في انتظارِ العودةِ “الميمونة” لرئيسِ بلديّةِ صيدا من سفرِ الأُنسِ والفرفشةِ في برشلونة، وبانتظارِ رجوعِ “رئيسِ الظلّ” من رحلةٍ تسَيِّرُ أعمالَه واستثماراته الخارجيّة، من المُرتقَبِ أن تكونَ الجلسةُ المقبلةُ للمجلسِ البلديّ جلسةً مصيريّةً متفجِّرةً، وإنْ حاول بعضُ الأطرافِ سحبَ فتيلِها بمسكّناتٍ تدريجيّة. أمّا الموضوعُ “التهريبة”، فهو طلبُ إدارةِ معملِ النفاياتِ في صيدا الاستحواذَ على قطعةِ أرضٍ تابعةٍ للبلديّة، تبلغُ مساحتُها نحو 20 ألف مترٍ مربّع، تحتَ ذريعةِ استقدامِ آلاتٍ جديدةٍ ضخمة، والمباشرةِ—كما يدّعي القائمون على معملِ “علي بابا”—بعمليّاتِ الفرزِ وإعادةِ التدوير، وصولًا إلى الوعدِ “الموهوم” بتخليصِ المدينةِ من جبلِ الزبالةِ في فترةٍ لا تتعدّى السنةَ والنصف إذا تمّ لهم ذلك. المدينةُ سمعت قبل أيّام عرضًا ضبابيًا قدّمه مديرُ المعملِ وفريقُه، عرضٌ يمكنُ اختصارُه بعبارة: «نريدُ الأرض… والباقي لاحقًا». لكنّ المفارقةَ الصادمة، كما تنقلُ مصادرُ مطّلعة، أنَّ اللجنةَ البلديّةَ المكلّفةَ بملفّ النفايات، وتحديدًا رئيسَها، إضافةً إلى بعضِ نشطاءِ المجتمعِ المدنيّ الذين ملأوا الدنيا شعاراتٍ عن البيئةِ والصحّةِ والشفافيّة، وخاضوا غمارَ السياسةِ تحت هذه العناوين، تحوّلوا فجأةً إلى درعٍ بشريٍّ يدافعُ عن المعملِ أكثر ممّا يدافعُ أركانُه عن أنفسِهم. دفاعٌ يطرحُ أسئلةً أكبر من كلّ الجبالِ المتعفّنةِ المحيطةِ بتلك المنشأةِ المريبةِ جنوبيَّ المدينة. وفيما ينتظرُ الصيداويّون «دراسةَ العُمر» عن كيفيّةِ إزالةِ الجبلِ الذي يخنقُ المدينة، تتكشّفُ الحقيقةُ المرّة: تواطؤٌ ناعمٌ وخبيثٌ عن جهلٍ أو عن سبقِ إصرارٍ، يسهّلُ لمعملِ الموتِ الاستيلاءَ على أملاكٍ عامّةٍ كان يُفترضُ أن تكونَ واجهةً سياحيّةً تُشرّفُ مدينةً ساحليّة. لكن، بدل البحرِ والهواءِ والضوء، يحصلُ الناسُ على رائحةِ فسادٍ تُشبهُ ما ينبعثُ من مغارةِ علي بابا حين تُفتحُ أبوابُها. الضحايا؟ أهلُ صيدا، الذين يُدفَعون اليوم ثمنَ رعونةٍ رسميّةٍ قاتلة، ودهاءٍ مُعتِمٍ ينسابُ بين ممرّاتِ المعملِ ولِجانه. مصادرُ مطّلعةٌ تؤكّدُ لصحيفة ـ«البوست» أنَّ الاستيلاءَ تحت عنوانِ الإيجارِ ليس سوى تمهيدٍ لجلبِ ماكيناتٍ جديدةٍ لتحويلِ النفاياتِ إلى وقودٍ يُرسَلُ لصالحِ معملِ سبلين للترابة. اتفاقيّةٌ «بروائحَ نفّاذة» وُقّعت بين الطرفين، على حسابِ صحّةِ الناسِ وبيئةِ المدينة…
أبدى أحدُ المرشّحينَ “المغمورين” والمحتملين لخوضِ غمارِ الانتخاباتِ النيابيّةِ المقبلة في صيدا، استعدادَهُ لدفعِ مبلغِ مليون دولار أميركيّ بدايةً، و”بالأكياسِ السوداء” التي تُشبهُ تجارتَهُ المريبة، لإحدى القوى السياسيّة النافذة من خارج المدينة، لقاءَ حصولِه على دعمٍ ومباركةٍ تُمهِّدان لتبنّيه مرشّحًا مدعومًا من قِبلها. وأعلنَ الطامحُ “الموهوم” كما علمت صحيفة “البوست” أنّهُ مستعدٌّ لدفعِ مثلِ هذا المبلغ داخل المدينة أيضًا لقوى محلّيّة، إذا ما تمَّ الاتفاقُ معها على تجييرِ أصواتِها لصالحه في حالِ ترشّحه عن المقعدِ السُّنّي في صيدا. ولهذه الغاية، يستخدمُ شبكةً من الوسطاءِ الذين لم يلقَوا حتى الآن أيَّ تجاوبٍ إيجابيٍّ من القوى والمفاتيح الانتخابية التي تمّ استطلاعُ آرائِها، وذلك لعدمِ جدِّيّته وافتقاره لأدنى مقوّمات الخوض في اللعبة السياسيّة بجدارة.
