إسماعيل الصفوّي…مسلولاً

في مثل هذا اليوم تَعودُ بنا الذكرى إلى رحيلِ رَجُلٍ غَيَّرَ وَجْهَ إيرانَ والعالَمِ الإسلاميِّ، إسماعيلُ الصفويُّ، الذي يُنسَبُ إليهِ قَتْلُ ما يَربو على مليونِ مُسلِمٍ، وتحويلُ إيرانَ قَسْرًا مِنَ المذهبِ السُّنِّيِّ إلى المذهبِ الشِّيعِيِّ. لم يَكُنْ هذا التحوُّلُ مُجَرَّدَ تغييرٍ عقائديٍّ، بل كانَ خِنْجَرًا مَسمومًا في ظَهْرِ الفتوحاتِ الاسلامية المُتَوَجِّهَةِ صَوْبَ أوروبّا، إذ تَسَبَّبَ غَدْرُهُ في تَوَقُّفِها
لم يَكتَفِ الصفوي بذلكَ، بل تَآمَرَ معَ القُوى الأوروبيةِ كإسبانيا والبرتغالِ، داعيًا إيَّاهُم لاحتلالِ دِيارِ العَرَبِ، لِيُصْبِحَ بذلكَ مُؤَسِّسَ الحاجِزِ الإيرانيِّ الذي ما زالَ يَفْصِلُ بينَ العَرَبِ وعُمْقِهِم الآسيويِّ، ضارِبًا بذلكَ وَحْدَةَ الأُمَّةِ في الصَّميمِ.
لقد كانَ إسماعيلُ الصفويُّ، الذي لُقِّبَ بـ”الشيطانِ” أكثرَ مِن تَلقيبِهِ بـ”السلطانِ”، هو حَجَرُ الزاويةِ في تأسيسِ الدولةِ الصفويةِ في إيرانَ، مُتَوَّجًا نَفْسَهُ شاهًا (1501-1524)، ومُدَّعِيًا القيادةَ الدينيةَ التي شَرَّعَتْ لِحُكْمِ سُلالَتِهِ. إنَّ قيامَ الدولةِ الصفويةِ على أنقاضِ التاريخِ الإيرانيِّ، وفَرْضَها للمذهبِ الشيعيِّ الاثنَي عَشَرِيِّ كمذهبٍ رسميٍّ للدولةِ، يُمَثِّلُ نُقطةَ تَحَوُّلٍ فارقةً، لم تَقْتَصِرْ آثارُها العميقةُ على تاريخِ إيرانَ فَحَسْبُ، بل امْتَدَّتْ لِتُلْقِيَ بظِلالِها الكثيفةِ على مُجْمَلِ تاريخِ العالَمِ الإسلاميِّ.
شخصيةٌ تَكتَنِفُها الخُطورةُ
يُعَدُّ إسماعيلُ الصفويُّ، بلا أدنى شَكٍّ، مِن أخطرِ الشخصياتِ التي مَرَّتْ في تاريخِ المسلمينَ الطويلِ. فهل تَناهى إلى أسماعِكُم صَدَى محاكِمِ التفتيشِ المُرَوِّعَةِ في الأندلسِ، تلكَ المحاكِمُ التي اجْتَثَّتْ جُذورَ الإسلامِ هناكَ وحَوَّلَتْها إلى رُبوعٍ كاثوليكيةٍ؟ لقد استَنْسَخَ إسماعيلُ الصفويُّ ذلكَ المشروعَ المُظْلِمَ في قَلْبِ إيرانَ، فارِضًا بِحَدِّ السيفِ تَحَوُّلَها مِنَ العقيدةِ السُّنِّيَّةِ إلى التَّشَيُّعِ.
يَنتَسِبُ إسماعيلُ إلى والِدِهِ حيدرَ الصفويِّ، الذي نَسَجَ حَوْلَ نَفْسِهِ هالةً مِنَ القداسةِ، مُدَّعِيًا انتماءَهُ لآلِ البيتِ النبويِّ الشريفِ، ومُستَميلًا بذلكَ قُلوبَ سَبْعِ قبائلَ تركمانيةٍ نافذةٍ – الرّوملو، والشّاملو، والأُستاجلو، والأفشار، والقاجار، والتَّكيلو، والذُّولقَدَر (الزولكدار). مِن هؤلاءِ، شَكَّلَ الصفويُّ جيشًا عقائديًّا عُرِفَ بـ”القِزِلباش” (ذَوي الطَّواقِي الحَمراءِ)، كانَ هو الأداةَ التي مَكَّنَتِ ابنَهُ إسماعيلَ لاحقًا مِنِ استغلالِ الفُرْقَةِ والانقساماتِ الداخليةِ في إيرانَ، لِيُحْكِمَ قَبْضَتَهُ عليها ويُوَحِّدَها تحتَ رايَتِهِ عامَ 1503م.
