حتى في أكثر دول العالم تصنُّفًا ضمن خانة المتحضّرة أو المتقدّمة أو الأكثر تحرّرًا وانفتاحًا، نجدُ تعاملًا صارمًا مع مسألة القيادة تحت تأثير الكحول. فهذه الثقافات التي قد تُبيح، في مبالغاتها، زواجَ إنسانٍ من كلبه أو حماره، تراها في المقابل تُطبّق شروطًا قاسية على المخالفين الذين قد تسوِّل لهم أنفسهم قيادةُ سيارة آخرَ تحت تأثير “الخمور”. السؤال البديهي: لماذا هذا التشدّد؟ في الولايات المتحدة الأميركيّة، تشير القاعدة العامة إلى أنّ القيادة عند مستوى تركيز كحول في الدم (BAC) يبلغ 0.08% أو أعلى، تُعدّ مخالفة قانونية في معظم الولايات. بينما تتبنّى بعض الولايات حدودًا أدنى أو قوانين خاصّة بالسائقين المبتدئين أو سائقي الشاحنات؛ إذ قد يكون الحدّ صفرًا تقريبًا أو 0.02%. لأنّ الإنسان — بوصفه قيمةً جامعة — إذا فقد القدرة العقلية على التحكّم بجسده وبمحيطهه، تحوّل إلى أداة تدمير لا يمكن التنبّؤ بأفعالها ولا بما قد تسبّبه من أذى للبشرية والحياة الإنسانية ككلّ. فإن لم يكن “السكران” مؤتمنًا على قيادة سيارةٍ ذات أربعة دواليب، فكيف يمكن أن يؤتمن على قيادة شعبٍ وناس؟ يبدو أنّ “بالون النفخ” الذي تستعمله الشرطة لقياس مستوى الكحول في الدم، بات ضرورةً تمهيدية لبعض العاملين في الشأن السياسي المحلي… وورثتهم المفترضين كذلك.
في سابقةٍ من نوعها، وجّه حزبُ الله ظهر اليوم «كتابًا مفتوحًا» إلى الرؤساء الثلاثة وإلى الشعب اللبناني، في خطوةٍ أراد منها تثبيت رؤيته لـ«السيادة والأمن الوطني» في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار المعلَن مع إسرائيل أواخر العام الماضي. لكن يبدو أنّ الكتاب كان موجَّهًا إلى إسرائيل، وكأنّه البيان رقم (1) إذ أعلن انطلاق وجهٍ جديدٍ من أوجه الحرب في جولةٍ جديدةٍ لا يعلم أحدٌ إلى ماذا ستُفضي. ففي تطوّرٍ لافت لــ“ستاتيكو” الأحداث ويوميّاتها منذ «وقف إطلاق النار»، وجّه الجيشُ الإسرائيلي إنذارًا لعددٍ من القرى الجنوبية بوجوب مغادرتها، وقامت المقاتلاتُ الإسرائيلية بضرب عددٍ من المواقع في هذه البلدات تحت ذريعة أنّها مراكزُ لحزب الله، ما أدّى إلى حالة نزوحٍ لسكان المناطق المستهدفة باتجاه مدنٍ كصور وصيدا وبيروت. البيانُ الذي جاء بلغةٍ رسميّة هادئة، حمل في مضمونه تحذيرًا سياسيًّا عالي السقف، إذ رفض بشكلٍ قاطعٍ أيَّ مسعى داخلي أو خارجي لإعادة التفاوض مع إسرائيل، أو لبحث مسألة «حصرية السلاح بيد الدولة» خارج التوافق الوطني. إعادة تفسير القرار 1701 اللافت أنّ الحزب استند في مطالعته إلى القرار الدولي 1701، الذي طالما اعتبره مجحفًا عام 2006، ليجعله اليوم درعًا قانونيًا لشرعية المقاومة. فبحسب قراءته الجديدة، ينحصر نطاقُ القرار جنوبَ نهر الليطاني، ولا يتضمّن أيَّ نصٍّ يُلزِم بنزع سلاح «المقاومة» في باقي المناطق اللبنانية. ومن هذا الباب، حمّل الحزبُ إسرائيل مسؤولية خرق وقف النار، متهمًا إيّاها بابتزاز الدولة اللبنانية ومحاولة جرِّها إلى مفاوضات جديدة تخدم مصالحها. تحذيرٌ مبطَّن في سطورِ البيان، بدا حزبُ الله وكأنّه يوجّه توبيخًا مبطّنًا للحكومة برئاسة نواف سلام، معتبرًا أنّ حديثها عن «حصرية السلاح» شكّل «عربونَ حسنِ نيّةٍ» لإسرائيل و«خطيئةً سياسية». شدّد الحزب على أنّ أيَّ نقاشٍ في ملفّ السلاح يجب أن يتم ضمن «استراتيجية دفاع وطنية»، لا تحت ضغط خارجي أو ابتزاز سياسي، مُكرِّسًا بذلك معادلةً قديمة بثوبٍ جديد: «الجيش والشعب والمقاومة» كركائز لحماية السيادة. ورفض البيان أيَّ مفاوضات سياسية مع إسرائيل، واعتبرها «فخًّا» يقود إلى الإذعان. وفي الوقت نفسه، يسعى الحزب إلى تحويل موقعه العسكري إلى مظلةٍ وطنية جامعة، عبر التأكيد أن «العدو لا يستهدف حزب الله وحده، بل لبنان كلّه». بهذا الخطاب، يسحب الحزب النقاش من كونه ملفًّا داخليًّا إلى كونه قضية دفاعٍ عن الكيان اللبناني برمّته، محاولًا تحييد الانقسامات السياسية عبر لغة سيادية جامعة. نضجٌ تكتيكي أم تثبيتٌ للواقع؟ يرى متابعون البيانَ مناورةً سياسيةً، تهدف إلى تحصين موقع الحزب أمام حكومة تميل إلى التوجّه الغربي، وإلى قطع الطريق أمام أيّ مسعى أميركي – أممي لإعادة فتح ملفّ نزع السلاح. في المقابل، لا يخلو البيان من رسائل طمأنة للداخل والخارج، إذ يتحدّث عن الالتزام بوقف النار والحرص على الاستقرار، لكنه يربط كلّ ذلك بشرطٍ أساسي: احترام المقاومة و«حقّها المشروع في الدفاع». بين لهجة الاعتدال الدبلوماسي ومضمون التحدّي الاستراتيجي، يبدو حزبُ الله وكأنه يقول للدولة اللبنانية والعالم: «لن نبدأ حربًا، لكننا لن نتنازل عن سلاحنا». بهذا الموقف، يحاول حزبُ الله تثبيت معادلة:«الهدوء ممكن… لكن بشروط المقاومة» معادلةٌ يبدو أنّها لم تَعُد صالحةً، والتصاعد التدريجي للأعمال القتالية من العدو الإسرائيلي ستثبت ذلك.
يُروى عن النبي محمّد عليه الصلاة والسلام أنّه كان يتعوّذ من الجُبن والبُخل، فيقول بصيغةٍ واضحةٍ وصريحة: “اللّهم إنّي أعوذ بك من الجُبن والبُخل”. وكأنّ هاتين الصفتين الإنسانيتين من الصفات المخيفة التي لا بدّ من الاستعاذة بالله منها؛ أي أنّ الإنسان عليه أن يلجأ لحول الله وقوّته هربًا من أن تطاله تينك الصفتان شاءت تجارب الحياة أن تضعني في مواقف أرى فيها عن قربٍ أشخاصًا يتّصفون بهاتين الخصلتين، فكانت تلك التجارب كفيلةً بأن تُظهر لي مدى قبحهما وانعكاسهما على السلوك الإنساني. لن أُطيل في هذا الباب، غير أنّي أقول باطمئنان إنّ أصحاب هاتين الصفتين من أبعد الناس عن روح المدنية والمجتمع… ولعلّ في ذلك حديثًا مفصّلًا في مقالٍ لاحق.هذا التعوّذُ النبويّ يدلّ على قُبح الصفتين وقوّة أثرهما على الناس، ومن الطبيعيّ ألا يكون هذا الأثرُ محدودًا بحامل الصفة فقط، بل يتعدّاه إلى مجتمعه وبيئته وأمّته بأكملها. هيمنة ومجتمعاتفلنتخيّل مجتمعًا يهيمن عليه الجُبن والبُخل… مجتمعًا يخاف أفراده من قول الحق، ويمسكون أيديهم عن مدّ الخير؛ كيف تكون حاله؟