القرن الأفريقي على صفيح ساخن…إسرائيل تعترف بأرض الصومال
في خطوةٍ مفاجئة هزّت منطقة القرن الأفريقي وأثارت عاصفةً من ردود الفعل الدوليّة، أعلنت إسرائيل في 26 كانون الأوّل الجاري اعترافها الرسمي بجمهوريّة «أرض الصومال» (صوماليلاند) كدولةٍ مستقلّة وذات سيادة
لا يمثّل هذا الإعلان، الذي يجعل إسرائيل أوّل دولةٍ في العالم تتّخذ مثل هذا الموقف، مجرّد تتويجٍ لعقودٍ من سعي هرجيسا للحصول على الشرعيّة الدوليّة، بل يفتح أيضاً الباب على مصراعيه أمام تساؤلاتٍ عميقة حول الدوافع الاستراتيجيّة لتل أبيب، والانعكاسات الخطِرة لهذه الخطوة على استقرار المنطقة والنظام الدولي القائم.
دولة الأمر الواقع في قلب الجغرافيا
لفهم أبعاد القرار الإسرائيلي، لا بدّ من العودة إلى جذور قضيّة أرض الصومال. يقع هذا الإقليم، الذي أعلن استقلاله من جانبٍ واحد عام 1991، في موقعٍ جغرافيّ بالغ الأهميّة على ساحل خليج عدن، مطلّاً على أحد أكثر الممرّات الملاحيّة حيويّة في العالم، وهو مضيق باب المندب.
تاريخيّاً، كانت أرض الصومال محميّةً بريطانيّة، وحصلت على استقلالها في 26 حزيران 1960، ونالت اعترافاً من أكثر من 30 دولة، بما في ذلك إسرائيل نفسها في ذلك الوقت. لكنّ هذا الاستقلال لم يدم سوى أيّامٍ قليلة، إذ اختارت الوحدة مع الصومال الإيطالي (الذي استقلّ بعده بأيّام) لتشكيل جمهوريّة الصومال الموحّدة.
غير أنّ الوحدة سرعان ما واجهت تحدّياتٍ عميقة، بلغت ذروتها في الحرب الأهليّة الدامية التي أعقبت انهيار نظام الديكتاتور محمّد سيّاد برّي. وعلى إثر ذلك، وفي 18 أيّار 1991، أعلنت «الحركة الوطنيّة الصوماليّة» انفصال الإقليم مجدّداً، معيدةً ترسيم الحدود التي كانت قائمة في الحقبة الاستعماريّة.
منذ ذلك الحين، ورغم بناء مؤسّسات دولةٍ فاعلة، وإجراء انتخاباتٍ ديمقراطيّة، والحفاظ على استقرارٍ أمنيّ لافت مقارنةً بجارته الجنوبيّة، ظلّ الإقليم معزولاً دبلوماسيّاً، يصارع من أجل الحصول على اعترافٍ لم يأتِ إلّا بعد أكثر من ثلاثة عقود.
لماذا الآن؟
لا يمكن فصل القرار الإسرائيلي عن سياق التحدّيات الأمنيّة والجيوسياسيّة التي تواجهها تل أبيب، ولا سيّما في منطقة البحر الأحمر. ووفقاً لمحلّلين، تخدم هذه الخطوة أهدافاً استراتيجيّة متعدّدة الأبعاد:
أوّلاً: الأمن البحري وتأمين إيلات. شكّلت هجمات الحوثيّين من اليمن تهديداً مباشراً للملاحة المتّجهة إلى ميناء إيلات، ما كشف عن ثغرةٍ استراتيجيّة في عمق إسرائيل الجنوبي. ويوفّر موقع أرض الصومال، الذي لا يبعد سوى 300–400 كيلومتر عن الساحل اليمني، عمقاً استراتيجيّاً مثاليّاً لإسرائيل. إذ إنّ إقامة وجودٍ عسكريّ أو استخباراتي هناك، سواء عبر قاعدةٍ متقدّمة أو ترتيباتٍ أمنيّة، من شأنه أن يمنح تل أبيب قدرةً على الرصد والردّ المبكر على أيّ تهديداتٍ قادمة من جنوب البحر الأحمر، ويؤمّن حرّيّة الملاحة التي تُعدّ شرياناً حيويّاً لاقتصادها.
