تحميل

إبحث

ماذا لو

ناجي العلي…يرسم صيدا

naji_saida_landscape_with_realistic_features

حلم لم يبصر الضوء (العدسة الذكية)

قُدِّرَ للفنان ناجي العلي أن يعود؟ أن تطأَ قدماهُ أرضَ صيدا التي يعرفها جيداً من جديد، عائدًا كما عرفناهُ دومًا، لاجئًا يحملُ وطنَهُ في حقيبةِ الذكرياتِ، وريشتَهُ حادَّةً كشفرةٍ لم تثلمْها سِنو الغيابِ؟ أيَّ صيدا كان سيلقى؟
ماذا لو؟

هل كانت ستستقبلُهُ المدينةُ التي فتحتْ ذراعيها ملجأً للمطرودين والمعذَّبين، أم كان سيرى أشباحَ الخذلانِ وقد نسجتْ خيوطَها القاتمةَ على جدرانِها العتيقةِ، تُخفي تجاعيدَ الوجعِ والخيبةِ؟

”حنظلةُ”، ذلك الطفلُ الأبديُّ الشاهدُ على العارِ، أين كان سيُديرُ ظهرَهُ هذه المرةَ؟ أعلى أعتابِ مخيمٍ يلفظُ أنفاسَهُ تحتَ وطأةِ البؤسِ، أم على بوابةِ بلديةٍ تتلاعبُ بها أهواءُ السياسةِ والمصالحِ؟

ماذا كانت سترسمُ ريشتُهُ الحرةُ؟ زُرقةَ البحرِ المشتهى أم أسوارَ الحصارِ الخانقِ؟ شموخَ القلعةِ الصامدةِ أم شواخصَ المقابرِ الجماعيةِ المحفورةِ في ذاكرةِ الناسِ وجراحِهم التي لا تندملُ؟

جزء من التكوين

لم تكنْ صيدا مجردَ محطةٍ عابرةٍ في رحلةِ لجوئِهِ الطويلةِ؛ لقد كانتْ جزءًا من تكوينِهِ الأولِ بعدَ النكبةِ. ففي مخيمِ عينِ الحلوةِ القريبِ منها، ترعرعَ الطفلُ ناجي، وتشربتْ روحُهُ مرارةَ المنفى وقسوةَ الواقعِ الجديدِ. هناكَ، بينَ أزقةِ المخيمِ الضيقةِ ونظراتِ الأمهاتِ الحزينةِ، وُلِدَ الغضبُ المقدسُ الذي سيُترجمُ لاحقًا إلى خطوطِ “حنظلةَ” الصارخةِ.

انتمى ناجي لجنوبِ لبنانَ ولمخيمِهِ بقدرِ ما انتمى لقريتِهِ “الشجرةِ” ولأرضِ فلسطينَ، فكانتْ صيدا ومخيمُها شاهدينِ على بداياتِ وعيِهِ السياسيِّ ومقاومتِهِ الأولى بالقلمِ على الجدرانِ، قبلَ أن يُصبحَ صوتَ المقهورينَ وضميرَ القضيةِ.

 

في عيونِ ناجي العلي الثاقبةِ، لم تكنْ صيدا مجردَ حجارةٍ وأزقةٍ وبشرٍ. كانت أكثرَ من ذلك بكثير؛ كانت مفترقَ طرقٍ حادًّا ومؤلمًا، تتقاطعُ فيهِ دروبُ الوطنِ المسلوبِ مع متاهاتِ المنفى الموحشِ، وتتصارعُ فيهِ راياتُ المقاومةِ الصادقةِ مع ظلالِ التواطؤِ الخفيِّ والعلنيِّ.

ربما كان سيرسمُها مدينةً تتنفسُ بصعوبةٍ بالغةٍ من خاصرتِها المطعونةِ، حيثُ كلُّ شيءٍ يبدو هشًّا ومهدَّدًا بالزوالِ: حاراتٌ تحتضرُ، مقاماتٌ تُنتهكُ حرمتُها، مخيماتٌ تغرقُ في اليأسِ، وكرامةٌ تُداسُ على أرصفةِ الصفقاتِ والمساوماتِ.

ويكبر في الغضب

وحنظلةُ، ذلك الضميرُ المتقدُ في ريشةِ ناجي، كان سيكبرُ فجأةً، ليس في العُمرِ، بل في الغضبِ والألمِ… لحظةً واحدةً فقط، يرفعُ فيها إصبعَهُ المشاكسَ، ليس ليُشيرَ، بل ليتَّهمَ ويُحذِّرَ، صارخًا في وجهِ الجميعِ بلا وجلٍ: “هذهِ صيدا… هذهِ بقيةُ الوطنِ ورمزُ الجرحِ… فلا تبيعوها في أسواقِ النخاسةِ السياسيةِ، ولا تصادروا حُلمَها بالعودةِ، لا باسمِ دينٍ يُستغلُّ، ولا باسمِ دولةٍ تتنكرُ لأبنائِها”.

ماذا لو عادَ ناجي العلي حقًّا؟ لربما كانت ريشتُهُ ستعجزُ عن الرسمِ هذه المرةَ… لربما كان سيكتفي بأن يصرخَ صرخةً مدويةً تهتزُّ لها أركانُ المدينةِ الصامتةِ… ثم يمضي، تاركًا وراءَهُ ظلَّ حنظلةَ يبكي وحدَهُ على ما آلتْ إليهِ الأمورُ…

حنظلةُ، ذلك الضميرُ المتقدُ في ريشةِ ناجي
كان سيكبرُ ليس في العُمرِ، بل في الغضبِ

بعد
قبل
العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا