تحميل

إبحث

في الصميم

“المهدي المنتظر” لآل الحريري…من “يا قوم” حتى مجدليون

bahaa_hariri_falling_palace

لم تكن “الڤيلا” على تلك التلة المُشرِفة على صيدا في بلدة مجدليون، مجردَ عقار. لم تكن يومًا مجردَ بناءٍ وغرفٍ وأثاثٍ وملاعبَ وحَرَسٍ وحدائقَ وولائمَ… كانت دومًا فكرةً وممارسة. باكورةَ الظهور للرجل ومشروعه، لذا كانت رمزًا لهامةٍ وحقبةٍ وعائلةٍ وإرثٍ، وبالتالي لِعِبْءٍ ليس من السهل حملُه.

أراد رفيق الحريري أن يعود إلى مسقط رأسه من عَلُوّ. أن يبقى على مقربةٍ من صيدا ولو ابتعد عنها قليلًا. يراها من كلّ جوانبِ المكان كيفما أشاح بوجهه. كانت الفكرةُ من البناءِ كلّه أن تبقى العينُ على صيدا، وهو ما حصل مع الأخت، المرأة التي حملت الأمانة وأكملت بحزنٍ مقيمٍ لا يعلمُه إلا مَن يعلم العلاقةَ بين رفيق وبهية. لكن للقدرِ شروطَه، ونحن أصغر من التمرّدِ عليها.

قد تختلفُ مع بهية الحريري في كثيرٍ من مواضعِ الحياةِ السياسية، في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وفي تفاصيلَ أخرى، لكن من الغباء أن تختلفَ معها في أنّها “سيّدةُ القصر” بلا منازع. ليس بالمعنى المسرحي، بل بالمَلْموسِ الفِعلي، فهي باتت أكبر من “الحيّز” نفسِه، بحيث يتبعها “المكان” أينما حلّت.

ألم تفهم ذلك يا بهاء؟ أَيُعقل أن تطلبَ من أمك الثانية، تحت أي ذريعة، مغادرةَ مكانِها، وإن لم يكن على الورق منزلَها؟ أَمِن قِلّةِ العقاراتِ في المدينة يا ابنَ رفيق الحريري؟ من وسوس لك عن قدرتك على منازلة بهية في صيدا؟ إن كنت لا تعلم، وأنت لا تعلم، صيدا تفتتن بالمال، لكنها تكره الثراء، وتميلُ فطريًّا إلى الفقراء.

لقد أسديتَ لعمتِك معروفًا كبيرًا في الاستحقاقِ النيابيِّ المقبل. لقد زاد التعاطفُ معها بأكثرَ من ٢٥٠٠ صوت، ردًّا على “مظلَمة” أختِ الرفيق في صيدا.

separator
صار لِزامًا على أحدٍ، من بابِ النُّصحِ وحُسنِ النية، أن يُمسكَ بأُذُنِ الرجلِ تحبُّبًا "ليَشمُطَها" كي يستفيقَ على الواقع. حتّى مع "لبنان الجديد"، و"عهد جديد"، و"عصر وصاية عربيّة وأميركيّة"، وفي ظلّ "فراغِ الزعامةِ السُّنّيّة" في البلد، لستَ قادرًا على أن تكونَ أكثر من فؤاد مخزوميٍّ ثانٍ

في معرض ردّه عند سؤاله عن بهاء الحريري، يقول أحد السياسيين اللبنانيين الكبار: “لا يمكن الركون إلى الرجل أو التنبؤ بأفعاله، لا يمكنك أن تثق أنك ستصل معه حتى نهاية هذا الكوريدور”، مشيرًا إلى آخر الردهة في مكتبه.

يرى بهاء الحريري في نفسه أنّه من طينةٍ مختلفة عن السياسيين في لبنان. يرى أنّه أهمُّ من أخيه، وأقوى، وقادر أن يكون “المخلّص”. على واقعيّته في عالم “البزنس”، يعاني الرجل من “لوثة” مستدامة وافتقارٍ للعمق الفكري، محرومًا بالمقابل من الكاريزما الشعبوية التي يمكن أن تُعوّض النقص في هكذا مواضع.