“الحقّ لا يُفهمُ إلّا بالعقل، ولا يُفرَض إلّا بالمعرفة.” — ابن رشد تخيّلوا للحظة أن ابن رشد، الفيلسوف الإسلامي والمفكّر الذي تحدّى الجهل ورفع لواء العقل، ظهر فجأةً في صيدا، وجلس على منبر المسجد العمري الكبير. ليست زيارة عابرة، بل اختبار مباشر للعقل، درس حيّ في الفلسفة، ومواجهة صريحة مع السياسة اللبنانية بكل عبثيّتها المعاصرة جلس المواطنون حول المنبر، بعضهم حائر، وبعضهم متعطّش للحقيقة. رفع شابٌ يده بتردّد، سائلاً عن الانتخابات النيابية المقبلة. ابتسم ابن رشد وقال:“لا تجعلوا التقليدَ أعظمَ من الفهم، ولا الطائفةَ أعمى من العقل. مَن يبيع عقلَه للجاهل، لا يملك الحقّ في الحديث باسم الأمّة.” رسالة الفيلسوف كانت واضحة: صوت الناخب مسؤولية ثقيلة، وما لم يُمارَس بالوعي، سيظلّ المجتمع رهينة الفوضى والوعود الزائفة. السلطة والحكمة… والاستغلال التفت ابن رشد إلى المفتي وبعض رجال الدين وخاطبهم بصراحة:“لقد منحكم الدينُ نفوذًا عظيمًا، فلا تُفسدوه بحماية الفساد أو تسييس الطائفة. الحكمة لا تُشترى بالمال، والعقل لا يُخضع للسلطة.” ساد الصمت، وهمس البعض: “كيف يجرؤ على قول هذا؟” لكن ابن رشد أكمل “الصمتُ عن الظلم أو الرضا به خيانةٌ للعقل والحق. الدِّين ليس أداة للسياسة، بل منهج للفهم والحكمة.” الفكرُ الحرُّ حِصنُ الأمّة. والسكوتُ عن الخطأ مشاركة في الظلم. مَن يلتزم بالواقع كما هو بلا نقد… شريكٌ في الفساد الانتخابات… رومانسية عبثية حاول رئيس البلدية وبعض السياسيين تسويق مشاريع وهمية ووعود تنموية. نظر إليهم ابن رشد بقسوة “مَن يسعى للمجد الشخصي على حساب المصلحة العامة فقد خان نفسه والناس. السُّلطة بلا عقل، والحكم بلا معرفة… فساد ودمار.” ضحك البعض بسخرية، لكن ابن رشد رفع حاجبه وقال “الضحكُ على العقل… لا يغيّر الحقيقة.” كانت الانتخابات أمامه مسرحية عبثية: مال سياسي، ولاءات طائفية، شعب يُستدرج بوعودٍ لا أساس لها من الواقع. صرخة الفكر الحر إلى المثقفين، وجّه ابن رشد نظرةً حادّة “الفكرُ الحرُّ حِصنُ الأمّة. والسكوتُ عن الخطأ مشاركة في الظلم. مَن يلتزم بالواقع كما هو بلا نقد… شريكٌ في الفساد.” تغيّرت وجوه الحاضرين: بعضهم شعر بالإلهام، وبعضهم بالحرج. فمسؤوليّة المثقف، كما قال، لا تنتهي عند التحليل بل تمتدّ إلى المواجهة والشجاعة ورفض الطائفية. لحظة المواجهة: حوارات متخيّلة سياسي: “يا ابن رشد، كيف نحكم مجتمعًا متشابكًا وطائفيًا بهذا التعقيد؟”ابن رشد: “بالعقل… لا بالخوف أو الولاء الأعمى.” المفتي: “الدّين يجب أن يحمي الاستقرار…”ابن رشد: “الدين يحمي العقل والحقيقة… لا الطائفية ولا الجهل.” شاب: “كيف نبدأ التغيير؟”ابن رشد: “بالوعي… بالمساءلة… وبالفكر الحر. من يرفع صوته ضد الفساد يزرع بذور النهضة.” العقلانية ليست رفاهية لم يغادر ابن رشد المنبر قبل أن يرفع صوته برسالته الأخيرة “الناس لا يُرشَدون إلا بالعلم، ولا يُحكَم عليهم إلا بالعقل.” زيارته الافتراضية لصيدا كانت صرخةَ عقلٍ في وجه الفوضى اللبنانية، وتذكيرًا بأن النهضة تبدأ من: حرية التفكير المحاسبة الفردية والجماعية رفض المصالح الضيّقة كسر الطائفية والسياسة القائمة على الخوف وفي صيدا، كما في كل لبنان، يبقى العقل الحرّ الدرع الوحيد ضد العبث والطائفية والفساد. من يختار الصمت، يشارك في الجريمة. ومن يرفع صوته بالعقل والمعرفة، يزرع بذور النهضة الحقيقية. ابن رشد لم يأتِ ليحكي تاريخًا أو فلسفة، بل ليذكّرنا أن الحرية تبدأ من الفكر، والعدل من الشجاعة، والمستقبل من مواجهة الحقيقة بلا خوف. فهل سنستمع؟ أم ستظل صيدا مرآةً للفساد والعبث، حتى يثور العقل فيها؟