مع كلِّ جولةِ تصعيدٍ عسكري على الحدود الجنوبية مع العدوّ الإسرائيلي، يعودُ اسمُ جمعيةِ «القرض الحسن» إلى الواجهة. غير أنّ ما يجري اليوم يتجاوزُ استهدافَ مبانٍ أو مراكز، ليتحوّل إلى معركةٍ مفتوحةٍ على العصب المالي لحزب الله، وعلى مدّخراتِ عشراتِ آلافِ اللبنانيين الذين هربوا من المصارف التقليدية إلى هذه الجمعية منذ انفجارِ الأزمة عام 2019. مؤسسةٌ في مرمى النار تقدّم «القرض الحسن» نفسها كجمعيةٍ اجتماعيةٍ تعمل وفقَ مبدأ القرض الحسن من دون فوائد ربوية، عبر شبكةِ فروعٍ منتشرةٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع. خلال سنوات الانهيار، توسّعت قاعدةُ المودعينَ والمقترضين لديها بشكلٍ كبير، بعد أن فقد الناسُ ثقتهم بالمصارف وعجزوا عن سحب ودائعهم بالدولار. جعل هذا التطوّر من الجمعية مركزَ ثقلٍ مالي حقيقي داخل بيئةٍ واسعة، وأكسبها دوراً يتجاوز تقديم قروض صغيرة إلى إدارةِ كتلٍ نقدية وودائع وذهبٍ مرهون، ما عزّز الاتهامات الأميركية بأنها أداةٌ مالية موازية تابعة لحزب الله تُستخدم لتمويل نشاطه والالتفاف على منظومة العقوبات. في الأسابيع الأخيرة، برز مساران متوازيان:المسار العسكري، حيث استهدفت إسرائيل عدداً من المراكز التي تقول إنها تابعة لـ«القرض الحسن» أو تُستخدم لتخزين الأموال والذهب العائد للحزب ومناصريه في أكثر من منطقة لبنانية. الرسالة واضحة: ضربُ الشبكة المالية الميدانية للحزب تماماً كما تُضرب مخازن السلاح ومراكز القيادة.وعلى المستوى الدبلوماسي، تتحدّث الأوساط السياسية عن أن وفداً أميركياً زار بيروت أخيراً طرح، بشكل مباشر أو غير مباشر، ملف «القرض الحسن» تحت عنوان “تجفيف مصادر تمويل حزب الله”، مع تسريباتٍ عن طلب إقفال الجمعية أو فرض قيود صارمة عليها. يأتي ذلك امتداداً لسلسلة عقوبات طالت المؤسسة ومسؤولين فيها وشركات مرتبطة بها خلال السنوات الماضية. بهذا المعنى، يجد «القرض الحسن» نفسه اليوم في قلب معركةٍ مزدوجة: قصفٍ من الجو، وضغوطٍ مالية وسياسية على الأرض. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا قصفٌ مالي في الخطابِ المحسوب على حزب الله وبيئته، يجري وصف هذه الضغوط بأنها “سَطوٌ أميركي” على أموال اللبنانيين ومحاولة لوضع اليد على مدّخراتهم تحت عنوان مكافحة تمويل الإرهاب.في المقابل، تردّ واشنطن بأن ما تفعله هو تطبيقٌ صارم لمنظومة العقوبات ومنع استخدام الأراضي والمؤسسات اللبنانية كمنصّة لتمويل تنظيم تعتبره الولايات المتحدة منظمةً إرهابية. بين هذين الخطابين المتناقضين، يضيع السؤال الأهم: هل الإجراءاتُ المقترحة تستهدف فعلاً حزب الله وحده، أم تمتدّ عملياً إلى جيوب الناس الذين وجدوا في «القرض الحسن» ملاذاً بعد سقوط المصارف التقليدية؟ إزاء هذا المشهد، تقف الدولة اللبنانية أمام اختبارٍ شديد الحساسية: فإما الاستجابةُ للضغوط الأميركية ولو جزئياً، بما قد يُترجَم بخطواتٍ قانونية أو مصرفية ضد الجمعية (ملاحقات، إقفال فروع، تضييق على التعاملات). هذا المسار يرضي واشنطن وربما يجنّب لبنان عقوبات إضافية على النظام المالي، لكنه يهدّد بصدامٍ سياسي وأمني مع حزب الله وبيئته الشعبية، ويعزّز شعوراً واسعاً بأن الدولة تستهدف «أموال الفقراء» وليس أموال الطبقة السياسية.وإما التجاهل والممانعة، وهو ما يعزّز موقعَ حزب الله داخلياً، لكنه يفتح الباب أمام مزيدٍ من العقوبات والعزلة، وربما إجراءات تطال مصارف ومؤسسات رسمية لبنانية بحجّة “التساهل مع تمويل الحزب”. في الحالتين، يبدو أن ثمن القرار ستدفعه مؤسساتُ الدولة الهشّة واقتصادُ البلد المنهك. المودعون والأسئلة الكبيرة منذ ما بعد 2019، قرّر كثيرٌ من اللبنانيين سحب ودائعهم من المصارف حين سنحت الفرصة، أو بيع جزءٍ منها في السوق، ثم نقلوا ما تبقّى من مدّخرات نقدية أو ذهبية إلى «القرض الحسن» أو خزّنوها في المنازل. بالنسبة لهؤلاء، القضية ليست شعاراتٍ سياسية، بل أسئلةٌ عملية جداً: ماذا لو تعرّضت الجمعيةُ لقرارات إقفال أو ملاحقة قضائية؟ ماذا لو تكرّرت الضرباتُ العسكرية على مراكز تخزين الأموال والذهب؟ كيف يمكن استرداد الحقوق في مؤسسة لا تخضع فعلياً لرقابة مصرف لبنان أو لقواعد الحوكمة والشفافية المعتمَدة نظرياً في القطاع المصرفي؟ النتيجة أن المودعين وجدوا أنفسهم، مرّة جديدة، أمام خطر خسارة مدّخراتهم؛ مرّة عبر الانهيار المصرفي، ومرّة عبر تحويل مؤسسة بديلة إلى هدفٍ في لعبة الأمم. «بنكُ الظل» الصورة في الداخل اللبناني تبدو منقسمة أيضاً. معارضو حزب الله يرون في «القرض الحسن» “بنكَ ظلّ” يتفلّت من القوانين والضرائب والرقابة، ويمنح الحزب أفضليةً هائلة في سوق المال والاقتصاد، ويشكّل منافسة غير متكافئة للمصارف المرخّصة.في المقابل، يعتبره مؤيّدوه شبكةَ أمانٍ اجتماعية قدّمت للناس قروضاً صغيرة ومتوسطة بلا فائدة أو بفوائد رمزية، وساعدتهم على شراء منازل أو تمويل مشاريع أو تغطية نفقات تعليم واستشفاء، في الوقت الذي أغلقت فيه المصارف أبوابها في وجوههم. يعكس هذا الانقسام الشرخَ الأعمق في البلد بين من يرى في الحزب ومؤسساته “دولةً داخل الدولة”، ومن يرى فيها تعويضاً عن دولةٍ غائبة أو منحازة. السيناريوهات المحتملة في ضوء الوقائع الحالية، يمكن رسم ثلاثة مسارات رئيسية لموضوع “القرض الحسن”: تشديدٌ تدريجي من دون إقفالتمضي الولايات المتحدة في سياسة العقوبات واستهداف الأفراد والشركات المتعاملة مع الجمعية، مع تشجيع الدولة على تضييق الخناق التنظيمي، دون الذهاب إلى قرار صدامي بإقفال تام. يبقى «القرض الحسن» يعمل، ولكن ضمن مناخ مخاطر أعلى وعزلة أكبر. مواجهةٌ مفتوحةإصرار أميركي على خطوات حاسمة يقابله رفض قاطع من حزب الله، ما يفتح الباب أمام اشتباكٍ سياسي وربما أمني داخلي، يضيف ملف «القرض الحسن» إلى قائمة أزمات الرئاسة والحكومة واللاجئين وغيرها. تسويةٌ رماديةمقايضة سياسية أوسع، تخفَّف فيها الضغوط المباشرة مقابل ضبط بعض تعاملات الجمعية أو الحدّ من توسّعها، بما