غزة…مصائد الجوع والدم

في قلب قطاع غزة المحاصر، تتكشف يومياً فصول مأساة إنسانية جديدة تحت مسمى “المساعدات الإنسانية”. فما بدأ كخطة أمريكية-إسرائيلية لتوزيع المساعدات على الفلسطينيين المحاصرين، تحول إلى آلية معقدة تحمل في طياتها أهدافاً سياسية بعيدة المدى، وتكلفة بشرية باهظة تدفعها العائلات الفلسطينية يومياً
منذ إطلاق “هيئة إغاثة غزة الإنسانية” في 27 مايو 2025، والتي تديرها مؤسسة “غزة الإنسانية” بقيادة مسؤولين أمنيين أمريكيين متقاعدين مرتبطين بالحكومة الإسرائيلية، تحولت مراكز توزيع المساعدات إلى مسرح لمآسٍ يومية. الأرقام تتحدث عن نفسها: أكثر من 102 فلسطيني قتلوا في مراكز التوزيع، ومئات الجرحى، وعدد غير محدد من المفقودين في مواقع التوزيع التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي في وسط وجنوب القطاع.
رحلة القهر اليومية
مع كل فجر جديد في غزة، يتكرر نفس المشهد المؤلم. آلاف الفلسطينيين، منهكون من حصار خانق دام أكثر من ثلاثة أشهر، يحملون أكياسهم الفارغة ويتوجهون نحو مراكز توزيع المساعدات. إنها رحلة محفوفة بالمخاطر على طرق يستهدفها الجيش الإسرائيلي بالنيران بشكل متكرر، حيث يسقط بعضهم شهداء، بينما يعود آخرون حاملين كيس طحين ووجوههم ملطخة بالدم.
هذا المشهد اليومي ليس مجرد صدفة أو نتيجة عرضية للحرب، بل جزء من آلية مدروسة بعناية. فمراكز التوزيع تقام في مناطق “حمراء” مكشوفة وخاضعة بالكامل لسيطرة الجيش الإسرائيلي، مما يجعلها، كما تصفها حكومة غزة، “مصائد دم جماعية” تستدرج المدنيين الجائعين ليتم إطلاق النار عليهم عمداً.
أرقام تتحدث عن المأساة
الأيام الماضية شهدت سلسلة من المجازر المروعة في مراكز التوزيع. كان آخرها فجر الثلاثاء 3 يونيو 2025، حيث سقط 27 شهيداً وأصيب أكثر من 90 شخصاً في مجزرة مروعة بمدينة رفح. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل تمثل عائلات فقدت أعزاءها وهم يبحثون عن لقمة العيش.
المراقبون الحقوقيون والأمميون وصفوا آلية التوزيع بأنها “مهينة ومذلة”، حيث يُجبر المحتاجون على المرور داخل أقفاص حديدية مغلفة بأسلاك شائكة، في مشاهد شُبهت بممارسات النظام النازي. هذه الآلية لا تهدف فقط إلى توزيع المساعدات، بل إلى كسر كرامة الإنسان الفلسطيني وإذلاله.
الأهداف الخفية
كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير نشرته في 25 مايو أن الخطة الأمريكية-الإسرائيلية لتوزيع المساعدات صُممت لتحقيق عدة أهداف استراتيجية بعيدة عن الطابع الإنساني المعلن. أبرز هذه الأهداف:
أولاً: تقويض سيطرة حماس – تهدف الخطة إلى إضعاف نفوذ حركة حماس في القطاع من خلال السيطرة على آليات توزيع المساعدات والخدمات الأساسية.
ثانياً: تجاوز دور الأمم المتحدة – تسعى إسرائيل إلى إنهاء دور المنظمات الأممية في القطاع، والتي تتهمها بالتحيز ضدها، واستبدالها بآليات تسيطر عليها بشكل مباشر.
ثالثاً: التهجير القسري – يعترف المسؤولون الإسرائيليون بأن حصر التوزيع في أربع نقاط فقط في الجنوب يهدف إلى تسريع إخلاء سكان شمال القطاع، تمهيداً لتهجيرهم وفقاً لخطة أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
على الرغم من أن المسؤولين الإسرائيليين خططوا لنقل توزيع المساعدات من “المناطق الفوضوية الخارجة عن القانون” إلى مناطق خاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية، إلا أن الواقع على الأرض كان مختلفاً تماماً. فقد سمح الجيش الإسرائيلي لعصابات مسلحة خارجة عن القانون بالتدخل لتقويض سلطة الإدارة المحلية في القطاع، وإشاعة الفوضى بين السكان، ونهب المساعدات.
هذا التناقض يكشف عن طبيعة الخطة الحقيقية، التي لا تهدف إلى تحسين الوضع الإنساني، بل إلى خلق حالة من الفوضى المسيطر عليها تخدم الأهداف السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
مأساة إنسانية بوجه سياسي
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد أزمة إنسانية، بل مأساة مدبرة بعناية تستخدم الجوع والحاجة كأسلحة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. آلية توزيع المساعدات التي تحمل اسماً إنسانياً تخفي في طياتها مخططاً شيطانياً يهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وإجباره على الرحيل من أرضه.
كل صباح، يواجه آلاف الفلسطينيين خياراً مستحيلاً: البقاء في منازلهم والموت جوعاً، أو المخاطرة بحياتهم للحصول على كيس طحين قد يكلفهم حياتهم. هذا هو الواقع المرير في غزة اليوم، حيث تحولت المساعدات الإنسانية إلى مصائد موت، والبحث عن الطعام إلى رحلة نحو المجهول.
إن ما يحدث في غزة يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لوقف هذه المأساة الإنسانية، وضمان وصول المساعدات إلى المحتاجين دون تعريض حياتهم للخطر. فالحق في الحياة والكرامة الإنسانية لا يجب أن يكون رهينة للحسابات السياسية والعسكرية.
الوجه الجديد للسيطرة
تدير مؤسسة “غزة الإنسانية” عمليات التوزيع من خلال مسؤولين أمنيين أمريكيين متقاعدين مرتبطين بالحكومة الإسرائيلية وشخصيات من دائرة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. هذه المؤسسة بدأت توزيع طرود غذائية بكميات محدودة من مركز أنشأته غرب مدينة رفح، وأعلنت نيتها إنشاء أربعة مراكز إضافية في وسط وجنوب القطاع.
اختيار هذه المواقع ليس عشوائياً، بل يخدم استراتيجية واضحة تهدف إلى السيطرة على حركة السكان وتوجيههم نحو مناطق معينة، تمهيداً لتنفيذ مخططات التهجير القسري.
حذرت حكومة غزة ومنظمات حقوقية مثل المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من أن هذه الآلية تأتي تمهيداً لتهجير الفلسطينيين. هذه التحذيرات لا تأتي من فراغ، بل تستند إلى تحليل دقيق لسلوك الجيش الإسرائيلي وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين.
المنظمات الحقوقية الدولية وصفت ما يحدث بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وجريمة حرب تستخدم الجوع كسلاح ضد المدنيين. هذه الممارسات تندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية وفقاً لاتفاقية جنيف.