يوماً بعد يوم، تُثبت صيدا أنّها مدينة لا تُشبه أحدًا، لكنها في الوقت نفسه مدينة لا يصنع قرارها من أبنائها فحسب. هنا، السياسة تُدار بالانتظار… انتظار الداخل وانتظار الخارج، وانتظار ما قد يهبط من فوق الطاولة أو من تحتها. يقول مرجع سياسي لبناني “عتيق” لصحيفة “البوست” عندما سُئل عن قراءته للانتخابات النيابية المقبلة في صيدا “لكل المناطق اللبنانية خصوصيتها، لكن في صيدا الأمر مختلف كليًا. الكل ينتظر بعضه… والكل ينتظر الخارج فعليًا.” ويشرح الرجل”بهية تنتظر سعد، وسعد ينتظر بن زايد، وبن زايد ينتظر بن سلمان… أما أسامة سعد وعبد الرحمن البزري فينتظران بهية، ما يجعل كليهما في نهاية المطاف أسيرًا لانتظار الخارج أيضًا. حتى المرشحون الجدد لا يملكون رفاهية الحركة: ترشّح بهية أو عزوفها قد يُحيي حظوظهم أو يدفنها قبل أن تولد.” ثم يتابع “أضِف إلى ذلك أنّ الجماعة الإسلامية، بما تمثّله في صيدا، باتت تنتظر قرار ترامب التنفيذي بتصنيفها منظمة إرهابية، وما سيخلّفه ذلك من ارتباك على ترشيحاتها وتحالفاتها وخريطتها الانتخابية.” مدينةٌ كاملة تقف على رصيف الانتظار…تنتظر كلمة من الرياض، ونظرة من أبوظبي، وإشارة من واشنطن. أمّا صناديق الاقتراع فليست سوى محطةٍ أخيرة في سباقٍ يحدّد مساره الخارج قبل الداخل.
لم يَعُدِ الأمرُ سرًّا، ولا محلَّ تأويلٍ أو تحليل. فالانتخاباتُ النيابيةُ المقبلةُ في صيدا، بغضِّ النظرِ عن تاريخِ إجرائِها، تنتظرُ قرارَ بَهِيّةَ الحَريري “الرَّسمي والعَلَني” بالمشاركةِ فيها أو عدمِه. مِن بعدِ هذا الإقرار لن يكونَ حكماً كما قبلَه؛ فعلى أساسِه سيتحدَّدُ الفائزُ أو الفائزون، وعليه ستُنسَجُ خريطةُ التحالفاتِ التي سيراعي أصحابُها خفايا القانونِ الحالي، لناحيةِ الرَّوافعِ والكسورِ والصوتِ التفضيلي وغيرها. وحدَها “إم نادر” دونَ غيرِها من المرشَّحينَ إنْ قرَّرت… ضَمِنَت، بغضِّ النظرِ عن الخصومِ والتحالفاتِ التي ستُركَّب. أمّا عزوفُها، تحت أيِّ مُسمّى، فسيفتحُ البابَ أمام صراعٍ معروفٍ بين القوى السياسيةِ التقليدية، أو حتى دخولِ لاعبينَ جُدُد من خلالِ تحالفاتٍ قد تُرسَمُ على صعيدِ المدينة، أو حتى القضاء “بامتدادِه الجزيني”. #### الأسئلةُ في صيدا اليوم كثيرة، مُباحة ومنطقية. هل ستُخالِف بَهِيّةُ قرارَ تجميدِ “تيار المستقبل” مشاركتَه في الحياة السياسيةِ اللبنانية؟ وإنْ قرَّرتِ الترشُّح بعيداً عن قرار التيار تحت تبريرِ “أخت الشهيد” والخصوصيةِ الصيداوية ومرشَّحةٍ منفردةٍ نزولاً عند طلبِ العائلاتِ والمُؤيّدين… هل سيقبلُ سعدٌ بذلك؟ وهل سيتحمّل الجميعُ فكرةَ “تحدّي” السعوديةِ بكسرِ مبتغاها في تشكيلِ النوابِ السُّنّة في برلمان 2026؟ وكيف سينعكسُ ذلك على مدينةٍ قد يكونُ نائباها السُّنّيان مُقاطَعَين من قبل “الحقبة السعودية” المقبلة على لبنان؟ ثم تبرز أسئلةٌ أخرى من النوعِ المحلي، هل سيُترجِم جوُّ التقاربِ الملموس على أكثر من صعيد بين الغريمين التقليديين “الحريري” و”سعد” تحالفاً انتخابياً؟ وما الذي سيعنيه ذلك بالنسبةِ للمدينة؟ هل هو أمرٌ محمود أم تكريسٌ لزعاماتٍ اختبرها الصيداويون على مدى سنوات، وأوصلت المدينةَ إلى الحالِ التعيسةِ التي بلغتها حالياً؟ الكلُّ ينتظرُ، لكن صيدا التي لا تُشبِهُ إلّا نفسها، تنتظرُ قرارَ بَهِيّة قبل غيره من الأشياء المنتظرة، حتى تبدأ محركاتُ الماكيناتِ بالدورانِ بسرعةٍ أكبر. حتى ذلك الحين، الكلُّ يترقّب ويخشى “دعسةً ناقصة” يصعبُ لملمتُها لاحقاً. إنه بالفعل زمن “الفوارغ”… #### وماذا بالنسبةِ للنائب عبد الرحمن البزري، الذي صار خيارَ السعوديةِ الأول في صيدا خلال فترةٍ قصيرة، دونَ أن يُترجَم ذلك “زخماً” كبيراً وملموساً على أرضِ الواقع من قبل الراعي الخارجي؟ ماذا عن الَّذي يُضْمِرُه «الثُّنائيُّ الشِّيعي» للمدينةِ في قابلِ الأيّام؟ مَن سيكونُ المرشَّحُ الَّذي سيُؤدّي المهامَّ المطلوبةَ منهُ ثَمَنًا لـ 9000 صوتٍ فُرِضَ على نائبِ صيدا أن يَتملَّقَها ليُصبِحَ مُمثِّلًا عن مدينته؟وأيُّ دورٍ سيكون لِـ «الجماعةِ الإسلاميّة» في المدينة؟ هل سيُقَرِّرُ مسؤولُها الترشُّحَ مع عِلمهم بالحُرْمِ الخليجيِّ المفروضِ على جماعةِ «الإخوان المسلمين»؟ أم سيكونونَ رافعةً لغيرِهم من المرشَّحين؟ أم سَيَنْكَفِئُونَ عن خوض هذهِ الانتخاباتِ كُلّيًّا؟ ومن الأسئلةِ التي تبرزُ بقوةٍ في مداولاتِ المجتمعِ الصيداوي اليوم: ماذا عن اللاعبينَ الجُدُد الذين سيدخلون في حساباتِ المعركة الانتخابية المرتقبة؟ ما هو واقعُ حيثيّتِهم، ومَن يقفُ وراءَ حركتِهم، لاسيما الماليةُ منها والسياسية؟ وهل تتمكّنُ الأغلبيةُ الصامتةُ التي لم يُغرِها النزولُ إلى صندوقةِ الاقتراع في الدورتينِ الماضيتين من قلبِ المعادلةِ التقليدية التي بات التعاملُ معها كجزءٍ من قدرٍ محتومٍ فُرِض على الناس لا يمكن تغييرُه؟ #### حتى اليوم لا تبدو الأجواءُ الدوليةُ والإقليمية “متهيّبة” وكأنَّ الانتخاباتِ حاصلةٌ في موعدِها في أيار المقبل. وعلى الرغم من ذلك، تنقلُ مصادرُ مُطَّلِعة لـ”البوست” أنَّ “الجو” الأميركي والسعودي متمسّكٌ بفكرةِ إجراءِ الانتخاباتِ في موعدِها، وأنَّ التأجيلَ ولو ساعةً واحدةً أمرٌ غيرُ مطروح، حتى من قوى مؤثرة محلية، إلّا في حالِ دخولِ متغيّرٍ خارجيٍّ قوي، كعدوانٍ إسرائيليٍّ مُوسَّع يشلُّ مجردَ فكرةِ إجراءِ الانتخاباتِ لوجستياً وسياسياً. الكلُّ ينتظرُ ويترقب، لكن صيدا التي لا تُشبِهُ إلّا نفسها، تنتظرُ قرارَ بَهِيّة قبل غيره من الأشياء المنتظرة، حتى تبدأ محركاتُ الماكيناتِ بالدورانِ بسرعةٍ أكبر. حتى ذلك الحين، الكلُّ يترقّب ويخشى “دعسةً ناقصة” يصعبُ لملمتُها لاحقاً. إنه بالفعل زمن “الفوارغ”…
