كتب كلماتها عمه منصور الرحباني، ولحنها زياد البالغ من العمر سبعة عشر عامًا فقط. الأغنية التي تحكي عن غياب الحبيب، كانت في الواقع تعبيرًا عن غياب عاصي عن المسرح، وقد لاقت نجاحًا جماهيريًا كاسحًا، ودهش الجمهور للرصانة الموسيقية لهذا الشاب اليافع وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده. المسرح السياسي: مرآة الواقع اللبناني المؤلم بعد نجاح “سألوني الناس”، طلبت إحدى الفرق المسرحية اللبنانية من زياد كتابة مسرحية أصلية، فكانت “سهرية” عام 1973، أولى مسرحياته التي نسخت في البداية شكل مسرحيات الأخوين رحباني، لكنها كانت مجرد البداية لثورة مسرحية حقيقية. مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، رفض زياد أن يستمر في تقديم المثالية الحالمة التي ميزت مسرحيات والده وعمه. اختار بدلاً من ذلك أن يواجه الجمهور بالواقع المر، بالحقيقة العارية، بالألم اليومي الذي يعيشه الشعب اللبناني. هكذا ولدت مسرحيات “نزل السرور” و”شي فاشل” و”بالنسبة لبكرا شو؟” و”فيلم أميركي طويل”، التي تحولت إلى أيقونات في المسرح العربي المعاصر. هذه المسرحيات لم تكن مجرد عروض ترفيهية، بل كانت مرايا تعكس الواقع اللبناني بكل تعقيداته وتناقضاته. كانت تتناول الفساد السياسي، والطائفية، والتبعية للخارج، والظلم الاجتماعي، بأسلوب ساخر لاذع، يجعل المشاهد يضحك ويبكي في الوقت نفسه. في السنوات الأخيرة من حياته، اختار زياد الرحباني الابتعاد عن الأضواء والإعلام. لم يكن هذا هروبًا أو يأسًا، بل كان موقفًا فكريًا وسياسيًا. كان يرفض المشاركة في المهرجانات والفعاليات التي ترعاها الحكومات أو الشركات التي لا تتماشى مع مبادئه شيوعي بلا مساومات لم يكن زياد الرحباني فنانًا يقف على الحياد في المعارك السياسية والاجتماعية. منذ شبابه المبكر، تبنى الفكر اليساري والشيوعي، وانتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ولم يخف يومًا انتماءه هذا أو يتراجع عنه حتى في أصعب الظروف. كان زياد يؤمن بأن الفن رسالة، وأن المثقف عليه مسؤولية تجاه شعبه ووطنه. لم يكن من النوع الذي يبحث عن الشهرة أو المال، بل كان يبحث عن الحقيقة والعدالة. هذا الموقف جعله يدفع ثمنًا باهظًا أحيانًا، حيث تعرض للمضايقات والتهديدات، لكنه لم يتراجع قيد أنملة عن مبادئه. في مقالاته الصحفية التي نشرها في جرائد “النداء” و”النهار” و”الأخبار”، كان زياد يكتب بجرأة وصراحة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في لبنان والمنطقة. كان ينتقد الفساد والمحسوبية والطائفية بلا هوادة، ويدعو إلى التغيير الجذري في البنية السياسية والاجتماعية. فلسطين في القلب: حب بلا حدود إذا كان هناك قضية واحدة احتلت مكانة خاصة في قلب وعقل زياد الرحباني، فهي القضية الفلسطينية. لم تكن فلسطين بالنسبة له مجرد قضية سياسية، بل كانت قضية إنسانية وأخلاقية وحضارية. كان يرى في النضال الفلسطيني رمزًا لنضال جميع المظلومين في العالم. في زمن الانحيازات السافرة والتسويات الفارغة، ظل زياد صادقًا مع قلبه وعقله. لم يُبالِ بالمزايدات ولا بالمقامات السياسية، كان فلسطيني الهوى والانتماء، منحازًا إلى المظلوم لا إلى العناوين. غنّى لفلسطين ولمخيماتها، بكلمات ساخرة أحيانًا، دامعة أحيانًا، لكنها دائمًا صادقة. ساند اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ليس من موقع المتعاطف، بل من موقع الشريك في المعاناة والمصير. رفض أن يُعامل الفلسطيني كغريب، واعتبره من نسيج البلد، من قهره اليومي وكرامته المحاصَرة. هذا الموقف