في خضمِّ الأحداثِ المتسارِعة التي تشهدُها منطقةُ الشرقِ الأوسط، برز اسمُ هيثم علي الطبطبائي (أبو علي)، القياديّ العسكريّ في حزب الله، الذي أُعلن عن اغتياله في غارةٍ إسرائيليةٍ بالضاحيةِ الجنوبية لبيروت عصرَ أمس الأحد.لم يُسلَّط هذا الحدثُ الضوءَ على الشخصيةِ المستهدفةِ فحسب، بل إنّ اسم العائلة غيرِ المألوفِ لبنانياً بحدِّ ذاته كان محلَّ تساؤل، وأعاد إلى الواجهةِ تاريخَ عائلةٍ ذاتِ امتدادٍ وحضورٍ واسعٍ ونفوذٍ دينيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ عميقٍ في العالمِ الإسلامي، من إيران والعراق إلى لبنان.فمَن هم آلُ الطبطبائي، وما هو تاريخُهم وأبرزُ رجالاتِهم؟ نسبٌ شريف ولقبٌ فريد تُعدّ عائلةُ الطبطبائي، أو «آل طباطبا» كما تُعرَف في المصادرِ التاريخية، من الأسرِ العلويّة التي يعودُ نسبُها مباشرةً إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، حفيدِ النبيّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلام؛ ولذلك يُعرَفون بـ السادة الحسنيين.أمّا لقبُ طباطبا الفريد، فيعود إلى جدّهم إبراهيم بن إسماعيل الديباج (الجيل الخامس من أحفاد الإمام الحسن). وتتعدّد الروايات في سببِ هذا اللقب؛ أشهرُها أنه كان يلفظ حرفَ «القاف» «طاءً» في لهجته، فكان يقول «طَبا» بدلًا من «قَبا» (وهي كلمةٌ فارسية تعني الجُبّة أو العباءة)، فلقِّب بـ «طباطبا».وروايةٌ أخرى تذكر أنّ اللقب يعني «سيّد السادات» باللغةِ النبطية، وهو لقبٌ أُطلق عليه عند خروجه من سجن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. انتشارٌ جغرافيّ وتأسيسُ دول على مدى ثلاثةَ عشرَ قرناً، انتشرت فروعُ عائلةِ الطبطبائي من موطنها الأصلي في الحجاز إلى مختلفِ أنحاءِ العالم الإسلامي، فسكنوا العراق واليمن ومصر والشام وإيران والهند، وصولًا إلى لبنان.ولم يقتصر دورُهم على الجانبِ الدينيّ والعلميّ، بل كان لهم حضورٌ سياسيّ بارز وصل إلى حدِّ تأسيس دولٍ وإمارات. دولة بني طباطبا في الكوفة (815 م) التي دامت سنتين. دولة بني طباطبا الرسّية في اليمن (من القرن التاسع إلى القرن العشرين)، حيث أسّس الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين الطباطبائي (859–911 م) دولةَ الأئمّة الزيديين التي استمرّت بشكلٍ متقطّع لأكثر من ألف عام، وشكّلت إرثًا سياسيًّا ودينيًّا عميقًا في المنطقة. ظهر اسم هيثم علي الطبطبائي (أبو علي)، القيادي في حزب الله. وُلد في بيروت عام 1968 لأبٍ إيراني وأمٍّ لبنانية، وانخرط في صفوف الحزب ليتقلّد مناصب قيادية عليا بحورُ العلم ومناراتُ الفكر أنجبت عائلةُ الطبطبائي عبر تاريخها الطويل كوكبةً من العلماء والفقهاء والفلاسفة الذين تركوا بصماتٍ واضحةً في الفكر الإسلامي. ومن أبرز هؤلاء: العلامة محمد حسين الطباطبائي (1904–1981)، فيلسوفٌ ومفسّرٌ إيراني، يُعدّ من أبرز مفكري الشيعة في القرن العشرين. وُلد في تبريز ودرس في النجف ثم استقرّ في قم. أشهرُ أعماله على الإطلاق هو «الميزان في تفسير القرآن»، في عشرين مجلدًا، ويُعدّ مرجعًا أساسيًا في الدراسات القرآنية الحديثة، حيث اتبع فيه منهج «تفسير القرآن بالقرآن». كما ألّف كتبًا فلسفيةً رائدة مثل «بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة» و«أصول الفلسفة والمذهب الواقعي»، وتتلمذ على يديه جيلٌ من كبار المفكرين مثل مرتضى المطهري وموسى الصدر. آية الله العظمى السيد محسن الحكيم الطباطبائي (1889–1970). مرجعٌ دينيٌّ كبير ترأس الحوزة العلمية في النجف، وأصبح المرجع الأعلى للشيعة في العالم بعد وفاة السيد حسين البروجردي. وعلى الرغم من ولادته ونشأته في العراق، فإن جذور عائلته (آل الحكيم) تعود إلى جبل عامل في جنوب لبنان. آل بحر العلوم، فرعٌ شهير من عائلة الطبطبائي في العراق، برز فيه العديد من العلماء. وسُمّيت الأسرة نسبةً إلى جدّهم السيد محمد مهدي بحر العلوم (1742–1797)، الذي لُقّب بذلك لغزارة علمه. وقد واصل هذا الفرع رفدَ الحوزات العلمية في النجف وكربلاء بالمفكرين والفقهاء. من الصدر إلى حزب الله في لبنان، يتجلّى حضورُ آل الطبطبائي عبر الهجرات القديمة والروابط الأسرية الحديثة والأدوار السياسية والعسكرية المعاصرة. تنتسب والدة الإمام موسى الصدر إلى آل الطبطبائي؛ فهي ابنة المرجع الديني آية الله حسين الطباطبائي القمّي. هذه المصاهرة ربطت بين عائلتين من كبار العائلات الدينية الشيعية. الإمام الصدر، الذي تعود جذور عائلته إلى جبل عامل، وُلد في إيران وجاء إلى لبنان ليؤسّس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» و«حركة أمل»، ويُحدث نهضةً شاملة في واقع الطائفة الشيعية. وبذلك، فإن دم آل الطبطبائي يجري في عروق هذه الشخصية المحورية في تاريخ لبنان الحديث من جهة والدته. كما تعود أصول عائلة المرجع محسن الحكيم إلى جبل عامل، ما يؤكّد وجودًا تاريخيًا قديمًا لفروع العائلة في لبنان. وأخيرا، يظهر اسم هيثم علي الطبطبائي (أبو علي)، القيادي في حزب الله. وُلد في بيروت عام 1968 لأبٍ إيراني وأمٍّ لبنانية، وانخرط في صفوف الحزب ليتقلّد مناصب قيادية عليا، منها قيادة قوّة الرضوان، وهي وحدة النخبة في الحزب. وقد أدرجته الولايات المتحدة على قوائم الإرهاب قبل اغتياله في غارة إسرائيلية. من الإمامةِ في اليمن، إلى الفلسفةِ في قم، إلى المرجعيةِ في النجف، إلى العمل السياسي والعسكري في لبنان… يمتدّ تاريخُ آل الطبطبائي على مساحةٍ جغرافية واسعة وبأدوارٍ متنوّعة. إنها قصةُ نسبٍ شريف سعى عبر أبنائه ووجوهه إلى ترك بصماتٍ مؤثّرة في العلم والدين والسياسة على مدى قرون. إرثٌ لا يزال يتفاعل ويظهر في شخصياتٍ وأحداثٍ تشكّل جزءًا من تاريخِ المنطقة وحاضرِها.