في كُلِّ موسمٍ انتخابيٍّ في لُبنان، يُعادُ فَتحُ الصُّندوقِ ذاتِه: صُندوقُ المالِ السياسيِّ المُتَنَكِّرُ بوجهِ “الدَّعم”، وصُندوقُ الوِصايةِ المُتجدِّدُ بأسماءٍ جديدة.يَتبدَّلُ اللاعبونَ وتَبقى اللُّعبةُ واحدة: مَن يَملِكُ الفَرَسَ، ومَن يَملِكُ حَليبَها. تذكَّرتُ وأنا أُتابِعُ مَشاهدَ الحَراكِ الانتخابيِّ وتصريحاتِ بعضِ الرُّعاةِ الإقليميين، قِصَّةً قديمةً من التُّراثِ العربيّ، عنوانُها “العِرقُ دَسّاس”.قِصَّةُ رجلٍ لم يَكُنْ في الحقيقةِ سوى مِرآةٍ تُعكِسُ طَبائعَ السَّلاطين، وتَفضَحُ وَهمَ النَّسبِ حين يُستبدَلُ الأصلُ بالتَّربية. يُحكى أنَّ رجلًا دخلَ يومًا مملكةً، يطوفُ شوارعَها وهو يُنادِي بثقةٍ:“أنا رجلٌ سياسيٌّ، أُصلِحُ ذاتَ البَيْنِ وأَحلُّ كُلَّ خِلافٍ.”سَمِعَهُ المَلِكُ فاستدعاهُ وقالَ له: إن كُنتَ سياسيًّا فدُلَّني على حِكمتِكَ؛ لديَّ فَرَسٌ عَنيدةٌ لا يُفلِحُ أحدٌ في تَرويضِها، فَكُنْ أنتَ سائسَها. ارتبكَ الرجلُ وقالَ: يا مولاي، أنا سياسيٌّ لا سائسُ خُيولٍ.قالَ المَلِكُ: بل أنتَ سائسٌ إنْ أَمَرتُكَ، وإلَّا قَطعتُ رأسَكَ.وهكذا بدأَ الامتحانُ الأوّل. جَلَسَ الرجلُ في الإسطبلِ، وحاوَلَ التَّعامُلَ مع الفَرَسِ أيّامًا، ثُمَّ فَرَّ هاربًا.لكنَّ حَرَسَ المَلِكِ قَبَضوا عليه، وسألهُ المَلِكُ غاضبًا: لِماذا هربتَ؟ هل في فَرَسي عَيْبٌ؟قالَ الرجلُ وهو يَرتَجِفُ: أَمَنيَ على حياتي يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.فقالَ الرجلُ: فَرَسُكَ أصيلةٌ، لكنَّها لَمْ تَرضَعْ مِن حَليبِ أُمِّها. ثارَ المَلِكُ واتَّهَمَهُ بالكَذِبِ وسَجَنَه.لكنَّه ما لَبِثَ أنِ استدعى سائسَ الفَرَسِ القديمَ وسأله: مِن أينَ رَضَعَت فَرَسي؟فقالَ السائسُ خائفًا: يا مولاي، ماتت أُمُّها عند الولادةِ، فأرضَعْتُها بَقَرةَ القصرِ كي لا تَموت. أمَرَ المَلِكُ بإخراجِ الرجلِ مِن السِّجنِ، وسأله مَدهوشًا: كيف عَرَفتَ؟قالَ الرجلُ: الفَرَسُ الأصيلةُ تَرفَعُ رأسَها حين تَبحَثُ عن العُشبِ، أمّا التي رُضِعَتْ مِن ضَرعِ البَقَرِ فَتُطأطِئُ رأسَها. أُعجِبَ المَلِكُ بفِطنَتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ مُستشارًا للمَلِكَة.عَمِلَ الرجلُ أيّامًا في القصرِ، ثُمَّ فَرَّ مُجدّدًا. أُعيدَ مُقيَّدًا، وسألهُ المَلِكُ: ما الذي وَجَدتَهُ في زوجتِنا حتّى تَهرُبَ؟قالَ الرجلُ: أمانُكَ يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.قالَ الرجلُ: زوجتُكَ مَلِكَةٌ، لكنَّها ليست ابنةَ مُلوكٍ. غَضِبَ المَلِكُ، وزَجَّهُ في السِّجنِ ثانيةً، ثُمَّ شَدَّ رِحالَهُ إلى حَمَاهُ، وقالَ له والسَّيفُ على رَقبَتِه:قُلِ الحقيقةَ، ما نَسَبُ ابنتِكَ؟ ارتجَفَ الرجلُ وأجابَ: ماتتِ ابنتي الحقيقيةُ صغيرةً، فتبنَّيتُ طِفلةً مِن الغَجرِ وربَّيتُها كابنتي. عادَ المَلِكُ إلى مَملكتِه مَصدومًا، وأطلَقَ سَراحَ السجينِ وسأله: كيفَ عَرَفتَ أنَّ زوجتي مِن أصلٍ غَجَريٍّ؟قالَ الرجلُ: الغَجرُ يَغمِزونَ حينَ يَتكلّمون، ومَلِكتُكَ كثيرةُ الغَمزِ في حديثِها. أُعجِبَ المَلِكُ بحِكمتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ خادِمًا لأُمِّه. رَفَضَ الرجلُ، لكنَّ السَّيفَ أَقنَعَه. ومعَ كُلِّ وظيفةٍ جديدةٍ كانتِ المائدةُ تَتَّسِعُ: مِن وجبتينِ إلى دَجاجتينِ، ثُمَّ إلى خروفينِ في اليوم. وبَعدَ أيّامٍ، هَرَبَ الرجلُ للمَرّةِ الثالثةِ.قُبِضَ عليه وأُعيدَ إلى القصرِ، وسألهُ المَلِكُ: هذهِ المرّةَ ماذا وَجَدتَ في أُمِّنا؟قالَ الرجلُ: لَستَ ابنَ المَلِكِ. أُصيبَ المَلِكُ بالذُّهولِ، وواجَهَ أُمَّهُ فاعترَفَت: كانَ زوجي عَقيمًا، ومعَ ذلكَ كانَ يَذبَحُ زوجاتِه إنْ لَم يُنجِبنَ. كنتُ مُتزوِّجةً مِن طَبّاخِ القصرِ، وحينَ رآني المَلِكُ أَمَرَ بطلاقي وتزوَّجَني، ولم يَكُن يَعلَمُ أنَّني كنتُ حامِلًا منك.أنتَ ابنُ الطَّبّاخِ، لا ابنُ المَلِكِ. عادَ المَلِكُ إلى الرجلِ في سِجنِه وقالَ له غاضبًا: كيفَ عَرَفتَ هذا السِّرَّ العظيمَ؟فأجابَهُ بابتسامةٍ باردةٍ: لأنَّ الملوكَ لا يُكافِئونَ بالطَّعامِ، وكُلُّ مكافآتِكَ لي كانت أطباقًا مِن اللَّحمِ والدَّجاجِ والخِراف… وهذهِ عادةُ الطَّبّاخينَ لا الملوكِ. العرق دسّاس في تلكَ الحِكايةِ القديمةِ المعرُوفةِ، أكثرُ مِن حِكمةٍ سياسيّةٍ واحدةٍ. فالعِرقُ حقًّا دَسّاس، والذينَ يَرضَعونَ مِن ضَرعٍ أجنبيٍّ لا يُمكنُ أنْ يَسيروا برأسٍ مرفوعةٍ، ولا أنْ يَتصرّفوا كأبناءِ وطنٍ حُرٍّ. هكذا تَفقِدُ الفروسيّةُ معناها، حينَ يُصبِحُ السائسُ غريبًا، والمكافأةُ وجبةً، والمَلِكُ مُجرّدَ طَبّاخٍ يَظنُّ نفسَهُ سيّدًا على المائدة. في لُبنانَ اليومَ، هُناكَ مَن يَلبسُ عَباءةَ “الوِصايةِ الأُخويّةِ” ويُقدِّمُ المالَ السياسيَّ كأنَّهُ حَليبُ حياةٍ، لكنَّهُ في الحقيقةِ يُربّي أجيالًا مِن “الخُيولِ” الّتي نَسيت رائحةَ أُمِّها، تَبحَثُ عن رِزقِها في أيدي المانحينَ لا في عَرَقِها. مَن يَقبَلْ بالمالِ كَهُويّةٍ سياسيّةٍ، يَهبِطْ برأسِه كما فَعَلَت الفَرَسُ الّتي ظنَّها المَلِكُ أصيلةً. ومَن يَبيعْ قرارَهُ الانتخابيَّ مُقابلَ حُفنَةٍ مِن الدّولارات، يَنسَ أنَّهُ في جُمهوريّةٍ لا مَزرعةٍ، وأنَّ الكرامةَ ليست سِلعةً تُشترى في موسمِ صناديقِ الاقتراعِ. السّياسةُ، مِثلُ الفروسيّةِ، لا تُورَّث. إمّا أنْ تُولَدَ مِن رَحِمٍ حُرٍّ، وإمّا أنْ تَبقَى تَتصرّفُ كالبَقَرِ، تُطأطِئُ رأسَها لِمَن يُطعِمُها. فهل يَتعلَّمُ لُبنانُ، قبلَ أنْ يَفوتَهُ الحَليبُ مرّةً أُخرى، أنَّ الأصالةَ لا تُستورد؟ وأنَّ الفَرَسَ الّتي لَمْ تَرضَعْ مِن أُمِّها، قد تَركُضُ سريعًا… لكنَّها لا تَصِلُ أبدًا؟