ومِنَ المفارقاتِ أنَّ الرَّجُلَ الذي كانَ لهُ الفضلُ الأكبرُ في صُعودِ إسماعيلَ، مُعَلِّمُهُ ومُرْشِدُهُ وقائدُ جيشِ القِزِلباشِ، وزيرُهُ حسين بَك شاملو، الذي أدارَ دَفَّةَ الحُكْمِ وسَيَّرَ الجيوشَ، لم يَجْرُؤْ على الطَّمَعِ في العَرْشِ، وقد تَشَرَّبَ فكرةَ قداسةِ الأُسرةِ الصفويةِ وعُلُوِّ شَأْنِها.
عَصَبِيَّةٌ تَضْرِبُ بِجُذورِها في القِدَمِ
وبِمُجَرَّدِ أنْ أحْكَمَ قَبْضَتَهُ على إيرانَ المُوَحَّدَةِ، لم يَلْتَفِتْ إسماعيلُ الصفويُّ إلّا لِيُصَوِّبَ سِهامَهُ نحوَ جيرانِهِ مِنَ العَرَبِ والمسلمينَ، مُتَّبِعًا بذلكَ نَهْجًا عُدوانيًّا تُجاهَهُم، نَهْجٌ تَرى بعضُ الأقلامِ أنَّ ظِلالَهُ ما تَزالُ ماثلةً في سياساتِ إيرانَ المعاصرةِ. فقد أمْعَنَ في إراقةِ الدماءِ، مُرتَكِبًا مذابِحَ وحشيةً في بلادِ الأوزبكِ عامَ 1507م، ثمَّ في العراقِ عامَ 1509م. ولم يَكتَفِ بذلكَ، بل أهْدَرَ دَمَ كُلِّ مَن يَدَّعي الانتسابَ إلى الصحابيِّ الجليلِ خالدِ بنِ الوليدِ، في لَفْتَةٍ تَكْشِفُ عن عَصَبِيَّةٍ فارسيةٍ ساسانيةٍ مُتَجَذِّرَةٍ في أعماقِهِ.
شكلت تَحَرُّكاتِ الصفويِّ العسكريةَ في العراقِ تهديدًا مباشرًا لِعُمْقِ الدولةِ العثمانيةِ في الأناضولِ، والتي تُعَدُّ العامِلَ الأبرزَ في تَوَقُّفِ زَحْفِ الفتوحاتِ العثمانيةِ في أوروبّا. فقدِ اضْطُرَّ العثمانيونَ إلى نَقْلِ جيوشِهِم مِنَ الجَبَهاتِ الأوروبيةِ غربًا لِمُواجهةِ الخطرِ الصفويِّ شرقًا. وقد تَكَلَّلَتْ هذهِ المواجهةُ بنصرٍ عثمانيٍّ ساحقٍ في معركةِ جالديرانَ الشهيرةِ عامَ 1514م، حيثُ هَزَمَ السلطانُ العثمانيُّ سليمٌ الأولُ جيشَ الصفويينَ وقَتَلَ مُعَلِّمَ الشاهِ ووزيرَهُ حسين بَك شاملو.
وعلى إثْرِ ذلكَ النصرِ، دَخَلَ السلطانُ سليمٌ فاتحًا إلى تبريزَ، عاصمةِ الصفويينَ. لكنْ، ويالَلأسفِ، لم يُتِمَّ السلطانُ سليمٌ مَهَمَّتَهُ، فلم يُلاحِقْ فُلولَ الصفويينَ المُنْهَزِمينَ، ولم يَتَقَدَّمْ لتأمينِ حُدودِهِ الشماليةِ وتوطيدِ صِلاتِهِ بالقبائلِ التركيةِ في وَسَطِ آسيا، مِمّا كانَ سَيُقيمُ لهُ امتدادًا بَرِّيًّا استراتيجيًّا. بدلًا مِن ذلكَ، جاءَتِ المفاجأةُ مُدَوِّيَةً بانسحابِ السلطانِ سليمٍ وجيشِهِ مِن تبريزَ بعدَ أسبوعٍ واحدٍ فقط، لِتَدِبَّ الحياةُ مِن جديدٍ في الدولةِ الصفويةِ، والمستمرة بأشكال مختلفة…حتى اليوم.

مهما تكن النتائج التي ستفرزها الصناديق بعد أيام، أمام هكذا مشهد، صيدا هي الخاسر الأكبر مما يجري على أرضها. معارك ضيقة تُخاض بين أهل المدينة، بينما المعركة الوجودية الحقيقية تُخاض ضد أهلها… لكنها في مكان آخر.