ثانياً: بناء التحالفات في أفريقيا. يأتي الاعتراف في إطار سياسةٍ إسرائيليّة أوسع لتعزيز نفوذها وبناء شراكاتٍ في القارّة الأفريقيّة، وهي سياسة تجلّت في «اتّفاقيّات أبراهام». ومن خلال هذه الخطوة، تقدّم إسرائيل نفسها شريكاً قادراً على تقديم المكافأة الأثمن التي تسعى إليها أرض الصومال، أي «الشرعيّة الدوليّة»، مقابل الحصول على حليفٍ استراتيجيّ في موقعٍ حيويّ.
ثالثاً: سابقة قانونيّة لخدمة أهدافٍ أخرى. تتزايد المخاوف من أن تكون هذه الخطوة مقدّمة لاستخدامها كسابقةٍ قانونيّة لتبرير سياساتٍ أخرى. فقد ربطت تقارير بين هذا الاعتراف وخططٍ إسرائيليّة مزعومة لتهجير الفلسطينيّين قسراً من غزّة، وهو ما نفته هرجيسا بشدّة، لكنّه يبقى مصدر قلقٍ في الأوساط العربيّة.
العالم في المواجهة
جاء الردّ على القرار الإسرائيلي سريعاً وحاسماً، إذ اصطفت غالبيّة الدول والمنظّمات الإقليميّة والدوليّة خلف الموقف الصومالي الرسمي، الذي اعتبر الخطوة «عدواناً سافراً» على سيادته ووحدة أراضيه. وقد تشكّل إجماعٌ دوليّ وعربيّ وإسلاميّ نادر ضدّ هذه الخطوة، يمكن تلخيص أبرز ملامحه في الآتي:
الموقف العربي والإسلامي الموحّد: صدرت إداناتٌ قويّة من جامعة الدول العربيّة، ومنظّمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي. كما أصدرت 21 دولة، من بينها السعوديّة ومصر وتركيا والجزائر وقطر، بياناً مشتركاً تاريخيّاً يرفض الاعتراف بشكلٍ قاطع، محذّرةً من تداعياته الخطِرة على الأمن الإقليمي.
الرفض الأفريقي: سارع الاتّحاد الأفريقي إلى رفض الخطوة، مؤكّداً التزامه الثابت بسيادة الصومال ووحدة أراضيه، ومعتبراً أنّ الاعتراف يشكّل «سابقةً خطِرة» تهدّد بتقويض مبدأ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، وهو أحد المبادئ الأساسيّة التي قام عليها الاتّحاد.
المواقف الدوليّة: أعرب الاتّحاد الأوروبي عن دعمه لسيادة الصومال، داعياً إلى الحوار. أمّا الولايات المتّحدة، فجاء ردّها على لسان الرئيس دونالد ترامب، الذي استبعد أن تحذو واشنطن حذو إسرائيل، متسائلاً بسخريّة: «هل يعرف أحدٌ حقّاً ما هي أرض الصومال؟».
سابقة خطِرة أم واقع جيوسياسي جديد؟
ليس اعتراف إسرائيل بأرض الصومال مجرّد قرارٍ دبلوماسي، بل هو مقامرةٌ جيوسياسيّة محسوبة من قبل تل أبيب، تهدف إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر بما يخدم مصالحها الأمنيّة. وعلى الرغم من أنّ أرض الصومال قد ترى في هذه الخطوة طوق نجاةٍ للخروج من عزلتها الطويلة، فإنّها تجد نفسها اليوم في قلب مواجهةٍ دوليّة واسعة، وتضع شرعيّتها الوليدة في مهبّ الريح. وقد أظهر الإجماع الدولي الرافض أنّ مبادئ سيادة الدول ووحدة أراضيها لا تزال تحظى بثقلٍ في العلاقات الدوليّة، وأنّ محاولة فرض أمرٍ واقع من جانبٍ واحد قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة. يبقى السؤال الأهمّ: هل ستظلّ إسرائيل معزولةً في موقفها، أم أنّ خطوتها الجريئة ستشجّع دولاً أخرى على إعادة تقييم سياساتها، بما قد يفتح الباب أمام تغييرٍ جذريّ في الوضع القائم منذ عقود في القرن الأفريقي؟ الأيّام القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال، الذي سيحدّد مستقبل الصومال والمنطقة بأسرها.