يجنّب الجميع الانفجار الكامل. «القرض الحسن» اليوم ليس مجردَ جمعية مالية في مرمى العقوبات، بل مرآةٌ لأزمةٍ أعمق يعيشها لبنان: دولةٌ عاجزة، نظامٌ مصرفي منهار، سلاحٌ في قلب السياسة، وضغوطٌ خارجية تتعامل مع البلد كساحةِ تصفية حسابات. أمّا السؤال الأهم، الذي لم يُجَب عنه بعد، فهو: من سيحمي أموال اللبنانيين في هذه العاصفة، قبل أن تُمحى الحدود نهائياً بين عقابِ حزبٍ وسحقِ مجتمع؟
مَن هوَ سِيبَاستيانُ جوركا الذي دخلَ قصرَ بعبدا والسِّراي الحكومي ووزارةَ المال، ولم تَعْصِ أمامَهُ دائرةٌ أو مؤسّسةٌ رسميّةٌ أو غيرُ رسميّةٍ لبنانيّة؟مَن هوَ هذا الرَّجلُ الفارعُ الطولِ الذي يتقدَّمُ وَفْدَ وزارةِ الخزانةِ الأميركيّةِ لشؤونِ الإرهابِ والاستخباراتِ الماليّة، القادمِ إلى لبنانَ لبحثِ ملفّاتِ تمويلِ الإرهابِ وتبييضِ الأموال، إلى جانبِ “الإصلاحاتِ” الماليّةِ المطلوبةِ من لبنان؟ إنَّهُ الرَّجلُ الَّذي استُقْدِمَ إلى الشَّرقِ الأوسطِ لِتَجفيفِ مَنابِعِ «حِزْبِ الله» الماليّةِ وحِصارِه. في مسارٍ مهنيٍّ مريب، عاد جوركا، الشخصيةُ الإعلاميّةُ والسياسيّةُ التي لا تكفُّ عن إثارةِ الجدل، ليحجزَ مقعدًا رفيعًا في إدارةِ دونالد ترامب الثانية. جوركا، الذي بنى شهرتَه على تفسيرِ الإرهاب من منظورٍ أيديولوجيٍّ بحت، يُجسّدُ عودةَ نهجِ “أمريكا أولًا” إلى مؤسّسةِ الأمنِ القومي، حاملًا معه تاريخًا من النقاشاتِ الحادّة حول مؤهلاتِهِ الأكاديميّة وارتباطاتِهِ السياسيّةِ السابقة. النشأة وُلِدَ جوركا في لندن عام 1970 لعائلةٍ مجريّة، وبدأ مسارَهُ المهنيَّ في المجر مطلعَ التسعينيّات، حيثُ عمِلَ في وزارةِ الدفاع، وحصلَ على درجةِ الدكتوراه في العلومِ السياسيّة. لكن نجمَهُ بدأ يسطعُ في الولاياتِ المتحدة بعد حصولِهِ على الجنسيّة الأميركيّة عام 2012، ليتحوّلَ إلى مُعلّقٍ بارزٍ في وسائلِ الإعلام المحافظة، مدافعًا شرسًا عن رؤيةِ ترامب السياسيّة. بلغَ هذا المسارُ ذروتَهُ في يناير 2017 بتعيينِهِ نائبًا لمساعدِ الرئيس، وهو منصبٌ استشاريٌّ لمكافحةِ الإرهاب في البيتِ الأبيض. إلّا أنّ فترةَ عملِهِ لم تدم طويلًا، إذ غادر في صيفِ العامِ نفسِهِ وسطَ تساؤلاتٍ حول صلاحياتِهِ وتصريحِهِ الأمني. ليعودَ من جديدٍ إلى مجلسِ الأمنِ القومي، ما يفتحُ البابَ أمامَ تساؤلاتٍ حول تأثيرِهِ المحتملِ على سياساتِ مكافحةِ الإرهابِ الأميركيّة. الأيديولوجيا أولًا وأخيرًا يكمُن جوهرُ فكرِ جوركا في تركيزِهِ المطلق على البُعدِ الأيديولوجي، وتحديدًا ما يسمّيه “الإسلام المتطرّف”، باعتبارهِ المحرّكَ الأساسيَّ للإرهاب المعاصر. يرى أنّ أيَّ استراتيجيةٍ أمنيّةٍ لا تُعالِجُ هذا “التهديد الفكري” بشكلٍ مباشر هي استراتيجيةٌ قاصرة.