عدا عن مشاكل الفردية، يعاني بهاء من فريق العمل والمجموعات المحيطة به، والتي لم تنجح منذ صيحة “يا قوم” التي ردّدها كالببغاء من وراء مفتي البقاع الراحل الشيخ خليل الميس، حين صاح بتدافع الناس على قبر والده إلى اليوم في تحقيق “مكسب” ما.

مسيرة من الإخفاقات المتتالية دون إنجاز يُذكَر. وفي كلّ مرة يعود ليجرّب حظَّه من جديد، وعلى نَسَق نكتة “اللوتو اللبناني” الشهيرة: “إذا مش التلاتا، الخميس”. أَلَم يتسنَّ له الوقت ليسأل نفسه: لماذا يحصل معي هذا؟

طروحاتٌ كبيرة و”عدّة شُغل” لا تصلح لإيصال مختار عن حيّ الدكرمان إلى مكتب في السراي، ولا يزال الرجل يظنّ بين الحين والآخر أنّه قادر أن يعود من جديد حتى يفرض نفسه باعتباره “المهدي المنتظر” لآل الحريري.

صار لزامًا على أحدٍ، من باب النصح وحُسن النيّة، أن يُمسك بأذن الرجل تحبُّبًا “ليشمطها” كي يستفيق على الواقع. حتى مع “لبنان الجديد” و”عهد جديد” و”عصر وصاية عربية وأميركية”، وفي ظلّ “فراغ الزعامة السنّية” في البلد، لستَ قادرًا على أن تكون أكثر من فؤاد مخزومي ثانٍ، في أحسن الأحوال. اكتفِ بتمويل مَن يملك القدرة ولا يملك المال، تكون قد أنجزت، وإلّا فنحن أمام مسرحية جديدة للقاءاتٍ ووفودٍ ستسألك مجدّدًا عن الفارق بين السمك والطاووق. لا أكثر.

تخيّل أن بهاء مُقتنع بمحاربة حزب الله وحلفائه وطروحاته وسلاحه وهيمنته في لبنان، برأس حربةٍ اسمه “جيري”، ومدير تسويقٍ سابق في أحد المصارف المتعثّرة، باعتباره مرجعًا في السياسة والإعلام. فعلًا، لا يعدو الأمر كونه مسلسل كرتون تربَّينا على فصوله المضحكة، لكن هذه المرّة القطُّ هو من سيربح، لا الفأر.

separator

الفيلا والحزن وشواهد الزمن

يَقِفُ قصرُ آل الحريري في مجدليون شاهدًا حزينًا على أربعةِ عقودٍ من التاريخ السياسيّ اللبنانيّ. هذا المبنى الفخم، الذي شيّده الرئيس رفيق الحريري في ثمانينيّات القرن الماضي، تحوّل من مجرّد مسكنٍ عائليّ إلى أحدِ أهمّ مراكزِ القرارِ السياسيّ في لبنان.

اليوم، يشهد هذا القصرُ منعطفًا تاريخيًّا جديدًا مع قرار النائبة السابقة بهيّة الحريري إخلاءه لصالح ابن شقيقها بهاء الحريري، في خطوةٍ تحمل دلالاتٍ عميقة حول مستقبل الإرث السياسيّ لعائلة الحريري، والتحوّلات الجارية في المشهد السياسيّ اللبنانيّ.

اختيارُ رفيق الحريري لهذا الموقع لم يكن عشوائيًّا. فالرجل الذي بنى إمبراطوريّة أعمالٍ في السعوديّة أدرك أهميّة الرمزيّة في السياسة اللبنانيّة. أراد مكانًا يجمع بين القرب من مسقط رأسه صيدا، والإطلالة المهيبة التي تعكس مكانته المتنامية.

بدأ بناء القصر في أوائل الثمانينيّات، في فترةٍ كان فيها الحريري لا يزال في المملكة العربيّة السعوديّة. استغرق المشروع عدّة سنوات، حيث أشرف الحريري شخصيًّا على كلّ التفاصيل، من اختيار مواد البناء إلى التصميم الداخليّ.

