إيران وإسرائيل مسؤولتان عن التضحية بازدهار بلادنا وأعمارنا ونماء عائلاتنا وفرص أبنائنا بتعليم وصحّة وعمل، على مدى عقود طويلة، وهما تتقاتلان اليوم، فيما أتقاتل أنا من أجل “حقوق المريض” في المستوصف الذي كان مُدرجًا منذ سنوات على لوائح العقوبات الأميركيّة
أحبُّ كتاباتِ الروائيةِ المصريةِ والأستاذةِ الجامعيةِ الراحلةِ رضوى عاشور. وأتلهَّفُ، في كلِّ مرةٍ تقعُ يدي فيها على كتابٍ يحملُ اسمها، لأوقاتٍ مليئةٍ بالمتعةِ وتغذيةِ الفكرِ والروحِ.عدتُ من مكتبةٍ في “حي المعادي” في القاهرة إلى “حي الهلالية” في صيدا بكتابٍ لها يضمُّ شذراتٍ من سيرتها الذاتية اسمه “أثقل من رضوى”، لا يزالُ يُصاحبني منذ عشرةِ أيّامٍ، وأُخصِّصُ جزءًا يوميًّا من وقتي له صلة الرحم بالسلطةيطلُّ بيتي في صيدا على شارعٍ تمرُّ منه السياراتُ باستمرار، مقرقعة، فوق سكةِ تصريفِ مياهٍ لم يُستَوْ تركيبُها على الطريقةِ المطلوبة، ممّا يحدث جلبةً لا تنقطع، وكأنّها رادار تعداد، مهمتُه أن يقيسَ حيويّةَ هذا الشارع الفرعي، المتمدد رأسياً مع صعودِ الهضبة، باتجاه “طريق عبرا العام”.رغمَ أنَّ بيتنا يقع بين مقرِّ رئاسةِ بلديةِ المنطقة وبيتِ المختار، إلا أنَّ وضعَ القرعقعةِ التي تدبُّ على قرعاتِ الرؤوسِ ليلًا ونهارًا لا يبدو أنه قابلٌ للتحسّن بحكم “صلةِ الرحمِ الجغرافية” مع “السلطة”.علّمنا أساتذتنا في “كلية الإعلام” في “الجامعة اللبنانية”، قبل ربعِ قرنٍ، قاعدتين رئيسيتين: أولهما مستلهمةٌ من فلسفة “الأقربون أولى بالمعروف”، وهي أنَّ الخبرَ الأكثر تأثيرًا عليك هو ما يحدث في حيك، قبل حيِّ جارك، ومن ثم داخل كامل المدينة، وبعدها تفكّر في المدينة المجاورة، والوطن الشامل، ومن ثم الأوطان المجاورة!وكان ذلك غالبًا، قبل أن يفطن الأساتذة (وبعضهم لم يكن يتمتع بأي حسٍّ رؤيوي أو عقلٍ نافذ) إلى مقاييس العولمة التي جعلت التأثيرات التي تحصل في العالم أشدّ وقعًا على أمننا الاقتصادي والاجتماعي والنفسي من “أحداث الحي”، طالما نحن نعيش في بؤرةٍ متفجرةٍ من العالم الثالث. أمي وإيلون ماسكعلى سبيل المثال، تلك الترهّات التي تحصل بين مخبولٍ يحكم العالم مثل دونالد ترامب، و”ساكيوبات” ملياردير مثل إيلون ماسك، بوسعها لا أن تؤثر فقط على أسهمِ البورصاتِ العالمية، بل على طريقةِ مشيةِ أمي في أصغر ممرٍّ لدينا داخل بيت الهضبة الصيداوية المطلّ على غطاء المجرور.. قارع الطبول.يندرج هذا الأمر، أيضًا، في سياق نظرية أثر الفراشة، وحيث رفةُ جناحٍ، “الشهوة” تحديدا، لدى أيّ مسؤولٍ في مدينتنا بوسعه أن يؤثر على مصائر أجيالٍ كاملةٍ من سكانها.حالة الهياج الشهواني في مدينة الحلويات اللذيذة، لا تنقطع لدى أصحاب السلطة والنفوذ فيها، في المواسم كافة! يطلُّ بيتي في صيدا على شارعٍ تمرُّ منه السياراتُ باستمرار، مقرقعة، فوق سكةِ تصريفِ مياهٍ لم يُستَوْ تركيبُها على الطريقةِ المطلوبة، ممّا يحدث جلبةً لا تنقطع، وكأنّها رادار تعداد، مهمتُه أن يقيسَ حيويّةَ هذا الشارع الفرعي قوانين الضمّ والفرز التي قضت على أملاك الفقراء في البساتين الزاهرة، وتواطأ على طبخها وزراء ونواب ورؤساء بلديات ومخاتير الروح الصيداوية الباقيةمن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، “فيتيشات” يشتركون فيها مع كافة المسؤولين اللبنانيين، من دهاة الفساد والفهلوة الفينيقية التي تعني أن كلّ شيءٍ قابل لأن يُباع ويُشاع بدءًا من أدوية السرطان المغشوشة وصولًا إلى آثار الحضارات الغابرة.. ولكن من بينها ما هو خاصٌّ بالروح الصيداوية العتيدة.