تحميل

إبحث

في الصميم

صيفٌ هانئ… “كِلّو بيِخلَص بِسيروب”!

saida grave yard

ماتَ الصِّهر.
تلك الضحكة المُجلجلة توقّفَت عن التَدَحرُج على سَلالِمِ البناية.
تلك الجلسات التي تُسَلسِلُ تاريخَ المدينة وعائلاتِها، حولَ كؤوسِ عصيرِ البرتقال، انطفأت.
ذلك الحِسُّ الشعبيُّ الصيداويُّ، الغارقُ في طِيبَةِ أهل الأزقّة وسَماحةِ أهلِ البحر، وإرادةِ أهلِ المدينةِ العتيقة، وَقَعَ من خارطتِه بصمةٌ جديدة

في “مقبرة سيروب”، اجتمعَ الصِّهر مع حَماه (أبو زوجته)، خلال فترةٍ وجيزة لا تصل إلى سبعة أشهر. رَجُلا الأُسرة الأكبر سنًّا، اللذانِ ارتدَيا منذ طُفولتهما لباسَ العملِ الصناعيّ، الذي تجبَلت أنسِجته من العرقِ وزيتِ الماكينات، واحترقَت خيوطه بالنار على الحديد الذي كان يَفِلُّه البطلان: صلاح ومصطفى، أبي وصِهري، تجاورا في “سيروب”، على مقربةٍ من خطِّ أشجارِ السنديانِ الوارفة، حيث تزقزق العصافير، ويَبكي الناسُ بحرقةٍ موتَ أحبّتهم.

رحلة الشتاء والصيف
حزينٌ مَن يقوم برحلةِ الشتاءِ والصيفِ إلى “سيروب”!
ذلك الجبل الذي حمل بالصدفةِ اسمَ رجلٍ أرمَنيّ، منحَه الحظ، عبر ورقةِ يانصيب (أو هكذا تقول الرواية)، إثراءً مفاجئًا، فقام بشراء جبلٍ كامل، منحه اسمه، وفرَزَهُ أراضٍ وعقارات، ومستقبلاً للعيش، اكتظّ مع الأزمنة، وجاورَ إحدى المناطق التي بات لها طابعٌ أمنيٌّ خلال جولات الحروب: “عين الحلوة”.

باتت “سيروب”، التي يرقد فيها أمواتُ عائلات صيدا، إحدى المناطق الأكثر اكتظاظًا بالحياة وصراعاتها. مظهرُها يعكسُ صورةً مُصغّرةً عن تنوّع الوطن، أي عن لعنة الوطن التي لم ينجح في تحويلها إلى مكسب: أهل لبنان وفلسطين، دين الإسلام والمسيحية، طوائف السنّة والشيعة والموارنة، أحزاب “التنظيم” و”المستقبل” و”حزب الله”، زواريب “منير المقدح” وأقاربه، “لجنة شباب سيروب” وغيرها.. كلُّ هؤلاء رفعوا الرايات على تلال الجبل، واصطخبوا وخطّطوا وتعاركوا وأطلقوا النارَ ابتهاجًا أو حقدًا… يحدث ذلك كلُّه على ذاتِ الأرض التي يُخاطبُ جزءٌ من سكانها بالقول: “أيّها الراقدون تحت التراب”.

لم يكن أبي، ولا صِهري، من مُحبّي هذه القصيدة المُغنّاة لمحمد عبد الوهاب. كانت تُشعِرُهم بالتشاؤم.
لم يكونوا مُتطيّرين، لكنّهم ينتمون إلى جيلَين من رجال لبنان والعرب، من الطبقات المتوسّطة، الذين صنعوا، بدءًا من منتصف خمسينيات القرن الماضي، وحتى نهاية الثمانينيات، إنجازاتٍ ناميةً لأسرِهم، ارتقَت بهم اجتماعيًّا، وحقّقَت للأبناءِ مستوياتٍ تعليميّة، لم يَحظَوا بها، وذلك بسببِ انتعاشِ المِهَن الصناعيّة.
والصناعيّ، كما يقول المثلُ الإنجليزي الذي ينتشر كثيرًا على مقاطع السوشيال ميديا الترويجية، وفي بعض أفلام “نتفليكس”:
Work hard, play hard
(أي: مُقابل العمل الشاقّ، عليكَ أيضًا أن تَستمتع بوقتك).

باتت "سيروب"، التي يرقد فيها أمواتُ عائلات صيدا، إحدى المناطق الأكثر اكتظاظًا بالحياة وصراعاتها. مظهرُها يعكسُ صورةً مُصغّرةً عن تنوّع الوطن، أي عن لعنة الوطن التي لم ينجح في تحويلها إلى مكسب: أهل لبنان وفلسطين
shadows of death
يبكي "محمود" وتسيل دموع "أحمد". ابنا الصِّهر يُفطِران قلبي، وها هُما يُهيلان التراب على جثّة الوالد المُكفَّن

البطل “العيّيش” والكامارو
كان صِهري مصطفى السنّ من أولئك الذين ينطبق عليهم تعبير: “البطل العيّيش”.
حين اجتاز عتبة بيتِنا لأوّل مرة، بوصفه المرشّح الذي اختارَه والدي لخطبةِ ابنته البكر، وهي بمثابة الأم الثانية لي، جاء بسيارة “كومارو” زرقاء، لونها كما سماءٍ ربيعيّةٍ مشعّة، مُصفَّف الشعر، فتيُّ الوقفة، تفور عيناه بسعادةِ الشابِّ المقبل على رؤية عروسٍ جميلةٍ وأنيقةٍ ومُتعلّمة، من عائلةٍ كريمة، وتفور خدّاه بلونِ الشباب الزاهر.
ارتدى قميصًا عسليًّا يكشفُ عن فتحةِ صدره، وبنطالًا أبيضَ اللون، وفاحَت منه العطور الذكيّة. حمل أيضًا الكثير من الهدايا، للعروس والبيت، وبطني الذي يُحبّ الحلويات الصيداويّة، حتى يومنا هذا.