هذا المنهجُ، الذي يُميّز كتاباتِهِ وتصريحاتِهِ، يضعُهُ في خلافٍ مباشر مع قطاعٍ واسعٍ من خبراءِ الأمنِ القومي الذين يتبنّون تحليلًا متعدّدَ العوامل يأخذُ في الاعتبار الظروفَ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لم يكن مسارُ جوركا خاليًا من العقبات. فقد واجهَ تدقيقًا إعلاميًا وأكاديميًا مكثّفًا بشأنِ خلفيتِهِ. تقاريرُ استقصائيّةٌ ربطتْهُ بشخصياتٍ وأحزابٍ قوميّة في المجر، وهي اتهاماتٌ نفاها بشدّة. كما شكّكَ أكاديميّون وصحفيّون في مصداقيّةِ أبحاثِهِ ودرجتِهِ العلميّة، ما ألقى بظلالٍ من الشكِّ على مكانتِهِ كخبيرٍ تقنيٍّ في مجالِ مكافحةِ الإرهاب. يرى مؤيدوهُ فيه صوتًا شجاعًا لا يخشى تسميةَ التهديداتِ بأسمائها الحقيقيّة، بينما يعتبرهُ منتقدوه، ومن ضمنهم منظماتٌ حقوقيّة وخبراءُ أمنيون، شخصيةً أيديولوجيّةً تفتقرُ إلى العمقِ التحليليِّ المطلوبِ للمناصبِ الحسّاسة. في مجلس الأمن القومي من الناحيةِ العمليّة، أدّى تعيينُ جوركا إلى إعادةِ توجيهِ أولويّاتِ مكافحةِ الإرهاب نحوَ التركيزِ على التياراتِ الفكريّة، وتغييرِ الخطابِ الرسميِّ المتعلّقِ بالهجرة والإسلام السياسي. لكن قدرتَهُ على إحداثِ تغييرٍ حقيقيٍّ اصطدمتْ بتعقيداتِ البيروقراطيّةِ الأمنيّة، حيثُ تتشاركُ وكالاتُ الاستخباراتِ والبنتاغون ووزارةُ الخارجيّة في صناعةِ القرار. ومع ذلك، يبقى سِيبَاستيان جوركا شخصيةً محوريّةً في فهمِ التحوّلاتِ الفكريّة داخل اليمينِ الأميركي. لا يعكسُ وجودُهُ في هذا المنصبِ الرفيع فقط عودةَ شخصٍ مثيرٍ للجدل، بل يُشيرُ إلى انتصارِ رؤيةٍ أيديولوجيّةٍ معيَّنة في صياغةِ سياساتِ الأمن القومي، ما جعل تأثيرَهُ — سواءٌ كان محدودًا أو واسعًا — محطَّ أنظارِ المراقبين في واشنطن وحولَ العالم. يقوم كتابُ جوركا على فرضيّةٍ مركزيّة واحدة، الحربُ ضدَّ الإرهاب ليست مجرّدَ عمليةٍ عسكريّة أو استخباراتية، بل هي حربٌ أيديولوجيّةٌ في المقامِ الأول. يرى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءَها فشلوا في تحقيق نصرٍ حاسم لأنهم يرفضون تسميةَ العدوِّ باسمِهِ الحقيقي وفهمَ دوافعِهِ الفكريّة كتاب “هزيمة الجهاد” لجوركا يقوم كتابُ جوركا على فرضيّةٍ مركزيّة واحدة، الحربُ ضدَّ الإرهاب ليست مجرّدَ عمليةٍ عسكريّة أو استخباراتية، بل هي حربٌ أيديولوجيّةٌ في المقامِ الأول.يرى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءَها فشلوا في تحقيق نصرٍ حاسم لأنهم يرفضون تسميةَ العدوِّ باسمِهِ الحقيقي وفهمَ دوافعِهِ الفكريّة. 1) تشخيص المشكلة: العدو هو “الأيديولوجيا الجهادية” رفضُ التفسيرات الاجتماعية والاقتصادية: يرفضُ جوركا بشدّة التحليلاتِ التي تربطُ الإرهابَ بالفقرِ أو البطالةِ أو السياسةِ الخارجية الأميركيّة. يعتبرُ هذه التفسيرات “أعذارًا” تتجاهلُ جوهرَ المشكلة. العدوُّ ليس “الإرهاب”: يجادل بأنّ “الإرهاب” مجردُ تكتيكٍ، مثل “الحرب الخاطفة” (Blitzkrieg)، وليس عدوًا بحدّ ذاته.