المدينة التي يتركها أهلها… ويستوطنها “الغُرباء”

صيدا، كما بيروت وطرابلس، أو غيرها من مدن لبنان الرئيسة، تتغير بشكل متسارع ودراماتيكي خلال السنوات الماضية. وجاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتؤكد ظاهرة تزايد استيطان “الغُرباء” في عاصمة الجنوب تحديدًا، لتؤشر إلى تغيّر ديموغرافي خطير يلوح في الأفق القريب
على غير ما اعتادت عليه الخارطة السكانية في لبنان خلال العقود الماضية، حيث كانت الهجرة من القرى إلى المدن سمة أساسية سابقًا، يبدو أن مشهدًا معاكسًا بدأ يتشكل تدريجيًا منذ مدة.
أهل المدن، لا سيما من الشباب والشابات والطبقات الوسطى، يتركونها قاصدين الأطراف وحتى القرى النائية، ومناطق ريفية مختارة بحثًا عن نمط حياة جديد، أقل كلفة وتكلفة.
لا يقتصر هذا التحول على خيار فردي، ولم يعد يقتصر على مجرد نزوة شخصية أو قرار مؤقت، بل يعكس تحولًا أوسع في المزاج الاجتماعي العام في لبنان. إنه نذير تحول أعمق في نظرة اللبنانيين إلى الحياة، إلى العمل، وإلى معنى الانتماء.
في بلد مأزوم ومفتوح على تغيّرات كُبرى، يبدو أن الريف يفتح ذراعيه لأبنائه، لا كملاذ هارب، بل كخيار وبداية جديدة. ويبدو أن القرى والبلدات اليوم لم تعد محصورة بأهلها.
الاقتصاد أولًا
تتنوع دوافع هذا التحول، لكن الأسباب الاقتصادية تعد أبرزها، فارتفاع تكاليف المعيشة في المدن، لا سيما في بيروت وصيدا تحديدًا، أصبح عائقًا أمام كثيرين لتحقيق استقرارهم المادي والاجتماعي.
فالمدن الكبرى تشهد ارتفاعًا متواصلًا في أسعار الإيجارات في المساكن والمحلات، حيث أصبحت معظم الشقق السكنية ضمن إمكانيات محدودة جدًّا. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والخدمات بشكل غير متناسب مع الدخل، مما زاد العبء المالي على السكان.
بعد الأزمات الاقتصادية المتكررة التي شهدها البلد منذ عام 2019، تقلصت فرص العمل في القطاع الخاص بشكل واضح. ومع محدودية الوظائف المتاحة وارتفاع نسب البطالة، أصبح من الصعب على الشباب تأمين دخل ثابت يكفي لتغطية تكاليف الحياة في المدينة.
كذلك سمح التطور التكنولوجي وانتشار ثقافة العمل عن بُعد للشباب بالعمل من أي مكان، مما جعل العيش في الريف خيارًا اقتصاديًا منطقيًا يوفر تكاليف كبيرة على المدى الطويل.

أرقام مقلقة تستوجب تحركاً سريعاً
بحسب إحصاءات دقيقة, غير رسمية
أدى العدوان الإسرائيلي الأخير وزيادة الطلب على الشقق السكنية في صيدا إلى ارتفاع المعدل الوسطي لأجرة الشقة السكنية بأكثر من 35%
شهادات
منذ سنتين، قرر سامر ز. (29 عامًا)، مهندس برمجيات كان يعمل سابقًا في بيروت، الانتقال إلى إحدى بلدات شرق صيدا، والسبب الأساسي كلفة الإيجار وتوافر التيار الكهربائي (بعض قرى تلك المنطقة كانت تتغذى من معمل توليد الطاقة الكهرومائية بشكل خاص).
يضيف: “كنت أعيش في صيدا وأدفع مبلغًا كبيرًا شهريًا للإيجار، وفاتورة المولد الخاص أحيانًا تصل إلى نصف راتبي. بعد الانهيار الاقتصادي، بدأت أفكر بجدية في الانتقال إلى الريف حيث تكاليف المعيشة أقل بكثير. العمل عن بُعد في طبيعة عملي أتاح لي هذه الفرصة. الآن، أعيش حياة أكثر استقرارًا، وأستطيع ادخار جزءًا من دخلي، وهذا لم يكن ممكنًا في المدينة.”