على اللائحة: قوانين الضمّ والفرز التي قضت على أملاك الفقراء في البساتين الزاهرة، وتواطأ على طبخها وزراء ونواب ورؤساء بلديات ومخاتير. مافيا جبال النفايات التي استفادت من أموال ضفتين نقيضتين، فقبضت من محبي البيئة وقبضت من كارهي البيئة، لتقبض في النهاية على صدور أهالي المدينة، وترسلهم إلى مراكز علاج سرطانات الغدد والرئة والبروستات والثدي، بفعل التلوّث الذي يستنشقونه أو يسبحون معه، لتتسلمهم بعد ذلك مافيا الأدوية وتمنحهم صحّة وفاةٍ سريعة. أموال المانحين الدوليين، فصيدا تحولت إلى بيضة ذهبٍ، تشعّ في مرايا صناديق الدول المانحة التي ترفع أسماءها في أزقّة المدينة العتيقة وعلى واجهاتها البحرية مع تفاصيل عن مشاريع وهمية لا ترى النور أو يُرمى من مكتسباتها الفتات لفقراء المدينة الذين ترفع صورهم في “بريزنتيشن” التنمية المستدامة، ويُصنع من معاناتهم فيديوهات “الريلز”. يتاجر بهم، وبكونهم “المثال الحيّ”، الذي يثبت حيويّة المدينة التاريخية التي لا تزال على قيد الحياة بعد 6000 سنة. هل هي كذلك فعلاً؟ وضعية البدائيحين تنفلت الشهوات المريضة، نعيش على وضعية “البدائية”: أن نأكل ونشرب، إن تأمّن الكفاف. وأن نمارس الحب، إن تأمّن المزاج، وأن نندب حظنا، باستمرار، ثمّ.. نموت!لا شيء إضافي سوى كمّ الأخبار التعيسة التي تحاصرنا، في يوميّات المدينة، لتؤكّد لنا أننا طالما على “وضعية البدائي”، فنحن بألف خير.هذا يندرج ضمن القاعدة الثانية التي تعلّمناها في الكليّة، وهي أن “الخبر هو أن يعضّ الرجلُ الكلبَ وليس أن يعضّ الكلبُ الرجلَ”!وحين يخرج صيداوي من بيته صباح أحد الأيام، ولا يعود إلّا جثةً لحضن أهله:• إما لأنّ مشافي المدينة تعجّ بالفيروسات المتغلغلة في أجهزة التنفّس، والتي تنخر أيضًا “مهارات” الطاقم التمريضي، قليل الخبرة والتعاطف، بينما يتنعم أصحابها بالثروات تضخّ لحساباتهم “الفريش” ليل نهار من دون أدنى تأكّد من مواءمة منشآتهم للاحتياجات الصحّية والإنسانية.• أو بالموت على الطرقات لأن قوانين البلدية ووظائفها المتعلقة بالإنارة العامة، وحفر الطرقات، وأدبيات طرق المشاة، والفتحات غير القانونية بين الشوارع، ومافيا بيع الموتوسيكلات ونشرها وتطبيع حماقاتها.. هي قوانين تنام في سرير الأدراج العتيقة.• أو لأن نسائم الصيف محمّلة بكل أنواع الروائح الغريبة، حتى أنها استعصت على أن يفكّكها مبدع أهم رواية عن الروائح كتبت في العصر الحديث وهي “العطر” لباتريك زوسكيند. رواحٌ نجحت في العيش والتمدد في الأثير الصيداوي، منها فوح جبل النفايات وأريج شبكات الصرف العشوائية وأيضًا نكهات خلطة تلك الأوساخ المتخمّرة المتروكة على الشاطئ.حين يحدث كلّ ذلك، يكون الأمر، أشبه بأننا لم نعد، لكثرة الأخبار السيئة، نعضّ على شفاهنا فقط، بل فعلاً على “الكلب”.