لم يكن توقيفُ تاجرِ المخدّراتِ والمطلوبِ للعدالةِ نوحِ زعيتر حدثاً مفاجئاً بحدّ ذاتِه. الرّجلُ الذي ملأ الشاشاتِ ضجيجاً، وتجوّل لسنواتٍ بين الحدودِ والبلداتِ اللبنانيّةِ كأنّه فوقَ القانون، عاش طويلاً تحت مظلّةٍ سياسيّة–أمنيّة غيرِ مُعلَنَةٍ مكّنته من التحرّكِ بحريّةٍ شبهِ مطلقة. لكنّ ما يلفتُ اليوم ليس العمليّةَ الأمنيّةَ في حدّ ذاتِها، بل السياقَ السياسيَّ الذي سمح بحدوثِها. زعيتر لم يكن مجرّدَ مطلوبٍ فارٍّ من العدالة، بل نموذجاً مُكثَّفاً لِنَمَطٍ من «الاقتصادِ الموازي» الذي نشأ في السنواتِ الماضية في البيئةِ الحاضنةِ لحزبِ الله. اقتصادٌ قائمٌ على التهريب، السلاحِ المنفلت، وشبكاتِ النفوذِ المحليّ التي تتعايشُ مع الدولةِ أو تتخطّاها، وقد شكّل حضورُه الإعلاميُّ العلنيُّ تحدّياً مباشراً لهيبةِ الدولة، لكنّه كان أيضاً مؤشّراً إلى جرأةٍ محميّةٍ أكثرَ منه استعراضاً فرديّاً. السؤالُ الفعليُّ اليوم، والذي يطرحه اللبنانيّون بوضوحٍ غيرِ مسبوق: هل تخلّى حزبُ الله عن مظلّةِ الحمايةِ التي كان يوفّرها لزعيتر وأمثالِه؟ أم أنّ نفوذَ الحزبِ نفسَه بدأ يتراجعُ إلى الحدّ الذي لم يَعُد معه قادراً على حمايةِ مَن ارتبطوا به؟ تضحيةٌ محسوبةٌ وتراجعٌ لا إرادي تحليلُ المشهدِ يفتحُ احتمالينِ متناقضينِ يبدوانِ معاً قابلينِ للتصديق. الأوّل: تضحيةٌ محسوبة. فمنذ سنوات، يواجهُ حزبُ الله ضغوطاً متزايدة: عقوباتٍ ماليّة، تضييقاً سياسيّاً، انتقاداتٍ داخليّة من بيئتِه نفسِها، وانكشافاً غيرَ مسبوق بعد تورّطه في محاورَ إقليميّةٍ مُكلفة.في مثل هذا المناخ، قد يرى الحزبُ أنّ «تسليم» بعضِ الأسماءِ التي لطالما شكّلت عبئاً على صورتِه هو ثمنٌ قليلٌ لتحسين موقعِه التفاوضي داخليّاً وخارجيّاً، أو لإعادةِ ضبطِ المشهدِ الأمنيّ في مناطقه، أو لتوجيهِ رسالةٍ مفادُها أنّه لا يُغطّي الفسادَ والمخالفاتِ بلا ضوابط. الفرضيةُ الثانية تقول إنّ الحزبَ لم يَعُد يمتلكُ القدرةَ نفسَها على حمايةِ شبكةِ المصالحِ التي نشأت تحت جناحِه، ليس فقط بسبب الضغطِ الدوليّ بل أيضاً بسبب تغيّرِ البيئةِ المحليّة. فالتراجعُ الاقتصاديّ، والانقسامُ الاجتماعيّ، وضغطُ المؤسّساتِ الأمنيّةِ الرسميّةِ لاستعادةِ جزءٍ من دورِها، كلّها عواملُ قد تكون أضعفت قدرةَ الحزب على الاستمرارِ في توفيرِ تلك «المظلّة» التي صنعت نماذجَ كزعيتر. بمعنى آخر، قد لا يكون اعتقالُه قراراً بقدرِ ما هو نتيجةُ عجزٍ جديدٍ يَتكشّف تدريجياً. يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟ دلالاتٌ تتجاوزُ الشخص الأمرُ المؤكّدُ أنّ توقيفَ زعيتر لا يُقرأ بوصفِه حدثاً جنائيّاً معزولاً، بل مؤشّراً على تحوّلٍ في التوازنِ بين الدولةِ وشبكاتِ النفوذِ غيرِ الرسميّة. فالدولةُ اللبنانيّة، رغم هشاشتِها، تُظهِر في بعضِ اللحظات قدرةً على إعادةِ فرضِ حضورِها، مستفيدةً من لحظاتِ الفراغِ أو الارتباكِ داخل القوى غيرِ الرسميّة. وفي المقابل، تبدو «البيئةُ الرماديّة» التي استفادت من حمايةٍ سياسيّة–أمنيّةٍ سابقة أقلّ تماسكاً ممّا كانت عليه. كما أنّ الرسالةَ وصلت إلى جمهورِ الحزبِ نفسِه: لم يَعُد بالإمكان ضمانُ الحمايةِ المطلقة. وهذا التحوّلُ وحده كفيلٌ بإعادةِ رسمِ خريطةِ السلوكياتِ داخل المناطقِ المرتبطةِ بالحزب، سواء في الاقتصادِ الموازي أو في إدارةِ النفوذِ المحليّ. ماذا بعد؟ يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟ في الحالتين، يشير اعتقالُ نوحِ زعيتر إلى مناخٍ لبنانيٍّ جديد. مناخٍ تختبرُ فيه القوى التقليديّة حدودَ قوّتِها، فيما تحاول الدولةُ استعادةَ أجزاءٍ من سلطتِها المفقودة. وفي هذا المشهدِ الضبابيّ، قد لا يكون زعيتر سوى علامةٍ صغيرةٍ على تحوّلٍ أكبر بكثير، يتصل مباشرةً بسؤالٍ جوهريّ: مَن يحكم لبنان فعليّاً؟ ومن يملك حقَّ احتكارِ القوّة؟ حتى تتّضحَ الإجابة، سيظلُّ اعتقالُه ورقةَ اختبارٍ حقيقيّةً لمدى صمودِ الحزب أمام المتغيّرات، ولقدرةِ الدولة على تحويلِ فرصةٍ موضعيّةٍ إلى مسارٍ طويلِ الأمد.
لم يمرّ خبرُ إلغاء الإدارة الأميركيّة لقاءاتِ قائد الجيش رودولف هيكل في واشنطن كمجرّد خطوة بروتوكوليّة. مصدرٌ دبلوماسيّ عربيّ رفيع توقّف عندها طويلًا، معتبرًا أنّها تُشبه “إطفاءَ” متأخر لصخرة الروشة بعد الإصرار الذي أبداه “حزب الله” على إنارتها تحدّيًا لقرار حكومة نواف سلام؛ في لحظةٍ بدا الجيشُ فيها غير مستعدّ لا للتنفيذ الشكلي ولا للمضمون السياسي للقرار، قبل أن يُقلَّد هيكل وسامًا على هذا “الامتناع” من قبل رئيس البلاد. الرسالة الأميركيّة، بحسب المصدر ـ كانت قاسية وغير مسبوقة تجاه مؤسّسة لطالما حظيت باحتضانٍ مباشر من واشنطن. والأقسى أنّها موجّهة في عمقها إلى رئيس الجمهوريّة نفسه، باعتبار أنّ هيكل هو ظلّه العسكري، وحامل بصمته داخل المؤسّسة منذ انتقاله من اليرزة إلى بعبدا. الرئاسة الأولى لم تُترك الصفعة لتبرد، فبادرت للردّ عبر الطلب من موقع “أساس ميديا” سحب مقابلة تضمّنت كلامًا ناريًا لعون حول “حزب الله” وإيران والطائفة الشيعيّة الرئاسة الأولى لم تُخفِ ارتباكها. الصفعة لم تُترك لتبرد، فبادرت للردّ عبر الطلب من موقع “أساس ميديا” سحب مقابلة تضمّنت كلامًا ناريًا لعون حول “حزب الله” وإيران والطائفة الشيعيّة. محاولةٌ لاحتواء الضرر، أو لإعادة ضبط الإيقاع، لكنّها عكست حجم الارتجاج داخل القصر. مصادر سياسيّة مطّلعة تذهب أبعد. فالرسالةُ الأميركيّة ـ بنظرها ـ تأتي لتثبيت نواف سلام كرأس حربة في مقاربة واشنطن للبنان راهنًا وفي المراحل المقبلة. أما التذرّع ببيان الجيش الأخير الذي حمّل إسرائيل مسؤولية التوتّر فليس سوى ستارٍ هشّ لإمرار القرار الأميركي الذي وصل بمفعول رجعي، كاشفًا النقاش الدائر في واشنطن حول أنّ “الجيش اللبناني لم يعد استثمارًا جيّدًا” كما صرّح السيناتور الأميركي ليندسي غراهام. روبيو يدخل على الخط فيما ينتقل الملف إلى وزير الخارجيّة مارك روبيو لمراجعة الدعم العسكري للبنان، تبدو الأيام المقبلة محمّلة بمفاجآت والضغوطات التي ستصيب المؤسسة العسكرية والرئاسة، وربما ما هو أبعد منهما…