صيدا العطشى… الأزمة المعيبة المتكرِّرة


تُعاني مدينةُ صيدا، عاصمةُ الجنوبِ اللبناني، من أزمةِ مياهٍ خانقةٍ تتفاقم يومًا بعد يوم، لتُلقي بظلالها الثقيلةِ على حياةِ المواطنين، وتزيد من معاناتِهم في ظلِّ الأوضاعِ الاقتصاديةِ والمعيشيةِ الصعبةِ التي يمرُّ بها لبنان
لم تَعُد مشكلةُ انقطاعِ المياهِ في المدينةِ مجردَ حدثٍ عابرٍ، بل أصبحت واقعًا مريرًا يُهدِّدُ الصحةَ العامةَ والاستقرارَ الاجتماعي، ويدفع الأهالي للبحثِ عن حلولٍ فرديةٍ مكلفةٍ وغيرِ مستدامة. فما هي الأسبابُ الحقيقيةُ وراءَ هذهِ الأزمة؟ وما هي سُبُلُ العلاجِ المقترَحةُ لضمانِ حقِّ المواطنين في الحصولِ على المياهِ الصالحةِ للشربِ والاستخدام؟
تتعدَّدُ الأسبابُ التي أدَّت إلى تفاقمِ أزمةِ المياهِ في صيدا، لتشكِّلَ شبكةً معقَّدةً من التحدياتِ التي تواجهُ المدينةَ وسكَّانَها. يمكنُ إجمالُ هذهِ الأسبابِ في عدَّةِ محاورَ رئيسية:
انقطاعُ الكهرباء وشُحُّ المازوت
يُعدُّ انقطاعُ التيارِ الكهربائي المزمنِ في لبنان، وصيدا ليست استثناءً، أحدَ أبرزِ الأسبابِ المباشرةِ لأزمةِ المياه. تعتمدُ محطَّاتُ ضخِّ المياهِ بشكلٍ كبيرٍ على الكهرباءِ لتشغيلِ مضخَّاتِها، ومعَ الانقطاعِ المستمرِّ للتيارِ الكهربائي، تتوقَّفُ هذهِ المضخَّاتُ عن العمل، ممَّا يَحرِمُ آلافَ المنازلِ من المياه.
وفي ظلِّ هذا الواقع، تلجأُ مؤسَّساتُ المياهِ إلى تشغيلِ المولِّداتِ البديلةِ التي تعملُ على مادةِ المازوت. إلَّا أنَّ شُحَّ هذهِ المادةِ وارتفاعَ أسعارِها بشكلٍ جنونيٍّ، يجعلُ من تشغيلِ المولِّداتِ أمرًا مكلفًا وغيرَ مستدامٍ، ممَّا يُؤدِّي إلى توقُّفِها المتكرِّرِ وانقطاعِ المياهِ لساعاتٍ طويلةٍ أو حتى أيام.
الأزمةُ الاقتصاديةُ والمعيشية
تُلقي الأزمةُ الاقتصاديةُ التي يمرُّ بها لبنان بظلالِها على كافةِ القطاعات، بما في ذلك قطاعُ المياه. فمعَ تدهورِ قيمةِ الليرةِ اللبنانية، وارتفاعِ أسعارِ المحروقاتِ وقطعِ الغيار، باتت مؤسَّساتُ المياهِ عاجزةً عن صيانةِ وتطويرِ بُنيتِها التحتية، وتأمينِ المستلزماتِ الضروريةِ لتشغيلِ المحطَّات. هذا الوضعُ يدفعُ المواطنينَ إلى البحثِ عن بدائلَ مكلفةٍ، مثلَ شراءِ المياهِ من الصهاريجِ الخاصة، ممَّا يزيدُ من الأعباءِ الماليةِ عليهم في ظلِّ تآكلِ قدرتِهم الشرائية.
ضغطٌ غيرُ مسبوق
شهدت مدينةُ صيدا، خلالَ الفترةِ الماضية، نزوحًا كبيرًا لأعدادٍ هائلةٍ من السكَّانِ من بلداتِ الجنوبِ اللبناني، خاصَّةً تلكَ المتضرِّرةِ من العدوانِ الإسرائيلي. هذا النزوحُ المفاجئُ أدَّى إلى زيادةٍ غيرِ مسبوقةٍ في عددِ السكانِ داخلَ المدينة، وبالتالي ارتفاعٍ هائلٍ في استهلاكِ المياه. فاقمَ هذا التزايدُ في الطلب، في ظلِّ مواردَ مائيةٍ محدودةٍ وبنيةٍ تحتيةٍ متهالكةٍ، من مشكلةِ شُحِّ المياهِ، وجعلَ الكمياتِ المتوفرةَ غيرَ كافيةٍ لتلبيةِ احتياجاتِ الجميع.
تلوُّثُ المياه
لا تقتصرُ مشكلةُ المياهِ في صيدا على شُحِّها فحسب، بل تمتدُّ لتشملَ تلوُّثَ بعضِ مصادرِ المياه. تُشيرُ بعضُ التقاريرِ إلى أنَّ تلوُّثَ المياهِ يُمثِّلُ تحدِّيًا إضافيًّا، حيثُ يُقلِّلُ من مصادرِ المياهِ الصالحةِ للاستخدامِ البشري، ويزيدُ من الضغطِ على المصادرِ النقيَّةِ المتاحة. هذا التلوُّثُ يُهدِّدُ الصحةَ العامةَ للمواطنين، ويزيدُ من مخاطرِ انتشارِ الأمراض، ممَّا يستدعي تدخُّلًا عاجلًا لمعالجةِ هذهِ المشكلة.