لقد عضّ الرجل الكلب منذ زمن بعيد، لكن يبدو أنّ لا أحد يكترث فعلاً، لحالة الاستذئاب الشاذة التي تعيشها المدينة! لا حدود للجشع حين تمكّنه السلطة. لا حدود للقهر حين تموت إرادة الناس ويعتادوا على ما يُرمى لهم من فتات. لا حدود لـ"ضمّ" أرواح الناس في "المكبَس" الذي يذكرنا بمكبَس "سجون صيدنايا" آثمةِ الذكر. ولا لـ"فرز" الأصوات، بين "بطل" و"عميل". بين طبّال ومقرقع، يشبه حركة ذلك المجرور المزعج في حيّنا، وبين صوت صاحب ضمير وشريف ونبيل. وكل صوتٍ مغايرٍ وغير منتفعٍ هو بالضرورة صوت "خائن" و"عميل". وعن هذا مقامٌ آخر أكتبه لاحقًا عما جرى معي منذ أكثر من عشرين عامًا حين نشرت سلسلة مقالات أدين فيها، ما استمر إلى اليوم بإدانته في صيدا وعن صيدا. لكنني أختم بفقرةٍ من كتاب عاشور الذي بين يدي الآن، يدلّ على "التصور الأمني" الذي يقتضي بأن لكلّ فرد حيّزًا مقرّرًا لا يحقّ له مغادرته ويعتبر الخروج منه تعدّيًا أو تجاوزًا فيغدو من الغرباء المندسين لأنّه جاء من خارج هذا الحيّز.. يتحول المجتمع، بذلك، إلى سجون صغيرة.. ولا أجد مرادفًا لتعبير رضوى عاشور، في مدينتنا، عن "الحيّز" إلّا بمفردة.. الخضوع! فهل من جريء يقوى على مغادرة هذا الخضوع والصراخ بصوتٍ عالٍ! مدونة في سلسلة (2) عن صيدا وأشياء أخرى…
التاسعة صباحاً. غمامة في الفضاء تحجب الشمس التي تقدم أداءً خريفياً غريباً في حزيران. تحضر إلى صدر السماء وتترك نورها الحامي يتثاءب بكسل من خلف الجبل. ألقي نظرة على البحر الداكن. أبتسم. هذا جو حميمي في مقتبل الطلاقة الصيفية أغطس، وأسبح كما سلحفاة عطشى إلى السباحة بحرية. ثم أعود إلى بقعتي وأتناول حبات المشمش والجنيريك وقليلاً من الجبن الأبيض. على مقربة مني، شاب بلباس الجندي ضجر يلهو بدولاب شاحنة مطاطي أسود وبهاتفه ويحمل رشاشه بتراخٍ. لا أحب رؤية السلاح في كل وظائفه. أركز، بدلاً من ذلك، على سلطعون بلون الرمل، فضي وبني ينسحب بحذر من حفرته الصغيرة. أقترب وأتجمد راغباً بنشر الأمان، لكنه يشتم وجودي ويختبئ بفعل تروما قديمة تتوارثها سلالته بالجينات.أتمشى ذهاباً باتجاه الجنوب وعودة باتجاه الشمال، وأتسلى بفرز النفايات الشاطئية في عقلي: بلاستيك قبيح وآخر أقل قبحاً، أدوات طبية، زجاجات خمر فارغة، أحذية، قطع ملابس رثة، فضلات بطيخ وجزر.. أشعر بإحباط تجاه الكرامة الجمعية لأبناء المدينة، إذ هي لا بد في أدنى مستوياتها، حتى يرضوا بأن يبلعهم المسؤولون فيها على هذا النحو الوقح والوضيع ويقصروا في أداء مهامهم، إلى درجة بعثهم برسائل واضحة للناس أن لا غير النفايات تليق بهم وصباحاتهم. قصورهم وفللهم ومقار مكاتبهم التي يفوح منها الفساد تبدو أنظف بكثير من الأماكن العامة التي يصولون فيها مبجلين ومحتفين في أزمنة الانتخابات.أحاول أن أطرد تلك السموم من روحي، “في ستين داهية”، طالما الشعب لا يرضى إلا بمعيشة القطعان، وسأكتفي ببقعة من الشاطئ حتى لو كانت أقل من متر مربع. في الصيف الماضي لم تنجح مسيرات العدو في منعي من ملاقاة البحر ولن تنفع رغبة الساسة الفاسدين في احتكار المتع والرياضات لهم ولسلالاتهم في أوروبا ومصايف الخليج والساحل الشمالي المصري وبيروت الفاخرة. سأظل إلى مقربة من شاطئ صيدون مهما حاول وحوش الخارج والداخل إبعادي. أشعر بإحباط تجاه الكرامة الجمعية لأبناء المدينة، إذ هي لا بد في أدنى مستوياتها، حتى يرضوا بأن يبلعهم المسؤولون فيها على هذا النحو الوقح والوضيع تعاني الإسكندرية من ذات الداء الذي تعتله صيدون: فضاء اللاشيء وتحويل السكان إلى رعاة للقمة العيش والهموم أقرأ في واحد من “كراسات بهنا” باسم “مرايا المدينة” نصوصاً بالغة الإتقان لبسمة جاهين عن رحلاتها في شوارع وأزقة وأزمنة واشتهاءات الإسكندرية الماضية والحاضرة. وإن بأبعاد مضخمة وغنية أكثر، تعاني الإسكندرية من ذات الداء الذي تعتل به صيدون: فضاء اللاشيء وتحويل السكان إلى رعاة للقمة العيش والهموم، ومحو حواسهم إلى أدنى مستوياتها، لكي يتم تقنينها وبيعها لهم مرة جديدة. هو زمن الاستهلاك القبيح الذي لا تتزامن معه أي تنمية أو فعل مقاومة. عنق زجاجة أبدي. مع اختراقات قليلة يقوم بها أناس يتلبسهم فعل الفن والتغيير ولا تزال لديهم طاقة من أجل الفعل المجتمعي ذي الأثر. أتسلى في تفقد خارطة الطبيعة التي تكونها طحالب وأصداف وعصافير وفراشات بيضاء وزهور بنفسجية منمنمة بدت صغيرة وبائسة أمام حجم النفايات الصناعية. لكنها لا تزال موجودة وتقاوم وتغني لحنها الأبدي مع هضاب الأمواج التي تلثم روحي وتطهرها من أي شائبة. اليوم أردت التطهر من شوائب: التعلق بصداقات واهية والعتب على رفاق غير مكترثين والغرق في بئر الحزن الثقيل بأثر فقدان أفراد من عائلتي خطفهم الموت على التوالي خلال السنتين الأخيرتين. أود أن أمنح ذلك كله للبحر. أقرأ ثلاثة نصوص لبسمة تنشيني وتطرب نغم اللغة في سريرتي وأكمل في نص آخر عن كاتب قرر أن يرسم خارطة للإسكندرية عبر روائحها. فكرة مستعادة وإن لا ينفي ذلك روعة التوظيف والأسلوب والإحالات التي اعتمد عليها. تأتي سيدة ترتدي جاكيت فاقع اللون، محجبة، وتغني، وتخرج من أذنيها شرائط السماعات. تتمايل. أتذكرها. على مدى مواسم الشتاء والخريف والصيف الماضي، لطالما صادفتها يومياً في المكان ذاته. شكلت لي في البداية فضولاً ثم خيالاً جميلاً إلى أن بددته بعنف لفظي مارسته فجأة ضدي متمنية لي الموت فعرفت أن عقلها ليس على ما يرام وبدأت بتجنبها. لكنها، مثل الفراشة والعصفور البائسين، لا تزال رؤيتها حميمية ومحببة. رسمت اليوم شكوكاً حول حالتها العصبية، وتساءلت ما إذا كانت مريضة بالتوحد الطيفي الحاد الذي لم يحتضن أو يعالج من الطفولة. تعجبني قدرتها على الاكتفاء بذاتها وأغانيها والبحر لكي تعيش اليوميات برضى. عنيفة لكن مستقلة وتغني. تشبه لبنان كثيراً. أشعر بأنني استردت نتفاً من فيتامين دال الذي دلت فحوصات هذا الأسبوع المخبرية على تسربه من جسدي. أسترد طاقة حلوة ومألوفة من بحر صيدون، بحري الحنون. أشغل في السيارة أغاني نجاة من ألبومها "إلا فراق الأحباب". أثبت الصوت على أعلى إمكاناته. أفتح النوافذ على اتساعها. أقود باتجاه زيارة لصبوحة، ابنة عمتي، حيث أعرف أن طبق "الكبة باللبن" الشهي بانتظاري. ثمة حرائق مشتعلة في أعلى الجبل. أشعر بقلة اكتراث للتفكير بالأسباب، فالسلحفاة التي نجت من شر الوحوش لن تفكر في حرائق الهضاب. في بيت صبوحة الحنون والمضاء دوماً من خلف الستائر الأنيقة العتيقة بضوء مطمئن ومسالم، أشاهد لأول مرة في حياتي في ألبوم الصور العتيقة صورة عمتي في ثوب عرسها وهي فتاة في عمر التاسعة عشرة في مطلع خمسينات القرن الماضي. تنط الابتسامة والانبهار لجمالها ورقتها مكان دمعة الاشتياق. أشعر أنني بدأت أنجز سريعاً في تدريباتي، مثل بسمة التي كتبت في نصوصها عن التدريبات على الشطرنج أو الكيك بوكسينغ أو قراءة صافيناز كاظم في وقتنا الحاضر. مدونة في سلسلة (١) عن صيدا وأشياء أخرى…