العدوُّ الحقيقي، في نظرِهِ، هو الأيديولوجيا الجهادية العالميّة التي تستلهمُ أفكارَها من شخصياتٍ مثل سيد قطب وأبي بكر ناجي، وتهدفُ إلى إعادةِ تأسيسِ الخلافة وتطبيقِ الشريعةِ بالقوة. التشابه مع الحرب الباردة: يقارنُ جوركا بين الأيديولوجيا الجهادية والأيديولوجيا الشيوعية. وكما هُزِمَت الشيوعية عبر استراتيجيةِ احتواءٍ طويلة الأمد قادها جورج كينان، يرى أنّ هزيمةَ الجهادية تتطلبُ استراتيجيةً مماثلة تُركّز على تفكيكِ الأيديولوجيا من الداخل. 2) الاستراتيجية المقترحة: “خطة كينان للقرن الحادي والعشرين” يقترح جوركا خطةً من ثلاثِ ركائزَ أساسيّة: أولًا: نزعُ الشرعية عن الأيديولوجيا قلبُ الاستراتيجية. يدعو إلى تمكينِ الأصواتِ المسلمة المعتدلة لتتولّى مواجهةَ الفكرِ الجهادي. دورُ الولايات المتحدة: توفيرُ منصّاتٍ ودعمٍ لهذه الأصوات. ثانيًا: العملُ العسكري والاستخباراتي المحدود. يرفضُ “بناءَ الدول”، ويُفضّل دعمَ الحلفاءِ المحليين للقتال على الأرض، مع دعمٍ أميركيٍّ استخباراتي وجوي. ثالثًا: تعزيزُ الدفاعات الداخلية، يدعو إلى: تدريبِ الشرطة على فهمِ علاماتِ التطرف مراقبةٍ أكثرَ صرامة للمساجدِ المشتبه بها. 3) نقاط الضعف والنقد تبسيطٌ مُفرِط: يهملُ عواملَ اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤثرة. إشكالية تحديد “المعتدلين” داخل المجتمعات المسلمة. تجاهلُ خطر اليمين المتطرف في الغرب. خطابٌ استقطابي قد ينفّرُ المسلمين ويُقوّي دعايةَ المتطرّفين. يقدّم جوركا رؤيةً واضحة ومتماسكة، لكنها مثيرةٌ للجدل. قد تجد بعضُ أفكارِهِ صدى لدى صُنّاعِ القرار، إلا أنّ نهجَهُ الأيديولوجيَّ الصارم يجعلُهُ في منافسةٍ مع مقارباتٍ أكثرَ شمولًا يتبنّاها غالبُ خبراءِ الأمن القومي اليوم.
في خطوةٍ تاريخيّة قد تُعيد رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط، يستعدّ الرئيسُ السوريّ أحمدُ الشَّرع لزيارةِ واشنطن في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، في أولِ زيارةٍ لرئيسٍ سوريٍّ إلى الولايات المتحدة منذ استقلال سوريا عام 1946. الزيارةُ، التي أكّدها المبعوثُ الأمريكيُّ إلى سوريا توم باراك، تأتي في سياق تحوّلاتٍ جيوسياسيّة متسارعة، أبرزُها قربُ توقيعِ اتفاقٍ أمنيٍّ بين سوريا وإسرائيل برعايةٍ أمريكية، وانضمامُ سوريا المرتقب إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”. مفاوضات خلف الكواليس تكتسبُ زيارةُ الشرع إلى واشنطن أهميةً استثنائية، ليس فقط لكونها الأولى من نوعها، بل لأنها تأتي تتويجاً لمسارٍ من المفاوضاتِ والمباحثات التي جرت خلف الكواليس، وتهدف إلى إعادة دمجِ سوريا في المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة. ومن المتوقّع أن يلتقي الشرع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في لقاءٍ يهدف إلى وضعِ اللمساتِ الأخيرة على اتفاقياتٍ استراتيجية، تشملُ رفعَ العقوبات الاقتصادية عن سوريا، والبدءَ بمرحلة إعادة الإعمار. أمّا الاتفاقُ الأمنيّ بين سوريا وإسرائيل، فيُعدّ تطوّراً لافتاً، إذ يُرجَّح أن يكون شبيهاً باتفاقِ فَضِّ الاشتباك لعام 1974، مع تعديلاتٍ طفيفة تضمنُ أمنَ الحدود، وتُؤسِّس