كيف يكون وضع فقرائه وشوارعه وأسواقه؟كيف تُدار شؤونه العامّة؟كيف تكون قوّته في الدفاع عن نفسه أو في بناء مؤسّساته ومصالحه؟المجتمع الجبان مجتمعٌ صامت، والمجتمع البخيل مجتمعٌ عقيم. الأوّل يُصاب بالشلل الأخلاقي، والثاني بالضمور الاقتصادي والوجداني. وحين يجتمع الجُبن والبُخل في النفوس، تُصاب الأمّة بما يشبه الانسداد التاريخي؛ إذ يغيب الفعلُ، وتغيب التضحيةُ، ويغيب معنى العيش المشترك الذي لا يقوم إلّا على الشجاعة والعطاء. الوقف…ربطُ الثروة بالحرّيةلم يكن الوقفُ في التاريخ الإسلامي مجرّدَ نظامٍ ماليٍّ خيريٍّ يسعى أصحابه إلى التقرّب من الله طلبًا للأجر أو «شراء بيتٍ في الجنّة» فحسب — فهذا أمرٌ مُسلَّمٌ به لديهم — بل كان في جوهره نظامًا اجتماعيًّا أصيلًا في الحضارة الإسلامية يقوم على حبس الأصل وتسبيل المنفعة؛ أي أن يوقف الإنسان مالَه أو عقارَه بحيث يبقى الأصلُ ثابتًا وتُصرَف منفعته في وجوه الخير العام: كالعلم والعلاج والمأوى.ومن هنا كان الوقف مؤسّسةً سلطويّة قبل أن يكون ماليّة؛ لأنّه يربط المال بالحرّية، ويحوّل الثروة من وسيلة تملّك إلى وسيلة تحرّر وتوكيلٍ ذاتي. فالذي يتنازل عن جزءٍ من مُلكه لصالح المصلحة العامة يمارس شجاعةً مدنيةً نادرة: شجاعةَ التخلّي عن السيطرة، وثقةً بالمجتمع والزمن والنيّة الصالحة.إلى جانب هذا البعد الإيماني، كان للوقف أثرٌ دنيويٌّ وحضاريٌّ عميق، تجاوز فكرة التكافل البسيطة إلى بناء مجتمعٍ يملك استقلاله الذاتي وسلطته الداخلية.ذلك المجتمع لم يكن يتمتع بحريةٍ ماديّة فحسب، بل بقدرةٍ على إنتاج الحرّية وضمان استمراريتها؛ مجتمعٌ يصوغ ثقافةً تحفظ الكرامة وتصون الأعراض، بعيدًا عن الارتهان لقوى خارجية تسعى للاستثمار أو الاستغلال. الوقف آليّةٌ من آليات الإسلام الاجتماعي التي تضمن السلطة خارج مؤسساتها التقليدية التي هي بطبيعتها مؤسسات قمعيّة؛ إذ إنّ كل سلطةٍ تتبلور في كيانٍ موحّد تصبح القمعيّة من صفاتها المباشرة حين يُربّي الجُبنُ أباه قد نرى تجلّي الفكرة من خلال روايةٍ مأثورة عن النبيّ، حيث يقول: “الولدُ مَجبنةٌ ومَبخلة”.وهذا الحديث يُحذّر مرةً أخرى من الوقوع في صفتي الجُبن والبُخل؛ فعندما يصبح الإنسان أبًا أو أمًّا لطفل صغير، يصبح هذا الولدُ مدعاةً للبخل والجبن؛ لأنّ الوالد سيبخل عن العطاء من أجل ولده، ثم يجبُن عن أيّ شجاعة خوفًا من أن يتيتّم ولده. لكنّ المثال يأخذنا إلى ما نسمعه يوميًا من الأهل عن حياتهم ما بعد الأولاد: “بتصير حياتك مش إلك، بتصير حياتك لإلُن”.