الهجوم على قطر .. و”الأسئلة الكُبرى”


لم يكن الهجومُ الإسرائيليُّ على قطر ومحاولةُ اغتيال قادة “حماس” حدثاً عابراً في مشهد الشرق الأوسط، بل محطةً فاصلةً تُهدِّد بإعادة رسم معادلات القوة والتحالفات، في ظلِّ ما طرحته من أسئلةٍ مصيريةٍ كُبرى: كيف ستردّ المنطقةُ على هذا الانفلات الإسرائيلي؟ وهل ما زالت “المظلّة الأميركية” للحماية كافية؟ وما مصير “الاتفاقيات الإبراهيمية” وسط هذا الزلزال؟
تبدو إسرائيل، في تصعيدها الأخير، كمن يراهن على منطق “القوة المطلقة”، فهي وجَّهت، باستهدافها لبلدٍ عربيٍّ له ثقله كقطر، رسالةً إلى كلِّ الشرق الأوسط بأنّها لا تعترف بأيِّ خطوطٍ حمراء، مع أنّها تعلم أنّ هذا “الجنون المحسوب” لن يمرّ مرور الكرام، وسيكون له تداعياتٌ وارتدادات.
فرصة ذهبية
في المقابل، لا يختلف اثنان على أنّ محور “الممانعة” يجد في ما تذهب إليه إسرائيل من تصعيد “فرصةً ذهبيةً”، لتوحيد المشاعر الشعبية العربية خلف خطابه، ولإعطائه مشروعيةً إضافيةً باعتباره يُقدِّم نفسه على أنّه “الجبهة الوحيدة” التي تُواجه أو تُقاوم إسرائيل، كما لو أنّ الأخيرة تنتشل محور “الممانعة” من مأزقه، وتهديه “أوراقَ قوة” من حيث لم يتوقّع!.
ما حصل لا يقف عند حدود التصعيد العسكري فحسب، بل يضرب في الصميم الدور القطري كـ”وسيطٍ محوريّ” لوقف الحرب على غزّة وتخفيف مآسي شعبها، ومن شأنه تقويض أيّ وساطةٍ عربيةٍ محتملة، وإضعاف أحد المسارات القليلة التي كانت توفِّر متنفساً إنسانياً وسياسياً للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
تصعيد مفتوح
كلّ ذلك يعني أنّ إسرائيل لا تريد حلولاً أو تسوياتٍ سلمية، بل تذهب إلى “تصعيدٍ مفتوح” يُضاعف من معاناة المنطقة، ويُواجه “إعلان نيويورك” الذي صدر عن المؤتمر الدولي الذي قادته المملكة العربية السعودية وفرنسا في تموز الماضي، وأقرّتْه قبل أيام، الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 142 صوتاً، من أجل تسويةٍ سلميةٍ تقوم على “حلّ الدولتين” وإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلّة.
لا شكّ أنّ سياسات إسرائيل الحالية تضع مستقبل حكومة نتنياهو المتطرِّفة على المحكّ، وترهن استمرارها بمدى قدرتها على إدارة أزماتٍ متلاحقة من دون أن تنفجر في الداخل قبل الخارج. فالتصعيد المستمر، وإن كان يُرضي قواعد اليمين الإسرائيلي على المدى القصير، إلا أنّه يُفاقم الانقسامات الداخلية، ويُضعف صورة إسرائيل أمام حلفائها. بكلامٍ آخر، كلّما توسَّعت مغامرات حكومة نتنياهو العسكرية، كلّما اهتزّت شرعيتها في الداخل والخارج معاً.
كما أنّ سياسات إسرائيل الحالية تضع أيضاً “الاتفاقيات الإبراهيمية” أمام اختبارٍ وجوديّ، خصوصاً وأنّها بُنيت على وعودٍ بالاستقرار والأمن والازدهار، ولكن، بعد ما حصل، هل تحوّلت هذه الاتفاقيات إلى عبءٍ على من وقّعها؟ وكيف يمكن إقناع الشعوب العربية بجدواها، إذا كانت إسرائيل نفسها قد تحوّلت إلى مصدر تهديدٍ مباشر لدولةٍ عربية مثل قطر؟!
أين أميركا؟
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه: أين الولايات المتحدة الأميركية من كلِّ ما يحصل؟
في قراءةٍ لمطلعين على السياسة الأميركية تسنّى لي اللقاءُ بهم مؤخراً، فإنّ الجنوح الإسرائيلي نحو التصعيد الدموي ينعكس سلباً على الولايات المتحدة الأميركية، ويضرب في الصميم ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى “جائزة نوبل للسلام”، بعد سلسلةٍ من المبادرات الدبلوماسية التي قام بها، من رعايته لـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”، مروراً بجهوده لوقف النزاع الروسي – الأوكراني، ووساطته في إنهاء الحرب القصيرة بين الهند وباكستان، وصولاً إلى دعمه لمسار السلام بين أذربيجان وأرمينيا، ومحاولاته لإطفاء النزاع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، وليس انتهاءً بمساعيه الأخيرة لوقف الحرب على غزّة.
لا شكّ أنّ خسارة ترامب لـ”نوبل السلام”، إن حصلت، لا يمكن أن تُقاس، بأيّ شكلٍ من الأشكال، بخسارة الولايات المتحدة الأميركية المحتملة لـ”ثقة العرب” بـ”المظلّة الأميركية” كـ”ضمانةٍ للأمن”، إذا ما استمرّ “عجز واشنطن” عن كبح جماح إسرائيل نحو التصعيد، وإذا ما استمرت في تبريره، ولم تقم بأيّ فعلٍ يُلزم إسرائيل بـ”خطوط حمراء”، وبوقف حرب غزّة، وبالاستجابة لـ”إعلان نيويورك”.
المربّع الوجودي
المؤكَّد اليوم أنّ الهجوم على قطر أعاد بالمنطقة إلى مربّع “الأسئلة الكُبرى”:
هل يستمرّ العرب في الاعتماد على “المظلّة الأميركية” إذا ما استمرّ الانحياز الأميركي المطلق إلى جانب إسرائيل، أم باتوا، اليومَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، أقربَ إلى بناء منظوماتٍ أمنيةٍ مستقلّة قائمة على الردع الذاتي والتحالفات المتوازنة مع قوى كبرى كالصين وروسيا؟
هل نشهد على تقاطعٍ عربيٍّ مع تركيا كقوةٍ إقليميةٍ لتشكيل “شبكة ردع” تُواجه أيَّ خطرٍ إسرائيليٍّ في المستقبل؟
هل سيكون “الجنون الإسرائيلي” فرصةً لإعادة رسم اصطفافٍ استراتيجيٍّ بين دول المنطقة، أم بدايةَ فوضى بلا نهاية؟