لم يكن مجرد شعارات، بل ترجمه في أعماله الفنية وكتاباته ومواقفه العملية. الموسيقى الثورية: تجديد بلا حدود على الصعيد الموسيقي، كان زياد الرحباني ثائرًا حقيقيًا. لم يكتف بوراثة التقاليد الموسيقية العريقة من والده وعمه، بل سعى إلى تطويرها وتجديدها وإدخال عناصر جديدة عليها. مزج بين الموسيقى الشرقية التقليدية والموسيقى الغربية الحديثة، وأدخل آلات موسيقية جديدة، وابتكر إيقاعات وألحانًا لم تكن مألوفة في الموسيقى العربية. كان زياد عازف بيانو ماهر، وقد استخدم هذه الآلة بطريقة مبتكرة في أعماله، مما أضفى على موسيقاه طابعًا خاصًا ومميزًا. لم يكن يؤلف الموسيقى للتسلية فقط، بل كان يستخدمها كوسيلة للتعبير عن أفكاره ومشاعره ومواقفه السياسية والاجتماعية. من أشهر أعماله الموسيقية للمغنية فيروز: “أغنية أنا عندي حنين”، “أغنية حبيتك بنسيت النوم”، “أغنية مش قادرة أقول”، “أغنية صاح خلقي”، وغيرها من الأعمال التي تحولت إلى كلاسيكيات في الموسيقى العربية. الكاتب والمفكر: قلم لا يعرف المجاملة إلى جانب موهبته الموسيقية والمسرحية، كان زياد الرحباني كاتبًا ومفكرًا من الطراز الأول. كتاباته، سواء كانت مقالات صحفية أو نصوص مسرحية أو كلمات أغاني، تتميز بالعمق والذكاء والسخرية اللاذعة. كان يكتب بلغة الشعب، بلهجة لبنانية عامية، لكنه كان يحمل في طياتها فلسفة عميقة ونقدًا اجتماعيًا وسياسيًا حادًا. لم
رحل زياد.نعم، رحل زياد الرحباني صباح اليوم السبت، في 26 تموز 2025، وتركنا في منتصف “فيلم أميركي طويل”… ذاك الفيلم الذي لا تنتهي مشاهده، والذي يواصل محاولاته المحمومة لإنهاء أحلامنا في بناء دولة وطنية ديمقراطية عادلة، تجمع ولا تفرّق، تحضن أبناءها لا تعتاش على صراعاتهم.زياد، الذي لطالما رفض أن يكون مجرد فنان، رفع الغطاء منذ بداياته عن أكاذيب “الدور اللبناني” المزعوم، وعن سذاجة الطوباوية السياسية.في مسرحيته الشهيرة “بالنسبة لبُكرا شو؟”، عرّى الواقع الطائفي المتآكل، وفي “فيلم أميركي طويل” أعاد تمثيل معاناة اللبنانيين تحت رماد الحرب الأهلية، مظهراً أن البلد الذي يُعاد بناؤه باستخدام الأدوات نفسها—الطائفية، المحاصصة، تقاسم الحصص بين الزعماء—هو مشروع فاشل قبل أن يبدأ.رحل عنا الفنان، المثقف، المتمرّد، صاحب الرؤية المسبقة لمآلات الوطن، الذي لم يتوقف يومًا عن طرح السؤال المؤلم: إلى أين؟لا أريد الإطالة. لكنني أذكر حادثة شخصية، حصلت خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982. كنت حينها في العاصمة، التي كانت تئنّ تحت وطأة القصف، وانقطاع الكهرباء، وانعدام المياه وسائر مقوّمات الحياة.في أحد الأيام، استطعت شراء عدة صناديق من قوارير مياه الشرب. حملت أحدها إلى صديقي خالد الهبر، وطلبت منه أن يسلّم صندوقًا آخر إلى زياد، الذي كان يقيم بالقرب منه.لكن زياد رفض.قال للهبر: “كيف بدك إياني أحمل الصندوق وأمرّ من قدّام كل الجيران اللي مش لاقيين نقطة مي؟ شو بكون أحسن منهم؟”رفض الماء… وفضّل أن يعاني كغيره، دون تمييز، في مدينة تعاني كلها من الحصار والجوع والعطش.ذلك هو زياد الذي عرفناه وخسرناه: إنسان قبل أن يكون فنانًا، مواطن قبل أن يكون ابن السيدة فيروز، رجل اختار أن يحيا متساويًا مع الناس، لا فوقهم.فقدنا زياد الرحباني الإنسان، في زمن فقدت فيه البشرية إنسانيتها، وهي تقف صامتة أمام عطش وجوع أهل غزة، تمامًا كما صمتت من قبل أمام وجع بيروت.رحل زياد، لكن كلماته باقية، وموسيقاه لا تزال تنبض على أرصفة المدن الخائفة.تركنا في وسط الفيلم، لكنه علمنا كيف نكتب النهاية.