صُمّم القصر على الطراز المعماريّ العربيّ الحديث، مع استخدام الحجر اللبنانيّ الطبيعيّ في الواجهات، والأقواس التقليديّة التي تعكس الهويّة الشرقيّة. الحدائقُ المحيطة نُسِّقَت بعنايةٍ لتتناغم مع الطبيعة الخضراء للمنطقة.

استخدامُ الطرازِ المعماريّ الشرقيّ كان رسالةً واضحة حول الهويّة والانتماء. في وقتٍ كان فيه كثيرون من الأثرياء اللبنانيين يميلون إلى تقليد الطُّرُز الغربيّة، اختار الحريري التأكيد على جذوره العربيّة والإسلاميّة.

استقبل القصرُ شخصيّاتٍ لبنانيّة وعربيّة ودوليّة بارزة، من رؤساءَ ووزراءَ إلى سفراءَ ومسؤولين رفيعي المستوى. هذه اللقاءات لم تكن بروتوكوليّة، بل جلساتِ عملٍ حقيقيّة اتُّخِذَت فيها قراراتٌ مصيريّة أثّرت على مسار الأحداث في لبنان والمنطقة.

أصبح قصر مجدليون رمزًا للزّعامة السُّنّيّة في لبنان. الموقعُ في صيدا، مسقطِ رأس الحريري، أضفى شرعيّةً خاصّة على دوره السياسيّ. نجحت ثنائيّة مجدليون-قريطم (مقرّ الحريري في بيروت) في تكريس الحريري كزعيمٍ سُنّيّ على المستوى الوطنيّ.

مجدليون مثّل الجذورَ والأصالة، بينما مثّل قريطم الانفتاحَ والحداثة. هذا التوازنُ بين التقليد والحداثة كان من أهمّ عوامل نجاح الحريري في بناء قاعدةٍ شعبيّةٍ واسعة تمتدّ من الطبقات الشعبيّة إلى النُّخَب المثقّفة.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، انتقل دور إدارة القصر إلى شقيقته النائبة بهيّة الحريري. لم تكن مجرّد وريثةٍ للمكان، بل أصبحت الحارسة الأمينة لإرث أخيها السياسيّ والاجتماعيّ.

تحت إدارة بهيّة الحريري، حافظ القصر على دوره كمركزٍ للنشاط السياسيّ. استمرّ في استقبال الوفود والشخصيّات، وأصبح مركزًا لتنسيق أنشطة تيّار المستقبل في الجنوب، ونقطة انطلاقٍ للحملات الانتخابيّة. وكما قالت في إحدى المناسبات: “دارةُ مجدليون فيها بركةُ أمّ رفيق وأبو رفيق. من هنا انطلقت الرسالة التي لا يستطيع أحدٌ أن يُلغيَها، رسالةُ رفيق الحريري”.

قرارُ الانتقال إلى “الڤيلا الجديدة” في بلدة الهلاليّة أنهى حقبةً امتدّت أكثر من أربعين عامًا عاشتها بهيّة في القصر، حيث أصبحت رمزًا لاستمراريّة الإرث الحريري. قرارُها بالانتقال طوعًا كان محاولةً لتجنّب أيّ توتّرٍ عائليّ.

مع انتقال القصر إلى بهاء، تبرز تساؤلاتٌ حول مستقبل دوره ورمزيّته. وهل سيتمكّن بهاء من ملء الفراغ الذي ستتركه عمّتُه؟

ما هو مؤكّد أنّ قصرَ مجدليون سيبقى رمزًا مهمًّا في التاريخ السياسيّ اللبنانيّ. الذكرياتُ والأحداثُ التي شهدها على مدى عقود جعلته جزءًا لا يتجزّأ من التراث السياسيّ للبلاد.

هذا التطوّر قد يؤثّر على توازن القوى في الساحة السُّنّيّة، وقد يفتح المجال أمام تحالفاتٍ جديدة أو إعادة ترتيبٍ للخريطة السياسيّة. التنسيقُ بين أجنحةِ العائلة الحريريّة المختلفة سيكون عاملًا مهمًّا في تحديد مستقبل نفوذها.

العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا