لا يُخلق الأبطال أبطالاً، نعرف عنهم في إنجازاتهم، لكننا لا نعرف دوما ما عانوه من صعوبات وانكسارات وآلام في الطريق إلى القمة… خاض صلاحُ الدين الأيوبي قبل معركة حطّين ملاحم دامية مُني فيها جيشه بالهزيمة وتبعثر صفوفه حتى بلغ الأمر أن قاتل بنفسه في الرملة كتيبةً صليبية كاملة، ولم يكن حوله سوى خمسة فرسان. تلقّى هناك ضربةً قاسية بسيفٍ أصابت فخذه وكادت أن تبتره. وُضع على فرسه الذي حمله بعيدًا، لكنّه سرعان ما فقد وعيه في صحراء سيناء، فيما وصل ما تبقّى من جيشه مهلهلًا إلى القاهرة. خرج الناس يبحثون عنه في الصحراء، وبعد يومٍ وليلة وجدوه ممدّدًا بجوار صخرة، فاقدًا للوعي، وقد أصيب بالحمّى نتيجة تلوّث الجرح الذي خلّف له عرجًا واضحًا. وعلى الرغم من هذه الهزيمة المُنكرة، التي وُصفت بأنها أسوأ من ضورليوم الأولى بمراحل، لم ييأس البطل. تعافى من جرحه، وظل أثر العرج ملازمًا له، لكنه أعاد بناء جيش جديد، ودخل المعركة مرة أخرى في العفولة، فانهزم مجددًا. فهل يئس؟لم ييأس. بل اضطرّ حينها إلى توقيع معاهدة أليمة، غير أنه ظلّ واثقًا بالنجاح. وبعد معركة الرملة الدموية، سأل شيخه متعجبًا: كيف فرّ بي الفرس، وهو الذي لم يفعلها قط من قبل؟ فأجابه الشيخ بثقة: إن الله أراد لك أمرًا لن يحققه أحد سواك، ولهذا حفظك بالفرار. توالت بعدها المعارك الصغيرة التي لم تكن حاسمة، بين انتصار وهزيمة، حتى منحه الله ثمرة النصر الكبرى في حطّين. وهناك تحقّق الحلم، فحرّر القدس، وظلّ يعرج جسدًا، لكنه لم يتوقف عن السير نحو غايته. من يقرأ سيرة صلاح الدين في الدراسات الأكاديمية بعيدًا عن الكتب الكلاسيكية التي زيّنها حبّ القائد، سيُدهش من هذا الرجل العظيم؛ فقد كان عظيمًا في انتصاراته، وعظيمًا كذلك في انكساراته، لأنه لم يعرف اليأس قط. عاش لأجل هدف واحد: تحرير القدس. ورغم كثرة الأخطاء والانكسارات في الرملة والعفولة وأرسوف، فإنّه حقق الحلم، لنفسه وللأمة.
في سبتمبر/أيلول 2004، خرج شاب فلسطيني لم يتجاوز الثامنة عشرة، يضع لثامًا أسود يخفي ملامحه. ثلاث ساعات فقط فصلت بين تكليفه بالمهمة الأولى وصعوده إلى المنصة ليقرأ بيانًا عسكريًا باسم كتائب القسّام. كانت لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها صنعت ميلاد شخصية ستصبح لاحقًا واحدة من أكثر الرموز حضورًا في الصراع العربي–الإسرائيلي: أبو عبيدة لم يكن الفتى حينها يدرك أن دقائق قليلة خلف الميكروفون ستغيّر حياته للأبد. فقد حصل على مجموع دراسي يؤهله لدخول كلية الطب، لكنه اختار دراسة الشريعة. قرأ أول بيان رسمي قبل أن تطأ قدماه قاعة جامعية، واختار أن يحمل رسالة جماعية بدل أن يحمل حقيبة طبيب.صناعة أيقونةمنذ ذلك اليوم، لم يعد أبو عبيدة مجرد ناطق رسمي. صار صوتًا لمجتمع محاصر، ورمزًا إعلاميًا وعسكريًا في آن واحد. لثامه الأسود تحوّل إلى شعار للسرّية والمقاومة، وعيناه وسبابته أصبحتا لغة بصرية يحفظها الملايين.الإعلام الإسرائيلي نفسه أقرّ بأن ظهوره “يهزّ المعنويات”، إذ يرتبط اسمه غالبًا بالإعلان عن عمليات نوعية أو رسائل تهديد مباشرة. تقارير عبرية عام 2021 ذكرت أن اسمه تكرر في نشرات الأخبار العبرية أكثر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية.خطبة في زمن الحربخطابه مزيج بين نبرة الواعظ ولغة القائد العسكري. فهو يستشهد بالآيات القرآنية، ويستحضر التاريخ، ويطرح تهديدات محددة. هذه اللغة جعلت بياناته ذات وقع مزدوج:عربيًا: مصدر إلهام ورفع للمعنويات.إسرائيليًا: إنذار وتحذير يترقبه الجنود وعائلاتهم بقلق.أظهرت إحصاءات لوسائل الإعلام أنه:خلال حرب 2021، تصدّر اسم “أبو عبيدة” الترند على تويتر 14 مرة في دول عربية وإسلامية.في حرب 2023–2024، حققت أول كلمة له بعد اندلاع المواجهة أكثر من 50 مليون مشاهدة في 48 ساعة عبر الفضائيات والمنصات الرقمية.اظهر استطلاع رأي أجراه مركز فلسطيني عام 2023 أن 70% من الشباب الفلسطيني يعتبرون أبو عبيدة رمزًا للقوة والصمود. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بعينين وسبابَةوراء لثام أسود، لم يظهر من وجهه سوى العينين. ومع كل خطاب، كان يرفع سبابته للتأكيد على رسالته. هذه الإشارات تحوّلت إلى لغة بصرية كاملة؛ انتشرت في رسوم وكاريكاتيرات وميمز على مواقع التواصل، لتصبح جزءًا من الثقافة الشعبية العربية.في مقابل عشرات الزعماء العرب الذين يملكون جيوشًا ودولًا، ظهر هو بجسد نحيل وصوت متعب ليؤكد أن الرمزية لا تُقاس بحجم الدولة، بل بحجم الفعل والإصرار.حين يتكلم اللثامالأثر الأكبر لأبو عبيدة ربما لم يكن عسكريًا بقدر ما كان نفسيًا. ففي حرب 2014، حين أعلن عن أسر الجندي شاؤول آرون، سُجّلت في إسرائيل واحدة من أكبر حالات الصدمة الجماعية، إذ تضاعفت مكالمات العائلات إلى خطوط الجيش بنسبة 40% في يوم واحد.في حرب 2023–2024، بمجرد أن ألمح إلى مصير بعض الأسرى الإسرائيليين، تصدّر نشرات الأخبار العبرية، متجاوزًا تصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع. محللون نفسيون إسرائيليون وصفوا خطابه بأنه جزء من “المعركة على الوعي”.يعتمد أبو عبيدة على أسلوب “التصعيد الموزون”: يبدأ بآية أو دعاء، ثم يطلق وعدًا أو تهديدًا محددًا، قبل أن يذكّر بواقعة سابقة تحققت، ما يعزز المصداقية. وبحسب تقديرات مراكز بحث إسرائيلية، فإن 70% من وعوده العسكرية في العقدين الأخيرين تحققت كليًا أو جزئيًا، ما جعل بياناته موثوقة في نظر الجمهور الإسرائيلي قبل العربي.لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية: نيلسون مانديلا كتب بياناته من السجن، وتشي غيفارا صار رمزًا عالميًا بفضل صوره وخطاباته. لكن المختلف في حالة أبو عبيدة أن الفضاء الرقمي ضاعف أثره، فجعل بيانه الصادر من غزة يصل إلى جاكرتا وإسطنبول خلال دقائق. لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية ظهور أخير.. أم بداية جديدة؟ في آخر تسجيلاته، ظهر أبو عبيدة بملامح متعبة وصوت مثقل، لكنه حافظ على نبرة التحدي. كأنما يودّع أو يوصي، أو يفتتح فصلًا جديدًا. "يا أحرار هذا العالم …”.. لم تكن الكلمات دعاءً عابرًا، بل تلخيصًا لمسيرة بدأت في عمر الثامنة عشرة حين وُضع اللثام، واستمرت حتى صار رمزًا لجيل بأكمله يعيش بالحرب ويتكلم بالبيان.
