منذ ثلاثة عقود وأكثر، تُسوَّق بين اللبنانيين، وبخاصةٍ في البيئة الشيعية، مقولة أصبحت أقرب إلى المُسلَّمة: «الجيش ضعيف… ما عنده الإمكانيات ليحمينا». هذه الجملة التي تتردّد في المجالس الشعبية وفي خطاب الميليشيا الإعلامي، تحوّلت إلى ذريعة لاستمرار ازدواجية السلاح في لبنان، ولإبقاء قرار الحرب والسِّلم خارج مؤسّسات الدولة. لكنّ الوقائع الميدانية، والأرقام الاقتصادية، والتجربة المريرة في الحرب الأخيرة، تُثبت أن هذه الأسطورة لم تعُد صالحة، لا أخلاقيًّا ولا عمليًّا. امتحان فشل فيه السلاح القول إن ترسانة «حزب الله» حمت الأرض أو صانت البشر ليس دقيقًا. إسرائيل استهدفت في الأشهر الأخيرة الماضية الجنوب والضاحية والبقاع بآلاف الغارات، فكانت النتيجة أكثر من 1200 قتيل مدني وآلاف الجرحى، فيما نزح ما يزيد عن 120 ألف مواطن من منازلهم نحو بيروت ومناطق أكثر أمانًا.البنية التحتية الحيوية – من محطات الكهرباء والجسور والمستشفيات – انهارت في ساعات، فيما الصواريخ التي أُطلقت من الجنوب لم تمنع آلة الحرب الإسرائيلية من التوغّل أو القصف، بل وفّرت لها الذريعة لتوسيع بنك الأهداف.إذًا، ما الذي حُمي؟ لا الأرض صينت، ولا الإنسان وُقِي من المجازر. وهنا يظهر الفرق بين «مغامرة عسكرية» بلا غطاء سياسي، وبين «استراتيجية دفاعية وطنية» يضعها جيش واحد يمثّل الشرعية. مؤسّسة واحدة لدولة واحدة لبنان اليوم لا يملك ترف وجود جيشَين. الدولة تُختزل بمؤسّساتها، والجيش هو رمز وحدتها. أي تبرير لبقاء ميليشيا مسلّحة خارج الشرعية يعني عمليًّا تفكيك الدولة نفسها. لكن يجب أن يُقال بوضوح: لا يمكن أن يصبح الجيش قويًّا «بلحظة». الأزمة المالية التي بدأت عام 2019 دمّرت قدرة المؤسّسة العسكرية. الرواتب التي كانت تُقدَّر بحوالي 1.6 مليار دولار سنويًّا قبل الانهيار، انخفضت قيمتها الفعلية إلى أقل من 210 ملايين دولار عام 2021 بفعل انهيار الليرة وتضخّم الأسعار. هذا التدهور أدّى إلى موجات فرار واستقالات، وأجبر الجيش على الاعتماد على مساعدات غذائية ومالية من دول مانحة مثل فرنسا والولايات المتحدة ودول الخليج.ومع ذلك، لا يزال الجيش يضم نحو 80 ألف عنصر ناشط، ويشكّل المؤسّسة الوطنية الوحيدة التي تحظى بثقة اللبنانيين بنسبة تفوق 70% بحسب استطلاعات الرأي. هذه الثقة هي رأسماله الحقيقي، وليست الصواريخ العابرة للحدود ولا الشعارات الطائفية. العقلانية مقابل الارتجال قرارات الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية لا تُتَّخذ بالعاطفة أو الثأر. الجيش اللبناني مُلزَم بحسابات دقيقة: حماية المدنيين، تجنّب المجازر، صون البنية التحتية، والتصرّف ضمن معادلة الردع المتاحة.في المقابل، أثبتت التجربة أن القرارات الارتجالية لبعض القوى المسلّحة أدّت إلى تهجير الناس من قراهم، وإلى سقوط ضحايا مدنيين لا علاقة لهم بأي مواجهة.العقلانية ليست ضعفًا، بل هي مسؤولية. أمّا التهوّر فهو مغامرة دموية يدفع ثمنها الأبرياء. جيش مدعوم وعلاقات متوازنة المعادلة واضحة: لا استقرار ولا عودة للنازحين إلى قراهم إلّا بجيش واحد، مُموَّل ومدعوم ومجهَّز. وهذا يتطلّب مجموعة من العوامل: إصلاح مالي حقيقي يوقف نزيف الفساد الذي تُغطيه الميليشيات. شراكات عربية ودولية تمنح الجيش التدريب والتمويل والمعدّات. الولايات المتحدة وحدها قدّمت أكثر من 3 مليارات دولار منذ 2006 دعمًا للجيش، لكن المطلوب هو رؤية لبنانية تُترجِم هذا الدعم إلى بناء مؤسّسات لا إلى ترقيع. إجماع وطني على أن لا أمن ولا سيادة في ظل ازدواجية السلاح. الأسطورة التي تقول «الجيش ضعيف» لم تعُد تنطلي على اللبنانيين. ضعف الجيش ليس قدرًا، بل نتيجة إفقارٍ مُتعَمَّد لدولةٍ مُصادَرة. الجيش يمكن أن يقوى، إذا تحرّرت الدولة من وصاية السلاح الموازي، وإذا أُعيد وصل لبنان بعمقه العربي وبشراكاته الدولية. أمّا الاستمرار في المقولة نفسها فهو ببساطة خيانة لمستقبل بلدٍ يريد أن يعيش أبناؤه بأمان، تحت راية دولة واحدة، لا دويلات متناحرة.
لا يُخلق الأبطال أبطالاً، نعرف عنهم في إنجازاتهم، لكننا لا نعرف دوما ما عانوه من صعوبات وانكسارات وآلام في الطريق إلى القمة… خاض صلاحُ الدين الأيوبي قبل معركة حطّين ملاحم دامية مُني فيها جيشه بالهزيمة وتبعثر صفوفه حتى بلغ الأمر أن قاتل بنفسه في الرملة كتيبةً صليبية كاملة، ولم يكن حوله سوى خمسة فرسان. تلقّى هناك ضربةً قاسية بسيفٍ أصابت فخذه وكادت أن تبتره. وُضع على فرسه الذي حمله بعيدًا، لكنّه سرعان ما فقد وعيه في صحراء سيناء، فيما وصل ما تبقّى من جيشه مهلهلًا إلى القاهرة. خرج الناس يبحثون عنه في الصحراء، وبعد يومٍ وليلة وجدوه ممدّدًا بجوار صخرة، فاقدًا للوعي، وقد أصيب بالحمّى نتيجة تلوّث الجرح الذي خلّف له عرجًا واضحًا. وعلى الرغم من هذه الهزيمة المُنكرة، التي وُصفت بأنها أسوأ من ضورليوم الأولى بمراحل، لم ييأس البطل. تعافى من جرحه، وظل أثر العرج ملازمًا له، لكنه أعاد بناء جيش جديد، ودخل المعركة مرة أخرى في العفولة، فانهزم مجددًا. فهل يئس؟لم ييأس. بل اضطرّ حينها إلى توقيع معاهدة أليمة، غير أنه ظلّ واثقًا بالنجاح. وبعد معركة الرملة الدموية، سأل شيخه متعجبًا: كيف فرّ بي الفرس، وهو الذي لم يفعلها قط من قبل؟ فأجابه الشيخ بثقة: إن الله أراد لك أمرًا لن يحققه أحد سواك، ولهذا حفظك بالفرار. توالت بعدها المعارك الصغيرة التي لم تكن حاسمة، بين انتصار وهزيمة، حتى منحه الله ثمرة النصر الكبرى في حطّين. وهناك تحقّق الحلم، فحرّر القدس، وظلّ يعرج جسدًا، لكنه لم يتوقف عن السير نحو غايته. من يقرأ سيرة صلاح الدين في الدراسات الأكاديمية بعيدًا عن الكتب الكلاسيكية التي زيّنها حبّ القائد، سيُدهش من هذا الرجل العظيم؛ فقد كان عظيمًا في انتصاراته، وعظيمًا كذلك في انكساراته، لأنه لم يعرف اليأس قط. عاش لأجل هدف واحد: تحرير القدس. ورغم كثرة الأخطاء والانكسارات في الرملة والعفولة وأرسوف، فإنّه حقق الحلم، لنفسه وللأمة.