لتعاونٍ أمنيٍّ ثلاثيّ (سوري–إسرائيلي–أمريكي) في منطقة جبل الشيخ. كما يتضمّن الاتفاقُ بسطَ سلطةِ الحكومة السورية على كامل المنطقة الجنوبية، مع ضماناتٍ لأمنِ الطائفة الدرزية، ما يشير إلى رغبةٍ أمريكية في تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة الحسّاسة. التأثير على لبنان فيما يبدو أنّ سوريا تتجه نحو انفتاحٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ، فإنّ لبنان يبدو الخاسرَ الأكبر من هذه التحوّلات. فالـاتفاقُ الأمنيّ بين سوريا وإسرائيل، وزيارةُ الشرع إلى واشنطن، يضعان لبنان في عزلةٍ إقليميةٍ غير مسبوقة، ويفرضان ضغوطاً هائلة على مختلف المستويات: العزلةُ الإقليمية مع تطبيع معظم الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، ومع اتجاه سوريا نحو اتفاقٍ أمنيّ، يصبح لبنان الدولةَ الوحيدةَ في المنطقة التي لا تملك أيَّ شكلٍ من أشكال العلاقات مع إسرائيل، ما يجعله معزولاً سياسياً ودبلوماسياً. الضغطُ على حزب الله يرى مراقبون أنّ أحدَ الأهداف الرئيسية للاتفاق السوري–الإسرائيلي هو قطعُ طرقِ الإمداد والتسليح عن حزب الله، الذي يعتمدُ بشكلٍ كبير على سوريا كعمقٍ استراتيجي.تصريحاتُ المبعوث الأمريكي توم باراك حول ضرورة نزع سلاح حزب الله، وربطِ المساعدات الاقتصادية للبنان بهذه الخطوة، تشير إلى أنّ الحزب سيكون الهدفَ التالي للضغوط الأمريكية والإقليمية. فقدانُ العمق الاستراتيجي لطالما شكّلت سوريا عمقاً استراتيجياً للبنان وملاذاً له في مواجهة الضغوط الإسرائيلية. ومع توقيع الاتفاق الأمنيّ، يفقد لبنان هذا العمق، ويصبح وحيداً في مواجهة ضغوطٍ متزايدة من إسرائيل والمجتمع الدولي. الضغطُ الاقتصادي وصف توم باراك لبنان بـ”الدولة الفاشلة”، في إشارةٍ واضحة إلى أنّ المساعداتِ الاقتصادية الدولية ستكون مشروطةً بتحقيق الاستقرار ونزعِ سلاح حزب الله. وفي ظلّ الأزمةِ الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، فإنّ هذا الشرط يضع الدولة اللبنانية أمام خياراتٍ صعبة. البنودُ الرئيسية في الاتفاق لجنةٌ أمنيةٌ مشتركة: سورية–أمريكية–إسرائيلية لمتابعة مستجدّات الحدود. بسطُ السلطة السورية على كامل المنطقة الجنوبية بما فيها محافظة السويداء. ضمانُ أمنِ الدروز: تعهّدٌ أمريكيٌّ بحماية الطائفة الدرزية في الجنوب السوري. انتشارٌ مُشترك: أمريكي–سوري–إسرائيلي في منطقة جبل الشيخ. تمثّل زيارةُ الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، والاتفاقُ الأمني المرتقب مع إسرائيل، نقطةَ تحوّلٍ مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط. ففيما تبشّر هذه التطوّراتُ بنهضةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ لسوريا، فإنها تضعُ لبنان أمام تحدّياتٍ وجوديّة، وتفرض عليه إعادةَ النظر في تحالفاته وسياسته الخارجية، في ظل متغيراتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ متسارعة قد لا تكون في صالحه.