من البديهي أن يكون السؤال الأبرز بعد الضربة الأميركية المباشرة التي طالت منشآت إيران النووية: هل ينخرط حزب الله اللبناني، كما غيره من “وكلاء” إيران وأذرعها، في المعركة المقبلة إلى جانب طهران؟في الظاهر، يبدو أنّ الحزب مستعدّ دائمًا لفتح جبهة الجنوب، لكنّ الحسابات الميدانية والسياسية تقول ما هو أعمق من ذلك بكثير جاهزية وحسابات معقّدة يُعدّ حزب الله أحد أقوى “أذرع” إيران في المنطقة، يمتلك ترسانة هائلة تتجاوز 150 ألف صاروخ، منها ما يتميّز بالدقّة العالية. كما يملك بنية تحتيّة عسكريّة عميقة، ووحدات مشاة نخبوية اكتسبت خبرة قتاليّة واسعة خلال مشاركته في الحرب السوريّة.قبل الحرب الأخيرة، كان يُقال إنّ الحزب قادر على إطلاق ألف صاروخ يوميًّا لمدة شهرين دون أن تُستنزف ترسانته، لكنّ الحرب الأخيرة غيّرت الكثير مما كان قائمًا قبلها، ما استدعى إعادة النظر في قدرة الحزب على الاستمراريّة بنفس الوتيرة. على الرغم من القوّة الظاهريّة، لا يتحرّك الحزب في مثل هذه المواجهات بقرار منفرد. فالتدخّل العسكريّ الشامل من لبنان مرتبط بأوامر من القيادة الإيرانيّة، وبسياق استراتيجيّ إقليميّ واسع يشمل العراق واليمن وسوريا. وهنا تكمن العقبات الرئيسيّة أمام قرار المواجهة العسكريّة: الضعف بعد الحرب: خرج حزب الله من الحرب الأخيرة مع إسرائيل أكثر ضعفًا على عدّة مستويات، عسكريًّا، وتنظيميًّا، وماليًّا، وقياديًّا. الوضع اللبنانيّ الهش: الانهيار الاقتصاديّ، الغضب الشعبيّ، والانقسام الطائفيّ تجعل الحرب مقامرة مكلفة على الصعيد الشعبيّ، بل قد تقود إلى تفجّر الأوضاع داخليًّا. الرّد الإسرائيليّ المحتمل: التهديدات الإسرائيليّة بالرّدّ “غير المسبوق” تشمل تدميرًا شاملًا للبنية التحتيّة في الجنوب وبيروت، مع عواقب كارثيّة على لبنان بأكمله. الخسائر السياسيّة: أيّ حرب قد تطيح بمكاسب الحزب داخل مؤسّسات الدولة، وتُضعف شرعيّته أمام جمهور غير الشيعة، ما يُهدّد موقعه السياسيّ الداخليّ. لا يمكن فصل التدخّل المحتمل لحزب الله عن السياق الإقليمي والدولي، فالمعادلات الحاليّة تتشابك بين التوازنات العسكريّة والسياسيّة، والمصالح الاستراتيجيّة لكلّ طرف: الرهان على الحرب بالوكالة: حزب الله يُمثّل العمود الفقريّ لمحور المقاومة في لبنان، لكنّه لا يمتلك القرار الأخير، إذ ترتبط تحرّكاته بشكل مباشر بإيران، التي تراهن على قدرة حزب الله على استنزاف العدوّ الإسرائيليّ دون الانجرار إلى حرب تقليديّة شاملة قد تُضعف مكانة محورها. هذا الرهان يظهر بوضوح في التدرّج التكتيكيّ للاشتباكات، وتجنّب المواجهات المفتوحة. تأثير الحرب في لبنان داخليًّا: أيّ تصعيد شامل سيضع لبنان أمام كارثة إنسانيّة واقتصاديّة، خصوصًا في ظلّ الانهيار الحالي. وهذا يضع الحزب أمام معضلة بين خيارات الردع والحفاظ على قواعده الشعبيّة، حيث قد يخسر الحرب الشعبيّة التي يعتمد عليها. المشهد الإقليميّ والدوليّ: الدعم الأميركيّ الإسرائيليّ المتزايد لإسرائيل، وتحركات القوى الكبرى مثل روسيا