الفَرَسُ الَّتي لَمْ تَرضَع مِن أُمِّها
في كُلِّ موسمٍ انتخابيٍّ في لُبنان، يُعادُ فَتحُ الصُّندوقِ ذاتِه: صُندوقُ المالِ السياسيِّ المُتَنَكِّرُ بوجهِ “الدَّعم”، وصُندوقُ الوِصايةِ المُتجدِّدُ بأسماءٍ جديدة.
يَتبدَّلُ اللاعبونَ وتَبقى اللُّعبةُ واحدة: مَن يَملِكُ الفَرَسَ، ومَن يَملِكُ حَليبَها.
تذكَّرتُ وأنا أُتابِعُ مَشاهدَ الحَراكِ الانتخابيِّ وتصريحاتِ بعضِ الرُّعاةِ الإقليميين، قِصَّةً قديمةً من التُّراثِ العربيّ، عنوانُها “العِرقُ دَسّاس”.
قِصَّةُ رجلٍ لم يَكُنْ في الحقيقةِ سوى مِرآةٍ تُعكِسُ طَبائعَ السَّلاطين، وتَفضَحُ وَهمَ النَّسبِ حين يُستبدَلُ الأصلُ بالتَّربية.
يُحكى أنَّ رجلًا دخلَ يومًا مملكةً، يطوفُ شوارعَها وهو يُنادِي بثقةٍ:
“أنا رجلٌ سياسيٌّ، أُصلِحُ ذاتَ البَيْنِ وأَحلُّ كُلَّ خِلافٍ.”
سَمِعَهُ المَلِكُ فاستدعاهُ وقالَ له: إن كُنتَ سياسيًّا فدُلَّني على حِكمتِكَ؛ لديَّ فَرَسٌ عَنيدةٌ لا يُفلِحُ أحدٌ في تَرويضِها، فَكُنْ أنتَ سائسَها.
ارتبكَ الرجلُ وقالَ: يا مولاي، أنا سياسيٌّ لا سائسُ خُيولٍ.
قالَ المَلِكُ: بل أنتَ سائسٌ إنْ أَمَرتُكَ، وإلَّا قَطعتُ رأسَكَ.
وهكذا بدأَ الامتحانُ الأوّل.
جَلَسَ الرجلُ في الإسطبلِ، وحاوَلَ التَّعامُلَ مع الفَرَسِ أيّامًا، ثُمَّ فَرَّ هاربًا.
لكنَّ حَرَسَ المَلِكِ قَبَضوا عليه، وسألهُ المَلِكُ غاضبًا: لِماذا هربتَ؟ هل في فَرَسي عَيْبٌ؟
قالَ الرجلُ وهو يَرتَجِفُ: أَمَنيَ على حياتي يا مولاي؟
قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.
فقالَ الرجلُ: فَرَسُكَ أصيلةٌ، لكنَّها لَمْ تَرضَعْ مِن حَليبِ أُمِّها.
ثارَ المَلِكُ واتَّهَمَهُ بالكَذِبِ وسَجَنَه.
لكنَّه ما لَبِثَ أنِ استدعى سائسَ الفَرَسِ القديمَ وسأله: مِن أينَ رَضَعَت فَرَسي؟
فقالَ السائسُ خائفًا: يا مولاي، ماتت أُمُّها عند الولادةِ، فأرضَعْتُها بَقَرةَ القصرِ كي لا تَموت.
أمَرَ المَلِكُ بإخراجِ الرجلِ مِن السِّجنِ، وسأله مَدهوشًا: كيف عَرَفتَ؟
قالَ الرجلُ: الفَرَسُ الأصيلةُ تَرفَعُ رأسَها حين تَبحَثُ عن العُشبِ، أمّا التي رُضِعَتْ مِن ضَرعِ البَقَرِ فَتُطأطِئُ رأسَها.
أُعجِبَ المَلِكُ بفِطنَتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ مُستشارًا للمَلِكَة.
عَمِلَ الرجلُ أيّامًا في القصرِ، ثُمَّ فَرَّ مُجدّدًا.
أُعيدَ مُقيَّدًا، وسألهُ المَلِكُ: ما الذي وَجَدتَهُ في زوجتِنا حتّى تَهرُبَ؟
قالَ الرجلُ: أمانُكَ يا مولاي؟
قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.
قالَ الرجلُ: زوجتُكَ مَلِكَةٌ، لكنَّها ليست ابنةَ مُلوكٍ.
غَضِبَ المَلِكُ، وزَجَّهُ في السِّجنِ ثانيةً، ثُمَّ شَدَّ رِحالَهُ إلى حَمَاهُ، وقالَ له والسَّيفُ على رَقبَتِه:
قُلِ الحقيقةَ، ما نَسَبُ ابنتِكَ؟
ارتجَفَ الرجلُ وأجابَ: ماتتِ ابنتي الحقيقيةُ صغيرةً، فتبنَّيتُ طِفلةً مِن الغَجرِ وربَّيتُها كابنتي.