هنا يتّضح المعنى المقصود: أي إنّ السلطة في الحياة لم تعُد تُنتَج بحرّية الأب أو الأم، بل بناءً على مصلحة الطفل. وهنا تقع طامة فقدان السلطة من مكانها الطبيعي إلى مكان سبّبه الجُبن… الذي قد يصل بالإنسان حدّ تأليه ذاته؛ فيعتبر نفسه الرازق الضامن لحياة ذلك الصغير! الأمر ذاته في المجتمع؛ فمن عبقرية النظام الوقفي أنّ الأصل المادّي الذي أُوقِف لله تعالى لا يعود ملكًا للموقِف، ولا للدولة، ولا للمؤسسة الدينية، بل ملكًا للمجتمع نفسه. والوقف آليّةٌ من آليات الإسلام الاجتماعي التي تضمن السلطة خارج مؤسساتها التقليدية التي هي بطبيعتها مؤسسات قمعيّة؛ إذ إنّ كل سلطةٍ تتبلور في كيانٍ موحّد تصبح القمعيّة من صفاتها المباشرة — والقمع هنا لا يعني الاضطهاد الجسدي فقط، بل القدرة على الظلم والتمييز والقهر. فصلُ الدين عن الدولة ولذلك يخلص بعض مؤرخي القرون الإسلامية الوسطى إلى القول إنّ سلطة الخليفة على المجتمعات الإسلامية كانت سلطة الحدّ الأدنى؛ فليس من طبيعة الخلافة أن تمتلك سلطة المجتمع، وإنما يقتصر عملها على إدارة الشؤون الدولية الكبرى. وقد فَطِنَ العلماء إلى هشاشة فكرة الدولة وإمكانية تغيّرها وتبدّلها لأسباب خارجة عن السيطرة: كالغزو، والاحتلال، والثورات، والانقلابات… فقاموا — بلغة اليوم — بفعلٍ ذي روح «عَلمانية»؛ فصلوا الدين عن الدولة لا لنزع قدسية الدين، بل للحفاظ على سلطة المجتمع. ولم يكن ذلك ليتمّ لولا وجود شجعانٍ كرماء أوقفوا ملكهم لخدمة الناس، ولم يجبُنوا أو يبخلوا، ولم يسعوا إلى منصبٍ مؤسساتيّ أو سلطويّ «ليخدموا الناس»، بل فقهوا أنّ الخدمة الحقيقية هي في إعطاء السلطة للمجتمع. المجتمع الجبان مجتمعٌ صامت، والمجتمع البخيل مجتمعٌ عقيم من احتكار السلطة إلى تمكين الناسإذا تأملنا صورة المجتمع الذي تخنقه صفَتا الجُبن والبُخل، أدركنا فورًا أنّ استعادته لقِيَم الوقف والشجاعة المدنية ليست ترفًا تاريخيًا، بل ضرورةً حاضرة. فالوقف في جوهره إعلانٌ جماعيٌّ بأنّ الأمة قادرةٌ على تمويل حريتها بنفسها، وأن تنتج ثقافتها من داخلها، وأن تحمي كرامتها بلا استجداء.أخطر ما تفعله هاتان الرذيلتان هو تحويل المجتمع من فاعلٍ إلى متلقٍّ، ومن مانحٍ إلى طالب، ومن مالكٍ لسلطته إلى خائفٍ من فقدانها؛ لذا كان التعوّذ النبويّ في محلّه…فمقاومة الجُبن والبُخل ليست تربيةً فردية فحسب، بل تأسيسٌ لشكلٍ من الاجتماع الإسلاميّ الحرّ يقوم على العطاء، ويتحصّن بالمؤسسات الأهليّة، ويُبقي السلطة بيد الناس لا فوقهم.وفي زمنٍ كثر فيه من يرفع شعار «خدمة الناس» وهو يستميت للحصول على منصبٍ كأنّه غايةٌ في ذاته، يصبح من اللازم التذكير بأنّ الخدمة الحقيقية لا تكون بالاستحواذ على السلطة، بل بتمكين الناس منها.فالمجتمع لا يُبنى بالخطباء الذين يعتلون الكراسي ليتحدّثوا عن الإصلاح، بل بالشجعان الذين يتركون الكراسي ليقيموا مؤسساتٍ تنتمي إلى الناس لا إليهم. وآليّاتٌ مثل الوقف هي النموذج الأصدق لهذه الروح؛ إذ لا يكتفي صاحبُها بأن يتنازل عن مالِه، بل يتنازل عن سلطته أيضًا، واضعًا ثقته في المجتمع لا في ذاته، وفي الفعل الجماعي لا في الفرد المتسلّط. من هنا يبدأ الإصلاح الحقيقي: حين يتحوّل الشعار من: «سأخدم الناس» إلى: «سأمنح الناس القدرة على خدمة أنفسهم». أستاذٌ في "جامعةِ جورجتاون"- قطر باحثٌ في الدراساتِ الإسلاميةِ والتاريخِ الإسلاميّ