والصين في المنطقة، تُضيف طبقة من التعقيد. إنّ انخراط حزب الله في الحرب قد لا يغيّر كثيرًا ميزان القوى، لكنه قد يجرّ ردود فعل دوليّة غير محسوبة، ممّا قد يُعمّق الأزمات الإقليميّة. الوضع الداخلي اللبناني لا يسمح بحرب واسعة. الجيش اللبناني متحفّظ، القوى السياسيّة منقسمة، والرأي العام يعيش أزمة معيشيّة خانقة، والأغلبيّة العظمى من اللبنانيين ضدّ الدخول في مواجهة جديدة مع إسرائيل المواجهة الكاملة والتشويش المحسوب في ظلّ هذه المعطيات، يُحتمل أن يكون خيار حزب الله – وإن ظلّ مستبعدًا – هو فتح جبهات تكتيكيّة محدودة، بهدف تشتيت وتركيز الانتباه بعيدًا عن إيران، دون الانزلاق إلى حرب شاملة: فتح جبهة تشتيت تكتيكيّة: إطلاق رشقات صاروخيّة محدودة على مستوطنات إسرائيليّة بهدف تشتيت الدفاعات الجويّة، مع تجنّب التصعيد الكبير. تفعيل جبهة الجولان السوريّ: عبر مجموعات موالية أو تنسيق ميدانيّ غير مباشر، يمكن ضرب إسرائيل من جبهة الجولان، ما يسمح للحزب بالضغط دون تحمّل مسؤوليّة مباشرة. الدور الاستخباراتيّ الإقليميّ: يُساهم الحزب في إدارة العمليّات اللوجستيّة والتنسيق الاستخباراتي بين الحشد الشعبيّ في العراق، والحوثيين في اليمن، ضمن غرفة عمليّات “محور المقاومة”. الردّ الشامل إذا قرّرت طهران الرّد عسكريًّا بشكل مباشر وكبير ضدّ القواعد الأميركيّة أو إسرائيل، فإنّ حزب الله سيُدفع، على الأرجح، إلى خوض حرب شاملة، تتضمّن: قصفًا مكثّفًا على الجليل والمراكز الحسّاسة في إسرائيل. محاولات اختراق برّي محدودة على الحدود. هجمات سيبرانيّة تستهدف منشآت إسرائيليّة وخليجيّة. توقّعات مستقبليّة في السيناريو الهادئ: لن ينخرط حزب الله في أي أعمال عسكرية مساندة، أو سيبقى ملتزمًا بسياسة الرّد المحدود والتصعيد المتوازن، متجنّبًا الحرب الشاملة، مستفيدًا من الدبلوماسيّة الإقليميّة والضغوط الاقتصاديّة لتحقيق أهدافه. في السيناريو المتفجّر: قد نشهد تصعيدًا كبيرًا يفتح فيه حزب الله جبهات متعدّدة، ما يؤدّي إلى نزاع إقليميّ شامل، مع تداعيات كارثيّة على لبنان والمنطقة، قد تصل إلى تدخّل دوليّ مباشر. يبقى السؤال مفتوحًا على مصراعيه حول مدى قدرة حزب الله على موازنة مصالحه العسكريّة والإقليميّة مع ضغوط الواقع الداخليّ اللبنانيّ، وما إذا كانت الحسابات الاستراتيجيّة ستُغيّر قواعد اللعبة في الأيام القادمة. هذا التدخّل، إن حصل، قد يكون نهاية حزب الله وبداية مشهديّة جديدة في الساحة اللبنانيّة ستختلف كليًّا عمّا كانت عليه في اليوم الذي سبق. حزب الله يمتلك القوّة لإحداث تغيير في المعركة الإقليميّة، لكنّه يُدرك أن توقيت الحرب وسقفها ليسا في مصلحته الكاملة. لذلك، فإنّه أقرب إلى خيار عدم الردّ، أو الردّ المحدود والمدروس، إلّا إذا تحوّلت الحرب ضدّ إيران إلى تهديد وجوديّ، فحينها سيكون لبنان حتمًا على خط النار. المعركة المقبلة، إن اشتعلت، لن تبقى حدودها عند فوردو ونطنز، بل قد تتخطى شمال نهر الليطاني لتصل إلى بئر حسن، وربما ن أبعد من ذلك، لتكون لبنان ساحة تصعيد مفتوحة في حرب كبرى. النهاية المفتوحة