عادَ المَلِكُ إلى مَملكتِه مَصدومًا، وأطلَقَ سَراحَ السجينِ وسأله: كيفَ عَرَفتَ أنَّ زوجتي مِن أصلٍ غَجَريٍّ؟
قالَ الرجلُ: الغَجرُ يَغمِزونَ حينَ يَتكلّمون، ومَلِكتُكَ كثيرةُ الغَمزِ في حديثِها.
أُعجِبَ المَلِكُ بحِكمتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ خادِمًا لأُمِّه. رَفَضَ الرجلُ، لكنَّ السَّيفَ أَقنَعَه. ومعَ كُلِّ وظيفةٍ جديدةٍ كانتِ المائدةُ تَتَّسِعُ: مِن وجبتينِ إلى دَجاجتينِ، ثُمَّ إلى خروفينِ في اليوم.
وبَعدَ أيّامٍ، هَرَبَ الرجلُ للمَرّةِ الثالثةِ.
قُبِضَ عليه وأُعيدَ إلى القصرِ، وسألهُ المَلِكُ: هذهِ المرّةَ ماذا وَجَدتَ في أُمِّنا؟
قالَ الرجلُ: لَستَ ابنَ المَلِكِ. أُصيبَ المَلِكُ بالذُّهولِ، وواجَهَ أُمَّهُ فاعترَفَت: كانَ زوجي عَقيمًا، ومعَ ذلكَ كانَ يَذبَحُ زوجاتِه إنْ لَم يُنجِبنَ.
كنتُ مُتزوِّجةً مِن طَبّاخِ القصرِ، وحينَ رآني المَلِكُ أَمَرَ بطلاقي وتزوَّجَني، ولم يَكُن يَعلَمُ أنَّني كنتُ حامِلًا منك.
أنتَ ابنُ الطَّبّاخِ، لا ابنُ المَلِكِ.
عادَ المَلِكُ إلى الرجلِ في سِجنِه وقالَ له غاضبًا: كيفَ عَرَفتَ هذا السِّرَّ العظيمَ؟
فأجابَهُ بابتسامةٍ باردةٍ: لأنَّ الملوكَ لا يُكافِئونَ بالطَّعامِ، وكُلُّ مكافآتِكَ لي كانت أطباقًا مِن اللَّحمِ والدَّجاجِ والخِراف… وهذهِ عادةُ الطَّبّاخينَ لا الملوكِ.
العرق دسّاس
في تلكَ الحِكايةِ القديمةِ المعرُوفةِ، أكثرُ مِن حِكمةٍ سياسيّةٍ واحدةٍ. فالعِرقُ حقًّا دَسّاس، والذينَ يَرضَعونَ مِن ضَرعٍ أجنبيٍّ لا يُمكنُ أنْ يَسيروا برأسٍ مرفوعةٍ، ولا أنْ يَتصرّفوا كأبناءِ وطنٍ حُرٍّ.
هكذا تَفقِدُ الفروسيّةُ معناها، حينَ يُصبِحُ السائسُ غريبًا، والمكافأةُ وجبةً، والمَلِكُ مُجرّدَ طَبّاخٍ يَظنُّ نفسَهُ سيّدًا على المائدة.
في لُبنانَ اليومَ، هُناكَ مَن يَلبسُ عَباءةَ “الوِصايةِ الأُخويّةِ” ويُقدِّمُ المالَ السياسيَّ كأنَّهُ حَليبُ حياةٍ، لكنَّهُ في الحقيقةِ يُربّي أجيالًا مِن “الخُيولِ” الّتي نَسيت رائحةَ أُمِّها، تَبحَثُ عن رِزقِها في أيدي المانحينَ لا في عَرَقِها.
مَن يَقبَلْ بالمالِ كَهُويّةٍ سياسيّةٍ، يَهبِطْ برأسِه كما فَعَلَت الفَرَسُ الّتي ظنَّها المَلِكُ أصيلةً. ومَن يَبيعْ قرارَهُ الانتخابيَّ مُقابلَ حُفنَةٍ مِن الدّولارات، يَنسَ أنَّهُ في جُمهوريّةٍ لا مَزرعةٍ، وأنَّ الكرامةَ ليست سِلعةً تُشترى في موسمِ صناديقِ الاقتراعِ. السّياسةُ، مِثلُ الفروسيّةِ، لا تُورَّث. إمّا أنْ تُولَدَ مِن رَحِمٍ حُرٍّ، وإمّا أنْ تَبقَى تَتصرّفُ كالبَقَرِ، تُطأطِئُ رأسَها لِمَن يُطعِمُها. فهل يَتعلَّمُ لُبنانُ، قبلَ أنْ يَفوتَهُ الحَليبُ مرّةً أُخرى، أنَّ الأصالةَ لا تُستورد؟ وأنَّ الفَرَسَ الّتي لَمْ تَرضَعْ مِن أُمِّها، قد تَركُضُ سريعًا... لكنَّها لا تَصِلُ أبدًا؟