في سبتمبر/أيلول 2004، خرج شاب فلسطيني لم يتجاوز الثامنة عشرة، يضع لثامًا أسود يخفي ملامحه. ثلاث ساعات فقط فصلت بين تكليفه بالمهمة الأولى وصعوده إلى المنصة ليقرأ بيانًا عسكريًا باسم كتائب القسّام. كانت لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها صنعت ميلاد شخصية ستصبح لاحقًا واحدة من أكثر الرموز حضورًا في الصراع العربي–الإسرائيلي: أبو عبيدة لم يكن الفتى حينها يدرك أن دقائق قليلة خلف الميكروفون ستغيّر حياته للأبد. فقد حصل على مجموع دراسي يؤهله لدخول كلية الطب، لكنه اختار دراسة الشريعة. قرأ أول بيان رسمي قبل أن تطأ قدماه قاعة جامعية، واختار أن يحمل رسالة جماعية بدل أن يحمل حقيبة طبيب.صناعة أيقونةمنذ ذلك اليوم، لم يعد أبو عبيدة مجرد ناطق رسمي. صار صوتًا لمجتمع محاصر، ورمزًا إعلاميًا وعسكريًا في آن واحد. لثامه الأسود تحوّل إلى شعار للسرّية والمقاومة، وعيناه وسبابته أصبحتا لغة بصرية يحفظها الملايين.الإعلام الإسرائيلي نفسه أقرّ بأن ظهوره “يهزّ المعنويات”، إذ يرتبط اسمه غالبًا بالإعلان عن عمليات نوعية أو رسائل تهديد مباشرة. تقارير عبرية عام 2021 ذكرت أن اسمه تكرر في نشرات الأخبار العبرية أكثر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية.خطبة في زمن الحربخطابه مزيج بين نبرة الواعظ ولغة القائد العسكري. فهو يستشهد بالآيات القرآنية، ويستحضر التاريخ، ويطرح تهديدات محددة. هذه اللغة جعلت بياناته ذات وقع مزدوج:عربيًا: مصدر إلهام ورفع للمعنويات.إسرائيليًا: إنذار وتحذير يترقبه الجنود وعائلاتهم بقلق.أظهرت إحصاءات لوسائل الإعلام أنه:خلال حرب 2021، تصدّر اسم “أبو عبيدة” الترند على تويتر 14 مرة في دول عربية وإسلامية.في حرب 2023–2024، حققت أول كلمة له بعد اندلاع المواجهة أكثر من 50 مليون مشاهدة في 48 ساعة عبر الفضائيات والمنصات الرقمية.اظهر استطلاع رأي أجراه مركز فلسطيني عام 2023 أن 70% من الشباب الفلسطيني يعتبرون أبو عبيدة رمزًا للقوة والصمود. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بعينين وسبابَةوراء لثام أسود، لم يظهر من وجهه سوى العينين. ومع كل خطاب، كان يرفع سبابته للتأكيد على رسالته. هذه الإشارات تحوّلت إلى لغة بصرية كاملة؛ انتشرت في رسوم وكاريكاتيرات وميمز على مواقع التواصل، لتصبح جزءًا من الثقافة الشعبية العربية.في مقابل عشرات الزعماء العرب الذين يملكون جيوشًا ودولًا، ظهر هو بجسد نحيل وصوت متعب ليؤكد أن الرمزية لا تُقاس بحجم الدولة، بل بحجم الفعل والإصرار.حين يتكلم اللثامالأثر الأكبر لأبو عبيدة ربما لم يكن عسكريًا بقدر ما كان نفسيًا. ففي حرب 2014، حين أعلن عن أسر الجندي شاؤول آرون، سُجّلت في إسرائيل واحدة من أكبر حالات الصدمة الجماعية، إذ تضاعفت مكالمات العائلات إلى خطوط الجيش بنسبة 40% في يوم واحد.في حرب 2023–2024، بمجرد أن ألمح إلى مصير بعض الأسرى الإسرائيليين، تصدّر نشرات الأخبار العبرية، متجاوزًا تصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع. محللون نفسيون إسرائيليون وصفوا خطابه بأنه جزء من “المعركة على الوعي”.يعتمد أبو عبيدة على أسلوب “التصعيد الموزون”: يبدأ بآية أو دعاء، ثم يطلق وعدًا أو تهديدًا محددًا، قبل أن يذكّر بواقعة سابقة تحققت، ما يعزز المصداقية. وبحسب تقديرات مراكز بحث إسرائيلية، فإن 70% من وعوده العسكرية في العقدين الأخيرين تحققت كليًا أو جزئيًا، ما جعل بياناته موثوقة في نظر الجمهور الإسرائيلي قبل العربي.لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية: نيلسون مانديلا كتب بياناته من السجن، وتشي غيفارا صار رمزًا عالميًا بفضل صوره وخطاباته. لكن المختلف في حالة أبو عبيدة أن الفضاء الرقمي ضاعف أثره، فجعل بيانه الصادر من غزة يصل إلى جاكرتا وإسطنبول خلال دقائق. لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية ظهور أخير.. أم بداية جديدة؟ في آخر تسجيلاته، ظهر أبو عبيدة بملامح متعبة وصوت مثقل، لكنه حافظ على نبرة التحدي. كأنما يودّع أو يوصي، أو يفتتح فصلًا جديدًا. "يا أحرار هذا العالم …”.. لم تكن الكلمات دعاءً عابرًا، بل تلخيصًا لمسيرة بدأت في عمر الثامنة عشرة حين وُضع اللثام، واستمرت حتى صار رمزًا لجيل بأكمله يعيش بالحرب ويتكلم بالبيان.