أحمد ن. (31 عامًا)، يعمل في مجال التسويق الإلكتروني في بيروت، يشرح: “كنت أدفع نصف راتبي إيجارًا لشقة كنت أسكنها، وأقضي نصف يومي في زحمة السير الخانقة والضجيج. حين قررت الانتقال إلى بلدة في منطقة جبل لبنان، شعرت أنني أتنفس لأول مرة منذ سنوات. حتى زوجتي لم تمانع هذا الأمر مع أنها كانت متخوّفة في البداية، لكننا الآن نعيش بشكل أريح ولا نزور بيروت إلا يومًا أو يومين في الأسبوع للضرورة.” يعمل أحمد الآن عن بُعد من منزله، وقد انخرط في حياة الريف حتى أنه صار يشارك في مبادرات زراعية محلية حيث يعيش.
أما ميرا س. (27 عامًا)، وهي خريجة علوم اجتماعية من صيدا، فقد تركت عملها الإداري في المدينة لتنتقل إلى بلدة بكاسين شرق صيدا، وتقول: “لم أعد أتحمل فوضى المدن، وجدت في القرى مساحة نفسية أوسع، وفرصة لعيش أبطأ وأعمق، خصوصًا بعد أن أصبحت معظم الوظائف تتيح العمل من بُعد.”
تغيّرات عميقة
تُشكّل ظاهرة الهجرة العكسية من المدن إلى الريف في لبنان مؤشرًا على تغيّرات عميقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويترتب عليها العديد من التحديات والفرص التي ستؤثر على مستقبل البلد ككل.
مع تنامي هذه الظاهرة، من المتوقع أن تفقد المدن الكبرى، كبيروت وصيدا وطرابلس، بعضًا من مكانتها التقليدية كمراكز حصرية للفرص الاقتصادية والاجتماعية. إذ قد تنخفض كثافة السكان فيها، ما قد يخفف من بعض الضغوط على البنية التحتية والخدمات التي كانت تعاني منها أصلاً.
كما سيؤدي تدفق المزيد من السكان إلى الريف لزيادة الطلب على الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، المياه، الكهرباء، والإنترنت عالي السرعة. هذا الأمر سيشكّل عنصر ضغط إضافي عليها، ويتطلب من الدولة والبلديات إعداد خطط تنموية مستدامة تستثمر في البنية التحتية الريفية وتوفر فرص عمل حقيقية، ما يساعد على استدامة هذه الهجرة وعدم تحولها إلى نزوح مؤقت.
ديموغرافيا وسياسة
تعيد الزيادة السكانية في القرى تشكيل الخارطة الديموغرافية في لبنان، مما يؤثر على توزيع الأصوات الانتخابية ومستوى التأثير السياسي للريف. وقد يزداد دور المجالس البلدية والمجتمعات المحلية في صنع القرار، مع ظهور قيادات شبابية جديدة قادرة على تمثيل مصالح السكان المتجددين.
كما يمكن أن يؤدي هذا إلى تعزيز المشاركة المجتمعية ودعم مبادرات الحكم المحلي والتشاركي، وسيولد التفاعل بين القادمين من المدن وأهالي القرى مزيجًا ثقافيًا جديدًا يجمع بين الأصالة والحداثة.
ردّة فعل
تعتبر الدكتورة منى فاضل، خبيرة في علم الاجتماع، أن هذه الظاهرة تعكس تحوّلات عميقة في المجتمع اللبناني: “فهي رد فعل طبيعي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها لبنان، إذ تعيد تعريف معنى الانتماء والأمان الاجتماعي، وقد تقود هذه الظاهرة إلى إعادة التوازن الديموغرافي والتنمية المحلية بشكل أكثر استدامة.”
يحمل مستقبل الهجرة من المدن إلى الريف في طياته فرصًا وتحديات لإعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، لكنه يتطلب تخطيطًا دقيقًا واستجابة حكومية وشعبية جدية وفعالة.