في عالمٍ يكتبُ فيه الذكاءُ الاصطناعيُّ الأخبارَ أسرعَ ممّا يقرأُها الصحفيّ، يتحوّلُ الإعلامُ من مرآةٍ للواقعِ إلى مختبرٍ لتوليدِ المعاني. لكن في لبنان، حيثُ لا ينقصُ الشاشاتِ سوى إعلانِ ولائها السياسي على زاويةِ الشاشة، يبدو دخولُ الخوارزميةِ إلى غرفةِ الأخبارِ حدثًا لا يخلو من المفارقة: التكنولوجيا تتقدّم، لكن الوعيَ الإعلاميَّ ما زالَ يدورُ في المكانِ ذاته من “التوريب” إلى “التوريط” الصحافةُ اللبنانيةُ، التي طالما تباهت بقدرتِها على الجمعِ بين الحريةِ والدراما، تعيشُ اليومَ صدمةَ التحوّل. فبعد أن اعتادَ الصحفيُّ اللبنانيُّ أن يُنتجَ الخبرَ كما ينسجُ الحكاية، دخلت الخوارزمياتُ لتحلَّ محلَّ “الحسِّ الصحفيّ”، محرّكةً الإيقاعَ بين العنوانِ والاتجاهِ العام للمزاجِ الشعبيّ. تُسارعُ النشراتُ الإخباريةُ في محطاتٍ كـ LBCI و MTV و “الجديد” إلى استخدامِ أدواتِ الذكاءِ الاصطناعي في المونتاج والتحليلِ البصري، لكنّ المضمونَ السياسيَّ بقي كما هو: القديمُ يُعادُ بثّه بأدواتٍ جديدة. كأنّ الذكاءَ الاصطناعي جاء ليُجمّلَ الخطابَ لا ليحرّره. هنا تكمنُ المفارقةُ اللبنانية: التكنولوجيا تدخلُ الباب، لكن الفكرَ ما زال ينتظرُ على العتبة. الذكاءُ الاصطناعيُّ في خدمةِ الزعيم في الغرب، تحوّل الذكاءُ الاصطناعيُّ إلى شريكٍ في التحرير: يكتبُ، يُحرّر، يختصر، ويُحلّل. أمّا في لبنان، فقد دخلَ الخوارزمُ إلى الاستديو كـ “خبيرِ تجميلٍ رقميّ” مهمّتُه تحسينُ الإضاءةِ وإنتاجُ التريندات، لا طرحُ الأسئلة. الآلةُ صارت تُساعدُ في كتابةِ مقدماتِ النشرات، لكنها لا تجرؤ على لمس “الخطوط الحمراء”. كلُّ قناةٍ تبقى وفيّةً لتمويلها، والخوارزميةُ تتعلّمُ الانحيازَ بالذكاءِ نفسِه الذي تُبرمجُ به. فالمشكلةُ ليست في التقنية، بل في “مَن يملكها”. عندما يكونُ المموِّلُ السياسيُّ هو ذاتهُ صاحبُ المحطة، تُصبحُ الخوارزميةُ جزءًا من المنظومة، تُعيدُ تدويرَ الخطابِ القديم بسرعةٍ أكبر وإتقانٍ أعلى. في بعض النشرات اللبنانية، قد تسمعُ المذيعَ يقرأُ تحليلًا أنيقًا عن الوضعِ الإقليمي، مكتوبًا بأدواتِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ متقدّمة، لكنه يبقى وفيًّا لأسلوبِ “الزعيم قال”. الأدواتُ الذكيةُ تُنتجُ النصَّ، لكنّ الذهنيةَ السياسيةَ القديمة تُنتجُ المعنى. وهكذا يتحوّلُ الذكاءُ الاصطناعيُّ من وسيلةٍ لتحريرِ الصحافةِ من هيمنةِ الإنسان إلى وسيلةٍ جديدةٍ لتكريسها. الولاءُ الطائفيُّ يُعادُ تغليفُه بخوارزميةٍ ذكية، تجعلُ من التحيّزِ أكثرَ أناقةً ومن الدعايةِ أكثرَ إقناعًا. يُفترضُ بالذكاءِ الاصطناعيِّ أن يُعيد توزيعَ السلطةِ داخلَ الإعلام بين الإنسانِ والآلة. لكن في لبنان، المعادلةُ مختلفة: السلطةُ ليست في المعلومة، بل في الجهةِ التي تُمَوِّلُ بثّها. الآلةُ هنا لا تستطيعُ أن تكونَ محايدةً، لأنَّ البياناتَ نفسَها منحازة: تمويلٌ سياسي، جمهورٌ مُوجَّه، وإعلاناتٌ مشروطة. وبينما تستخدمُ القنواتُ أدواتِ تحليلِ البياناتِ لمعرفةِ “ما يريدُ الجمهورُ سماعَه”، تغيبُ عن الوعيِّ فكرةُ “ما يجبُ أن يعرِفَه”. هنا يظهرُ الفارقُ بين صحافةٍ تُسخّرُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتقويةِ صوتها، وصحافةٍ تُسخّرهُ لتضخيمِ صدى السلطة. أزمةُ المصداقية لا تُحلُّ بالبرمجة وميضُ المنصّاتِ الجديدة وسط هذا المشهدِ المُكرَّس، تنشأ منصّاتٌ رقمية تحاولُ كسرَ الحلقة، مثل: «درج»، «ميغافون»، و«رصيف22». تُوظّفُ هذه المنصّاتُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتحليل الخطابِ لا لإعادة إنتاجه. تستخدمُه كأداةِ تفكيك، لا كأداةِ تزيين. هنا يظهرُ الفارقُ بين صحافةٍ تُسخّرُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتقويةِ صوتها، وصحافةٍ تُسخّرهُ لتضخيمِ صدى السلطة. أزمةُ المصداقية لا تُحلُّ بالبرمجة. الذكاءُ الاصطناعيُّ يستطيعُ أن يُصحّحَ اللغة، لكن لا يستطيعُ أن يُصحّحَ الكذب. في لبنان، أزمةُ الإعلام ليست تقنيةً بل بنيوية: حين تكونُ الحقيقةُ ترفًا سياسيًّا، يُصبحُ كلُّ تطوّرٍ تقنيٍّ مجرّدَ تحسينٍ في طريقةِ الإخراج، لا في مضمونِ الرسالة. فالمشكلةُ ليست في قدرةِ الآلةِ على كتابةِ الخبر، بل في إرادةِ القناةِ أن تتركَها تكتبه كما هو، لا كما يُرادُ له أن يكون. الذكاءُ الاصطناعيُّ لا يُلغي دورَ الإنسانِ في الإعلام، لكنه يُجبره على إعادةِ اكتشافِ ذاتِه. فالآلةُ تكتبُ، تُحلّل، وتستنتج؛ لكنها لا تشكُّ. والشكُّ هو قلبُ الصحافة. الصحفيُّ اللبنانيُّ اليوم أمامَ اختبارٍ مزدوج: أن يتقنَ أدواتَ الذكاءِ الاصطناعي، وأن يتعلّمَ في الوقتِ نفسِه ألّا يُصبحَ عبدًا لها. فالمستقبلُ لن يكونَ للأقوى تقنيًّا، بل للأكثرِ وعيًا. الإعلامُ الذي ينجو ليسَ الذي يُبرمجُ الخوارزمية، بل الذي يملكُ الجرأةَ على أن يقولَ لها: «قِفي… هنا يَبدأُ دورُ الإنسان».
بعيدًا عن الأضواء، في منزلٍ صار مرجعاً جامعًا في قضايا الشأن العام المتعلّقة بصيدا، تمت «الصُّلحة/المصلحة» بين رئيسِ دائرةٍ تنفيذية محلية وأحدِ أعضاء مجلسه النافذين/المُشاكسين، بعدما احتدمت الأمور بينهما على أكثر من صعيد خلال الفترة الماضية.وبحسب معلوماتٍ مُستقاة حصلت عليها «البوست»، فقد تمت المصالحة بين “مُتخاصمي الأمس”، بعد سلسلة محاولات قام بها عدد من الأصدقاء المشتركين، كان أحدهم مسؤولا محليا من خارج المدينة “على رأس معسّل”، بحيث اتفق المتخاصمان على مجموعةٍ من النقاط تُسجَّل كمكاسب للعضو النافذ.الطريف في الموضوع، أن جلسةُ «غَسْلِ القلوب» والمفاوضات بين الرجلين قد طالت، ما اضطُرَّ صاحبُ المكان إلى مغادرة منزله لارتباطه بمناسبة. المناقشات والاتفاقات التي أفضت إليها الجلسة ستظهرُ مفاعيلُها في أداء المجلس على صعيد المدينة قريباً، على أمل أن تصبَّ في مصلحة صيدا.
في إحدى اللقاءات التي جمعت رَهْطًا من فاعليات المدينة وأهلها ووافدين، يميلُ أحدُ الأقطاب الأثرياء على جليسِه بجانبه على الطاولة، يسألُه عن الشخص الذي أتاه يُلقي عليه التحيةَ بحرارة ويسأله عن حاله وأحوال عائلته… يتفاجأ الشخصُ الذي تمَّ سؤاله من قبل “القُطب الثري”، فيقول له، وعلاماتُ الدهشة باديةٌ على محيّاه: هذا عضوُ البلدية فلان… لقد كنتَ أنت أكبرَ داعمي لائحته (الأخفياء، من وراء ستار، جبناً) في المعركة الأخيرة. ألا تعرفه؟ لقد موّلت حملته وأوصلته إلى البلدية. يَنْصَدِمُ السائلُ من الإجابة، فلا يجدُ مفرًّا من الإحراج إلا أن يُكمِلَ قَضْمَ الجَزَر من صحن على الطاولة. هكذا تُدارُ المعاركُ الانتخابية في صيدا. داعمون لا يعرفون مَن يدعمون، ومدعومون لا يتعرفون على داعميهم إلا في المناسبات. أما ما يحكم العملية برمتها فغالبا ما تكون النَكَايَاتٍ السياسية، وحتى الشخصية، وأهواءِ نفوسٍ آخرُ هَمِّها المدينةُ وأهلُها ومشاكلها، ومَن يصلُ إلى الكرسي، وماذا يُقدِّم من بعد ذلك…