سُبُلُ العلاج
تتطلَّبُ معالجةُ أزمةِ المياهِ في صيدا مقاربةً شاملةً ومتكاملةً تبحثُ في الأسبابِ الجذريةِ للمشكلة، وتضمنُ توفيرَ المياهِ بشكلٍ مستدامٍ لجميعِ المواطنين. يمكنُ تلخيصُ سُبُلِ العلاجِ المقترحةِ في النقاطِ التالية:
شمسُ صيدا تروي عطشَها
يُعدُّ التحوُّلُ نحوَ الطاقةِ البديلة، وخاصَّةً الطاقةِ الشمسية، حلًّا استراتيجيًّا لمشكلةِ انقطاعِ الكهرباءِ التي تُؤثِّرُ على تشغيلِ مضخَّاتِ المياه. فتركيبُ أنظمةِ طاقةٍ شمسيةٍ كافيةٍ لتشغيلِ محطَّاتِ ضخِّ المياهِ ومرافقِ مصلحةِ المياه، سيُقلِّلُ بشكلٍ كبيرٍ من الاعتمادِ على الكهرباءِ الحكوميةِ المتقطِّعة، ويضمنُ استمراريةَ ضخِّ المياهِ حتى في أوقاتِ انقطاعِ التيار. وقد بدأت بعضُ الجهاتِ في التفكيرِ في هذا الحلّ، وهو ما يجبُ أن يتمَّ تسريعُه وتعميمُه.
تأمينُ المازوتِ وتخزينُه
في المدى القصير، وحتى يتمَّ التحوُّلُ الكاملُ نحو الطاقةِ البديلة، يجبُ تأمينُ مخزونٍ احتياطيٍّ كافٍ من مادةِ المازوتِ للمدينة. هذا المخزونُ يمكنُ استخدامُه لتشغيلِ المولِّداتِ الاحتياطيةِ في محطَّاتِ الضخِّ خلالَ أوقاتِ الأزماتِ وانقطاعِ الكهرباء، ممَّا يضمنُ استمراريةَ توفيرِ المياهِ للمواطنين. يجب أن تكون هناك خطةٌ واضحةٌ لتأمينِ هذهِ المادةِ وتخزينِها بشكلٍ آمنٍ وفعّال.
تحسينُ البنيةِ التحتيةِ وصيانةُ الشبكات
تُعاني شبكاتُ المياهِ في صيدا من قدمٍ وتلفٍ يُؤدِّي إلى تسربِ كمياتٍ كبيرةٍ من المياه، ممَّا يزيدُ من مشكلةِ الشُّحّ. لذا، يجبُ البدءُ في مشروعٍ شاملٍ لصيانةِ وتحديثِ البنيةِ التحتيةِ للمياه، وإصلاحِ التسرباتِ، وتوسيعِ خطوطِ الخدماتِ لتشملَ جميعَ المناطق. كما يجبُ معالجةُ مشكلةِ تلوُّثِ المياهِ من خلالِ مشاريعِ تنقيةٍ ومعالجةٍ تضمنُ جودةَ المياهِ وصلاحيتَها للاستخدامِ البشري.
معالجةُ تداعياتِ النزوح
في ظلِّ وجودِ أعدادٍ كبيرةٍ من النازحينَ في صيدا، يجبُ وضعُ خططٍ عاجلةٍ لتأمينِ احتياجاتِهم من المياه، خاصَّةً في مراكزِ الإيواء. يمكنُ ذلكَ من خلالِ الاستعانةِ بالمنظَّماتِ الإنسانيةِ والدفاعِ المدني لتوفيرِ المياهِ بشكلٍ منتظم، وتوزيعِ غالوناتِ مياهِ الشرب، وتحسينِ البنيةِ التحتيةِ داخلَ مراكزِ الإيواء لتشملَ حمَّاماتٍ وغسَّالاتٍ كافية.
خطةُ عملٍ شاملةٌ ومستدامة
تتطلَّبُ أزمةُ المياهِ في صيدا وضعَ خطةِ عملٍ شاملةٍ وطويلةِ الأمد، لا تقتصرُ على الحلولِ المؤقَّتة. هذهِ الخطةُ يجبُ أن تتضمَّنَ رؤيةً واضحةً لتطويرِ قطاعِ المياهِ في المدينة، مع تحديدِ المسؤولياتِ والجهاتِ المعنيَّة، وتأمينِ التمويلِ اللازمِ لتنفيذِ المشاريعِ الحيوية. يجبُ أن تكونَ هذهِ الخطةُ نتاجَ تعاونٍ وتضامنٍ بينَ جميعِ الأطرافِ المعنيَّة: الحكومة، البلديات، مؤسَّسات المياه، المجتمع المدني، والقطاع الخاص.
الشفافيةُ ومحاربةُ الفساد
يجبُ على مؤسَّسةِ مياهِ لبنانَ الجنوبي والجهاتِ المعنيَّةِ أن تعملَ بشفافيةٍ كاملةٍ في إدارةِ ملفِّ المياه، وأن تتخذَ إجراءاتٍ صارمةً لمحاربةِ أيِّ شكلٍ من أشكالِ الفسادِ أو التلاعبِ بشبكاتِ المياه. فمنعُ السماسرةِ وتُجّارِ المياهِ من العبثِ بالشبكاتِ وقبضِ الرشاوى، سيساهمُ في ضمانِ عدالةِ التوزيعِ واستعادةِ ثقةِ المواطنينَ في المؤسَّساتِ الرسمية.
