رحل زياد. نعم، رحل زياد الرحباني صباح اليوم السبت، في 26 تموز 2025، وتركنا في منتصف “فيلم أميركي طويل”… ذاك الفيلم الذي لا تنتهي مشاهده، والذي يواصل محاولاته المحمومة لإنهاء أحلامنا في بناء دولة وطنية ديمقراطية عادلة، تجمع ولا تفرّق، تحضن أبناءها لا تعتاش على صراعاتهم. زياد، الذي لطالما رفض أن يكون مجرد فنان، رفع الغطاء منذ بداياته عن أكاذيب “الدور اللبناني” المزعوم، وعن سذاجة الطوباوية السياسية. في مسرحيته الشهيرة “بالنسبة لبُكرا شو؟”، عرّى الواقع الطائفي المتآكل، وفي “فيلم أميركي طويل” أعاد تمثيل معاناة اللبنانيين تحت رماد الحرب الأهلية، مظهراً أن البلد الذي يُعاد بناؤه باستخدام الأدوات نفسها—الطائفية، المحاصصة، تقاسم الحصص بين الزعماء—هو مشروع فاشل قبل أن يبدأ. رحل عنا الفنان، المثقف، المتمرّد، صاحب الرؤية المسبقة لمآلات الوطن، الذي لم يتوقف يومًا عن طرح السؤال المؤلم: إلى أين؟ لا أريد الإطالة. لكنني أذكر حادثة شخصية، حصلت خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982. كنت حينها في العاصمة، التي كانت تئنّ تحت وطأة القصف، وانقطاع الكهرباء، وانعدام المياه وسائر مقوّمات الحياة. في أحد الأيام، استطعت شراء عدة صناديق من قوارير مياه الشرب. حملت أحدها إلى صديقي خالد الهبر، وطلبت منه أن يسلّم صندوقًا آخر إلى زياد، الذي كان يقيم بالقرب منه. لكن زياد رفض. قال للهبر: “كيف بدك إياني أحمل الصندوق وأمرّ من قدّام كل الجيران اللي مش لاقيين نقطة مي؟ شو بكون أحسن منهم؟” رفض الماء… وفضّل أن يعاني كغيره، دون تمييز، في مدينة تعاني كلها من الحصار والجوع والعطش. ذلك هو زياد الذي عرفناه وخسرناه: إنسان قبل أن يكون فنانًا، مواطن قبل أن يكون ابن السيدة فيروز، رجل اختار أن يحيا متساويًا مع الناس، لا فوقهم. فقدنا زياد الرحباني الإنسان، في زمن فقدت فيه البشرية إنسانيتها، وهي تقف صامتة أمام عطش وجوع أهل غزة، تمامًا كما صمتت من قبل أمام وجع بيروت. رحل زياد، لكن كلماته باقية، وموسيقاه لا تزال تنبض على أرصفة المدن الخائفة. تركنا في وسط الفيلم، لكنه علمنا كيف نكتب النهاية.