على أعتاب اجتماعات اللجان المشتركة بين سوريا ولبنان، من المفيد أن نُذَكِّر الوفود اللبنانية بألا تُكرِّر الخطاب الممجوج ذاته: “سنترك من لم تتلطخ يداه بالدماء ولم يُتَّهم بالإرهاب”. هذه العبارة لم تعد سوى غطاء لتبرير العرقلة والتلاعب بمصير مئات المظلومين من السوريين واللبنانيين وغيرهم، وكأن القضاء اللبناني وأجهزته الأمنية مُفوَّضان لتطبيق الانتقائية بدل العدالة.
السؤال الكبير: من يملك الدليل القاطع على أنّ هؤلاء الموقوفين قتلوا عناصر الجيش؟ وهل كانت المؤسسات اللبنانية، الأمنية منها خصوصًا، على الحياد آنذاك، أم كانت طرفًا مباشرًا في المعركة التي انخرطت فيها فصائل لبنانية بدعم رسمي وتسهيلات لوجستية عبر الحدود؟
المحكمة العسكرية
لا يمكن تجاهل دور المحكمة العسكرية وأحكامها المعلَّبة في الغرف السوداء وقضاتها، وفي مقدمتهم القاضي المعروف بانتمائه محمد منير شحادة. وللتذكير، فإنّ لبنان بات دولة بوليسية بشهادة رؤساء حكومات من تمام سلام وصولًا إلى الحاضر. جميعهم أبطلوا وثائق الاتصال، لكن قراراتهم لم تساوِ الحبر الذي كُتبت به. تجاهل هذه الحقائق يفضح ازدواجية المعايير ويُسقط أي ادعاء بالعدالة.
ثم، ألا يحق لنا أن نسأل: ألم يتم إطلاق سراح محكومين بالمؤبد من فصائل سورية كانت موقوفة في رومية، ليُنقَلوا إلى عرسال ومنها عبر “الباصات الخضراء” بعد محاكمات أُعيدت خلال ليلة وضحاها؟ أليست هذه السابقة وحدها كافية لإسقاط كل الذرائع التي نسمعها اليوم؟
دماء زكية أم مسرحية؟
الحديث عن “دماء زكية” لم يعد سوى مسرحية مكشوفة. فالجميع يعلم أن ما جرى في لبنان كان نتيجة ردود فعل محدودة – نرفضها بالمطلق – لكنها جاءت كرد على تدخلات فجّة في الداخل السوري، شاركت فيها أطراف لبنانية بالسلاح والمقاتلين والتمويل. النتيجة أنّ الأبرياء دفعوا الثمن، فيما بقي الفاعل والمسبّب بلا محاسبة، ولا حتى اعتذار، بعدما انكشفت الحقائق للقاصي والداني.
الحديث عن “دماء زكية” لم يعد سوى مسرحية مكشوفة. فالجميع يعلم أن ما جرى في لبنان كان نتيجة ردود فعل محدودة
وللتذكير أيضًا: في لبنان مَن لم يتورع عن إرسال صهاريج الموت والمتفجرات إلى الداخل السوري، دون أن تتحرك مؤسسات الدولة لوقفه، رغم المناشدات المتكررة في حينها. فهل المطلوب اليوم تبييض صفحة الماضي عبر تسليم بضعة موقوفين غير متهمين لا بالإرهاب ولا بقتل العسكريين – فلماذا هم في السجن إذن؟ – كأوراق مقايضة سياسية مكشوفة؟
المساومات المفتوحة
إنّ أي استمرار في العرقلة يعني ببساطة أنّ لبنان الرسمي لا يريد الحل، بل يصرّ على إبقاء الملف مفتوحًا لمساومات لا تنتهي. وهذا خيار خطير لن يقود إلا إلى اهتزاز العلاقات مجددًا بين البلدين، وتحويل قضية إنسانية وسياسية عادلة إلى ورقة ابتزاز، خصوصًا بعد نجاح الثورة وصعود الثوار إلى الحكم في سوريا.
على بيروت أن تختار: إمّا شجاعة المواجهة والاعتراف بالأخطاء، أو البقاء أسيرة سياسات التواطؤ، التي لا تغطيها المحاكمات الصورية، ولا التصريحات الإعلامية، ولا الفبركات المكرورة، والتي لن تبقى في النهاية سوى نقاط سوداء في تاريخ هذه الحقبة ومن يديرها.