حدث ذلك ربّما منذ 35 عامًا وأكثر. كنتُ صغيرًا، وحظي مصطفى بأُختي، ليكونَ الرجلَ الثاني، بعد أبي، في مرتبةِ السنّ، ويحظى بتقديرِ الأخ الكبير. في الكامارو، ثم في نُسَخٍ أخرى من سياراته، حَظِينا بجولاتٍ هانئةٍ لعشرِ سنين، على طريق جبال الباروك وبعقلين، وعلى خطِّ ساحل بيروت.
وحين صِرتُ طالبًا جامعيًّا، يتعلّم ويشتغل في المدينة، كان لا بدَّ لي أن أحظى بسريرٍ في بيروت، فكان في منطقة “الجامعة العربية” في حيّ “أبو شاكر”. لطالما حضرت أمي وبعض إخوتي إلى سكن التشارك ذلك لتفقّدي وتوريد مخزون الطعام للمطبخ، وتفريغ مخزون الملابس المتّسخة من غرفة الغسيل. في كثيرٍ من تلك الزيارات، كان الصِّهرُ قائد السيارة، والقصة، والضحكة.

تختصر “جبّانة سيروب” معنى العيش في صيدا: صراعاتٌ كثيرة تُودي غالبًا إلى لا شيء. إلى الصمت. إلى الموت، المجازيّ والمادّي.
كلُّ ذلك التنافس على كعكة المدينة الصغيرة، والتكالب على وضعِ الخططِ المعقّدة وتنفيذها للسيطرة الأمنية على التلال المُحيطة بها، من “الغازية” جنوبًا وصولًا إلى “شرحبيل” شمالًا، هو بمثابة ورقة يانصيب، لا تربحُ طوال الوقت. أصبح المثل الدارج:
“كِلّو بيِخلَص بِسيروب”.

يبكي “محمود” وتسيل دموع “أحمد”.
ابنا الصِّهر يُفطِران قلبي، وها هُما يُهيلان التراب على جثّة الوالد المُكفَّن.

كلّنا هناك متشابهون
لا أصعب، ولا أشدّ واقعيّة، من رؤيةِ ابنٍ يدفنُ أباه، فيما غُصون الأشجارِ المُحيطة، بعضُها يَذبُل، وبعضُها الآخر، تخرج من زواياه البراعمُ النضِرة.
تترسّخُ المعاني صارمةً وصادقة: كلُّ شيءٍ في هذه الحياة يعملُ بفلسفة الدائرة. ليس هناك خطٌّ عاموديّ، كما السُلطة، ولا أفقيّ، كما الثبات والاستقرار، بل هي الدائرةُ تتشكّل، ويُخيَّل إليك أنها حين تُقفل نفسَها تنتهي، لكنْ في خطِّها غيرِ المُستوِي، كلُّ نقطةٍ تولدُ لكي تُسلّم الحياة لنقطةٍ أخرى، وتَموتُ لتتكرّر معادلةُ الدائرة.

نَحمِل النّعش من “جامع الغفران”، حيث الإضاءة المُشِعّة من الثريّات المُعلّقة في السقف تتشابهُ كلُّها، باستثناء واحدةٍ في الوسط، وكأنها تُجسّدُ وهجَ الجثّة الأحدث المُصَلّى عليها وسط الأرواح التي سبقتها…
ونَهمّ الخطى. تصبح الحركةُ أسرع، وكأنّ الجميع يتعاونُ على إكرامِ الكريمِ بدفنِه في أسرع وقت.
الشمس في منتصف النهار تجعل ظلالَنا نُسَخًا بمقاساتٍ وأحجامٍ تُشبهنا.
أنظر إلى ظلال الرجال، تتشابهُ كلّها، بلا ملامح، وتنسجم في هيئتها الانعكاسيّة.

كلّنا في “سيروب” متشابهون: الأحياءُ ظلالٌ تسيرُ مُتعجّلةً باتجاهِ المروجِ المفروزةِ التي تنتظرُ رُوّادها،
والأمواتُ تحت التراب ينتظرون الحسابَ على ورقة “يانصيب الدنيا” إن فازتْ أو خابَت.

 

أعودُ إلى البيت. أحملُ في جيبي كَوزَ سنديانٍ سقطَ عن شجرة. أضعه إلى جانب حبّةِ برتقالٍ أصبحتْ مُتيبّسة، جلبتُها من المكان ذاته في رحلةِ الشتاء السابقة.
al-Post
مدونة في سلسلة (4)
عن صيدا وأشياء أخرى...
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا