هزّة في واشنطن… ماسك يهجرُ سفينةَ ترامب

في خطوةٍ مفاجئةٍ هزّتْ أركانَ الساحةِ السياسيةِ الأمريكيةِ، أعلنَ المليارديرُ المُبتكِرُ إيلون ماسك، العقلُ المُدبِّرُ وراءَ شركتَيْ تسلا وسبيس إكس، منذ أيام انسحابَهُ المدوّيَ من إدارةِ الرئيسِ دونالد ترامب
لم يمضِ على تعيينِهِ رئيسًا لـ”هيئةِ الكفاءةِ الحكوميةِ” سوى أربعةِ أشهرٍ، وهي الهيئةُ التي وُلِدَتْ بوعودِ ترشيدِ الإنفاقِ الحكوميِّ وتحسينِ الكفاءةِ الإداريةِ، ليُطْفِئَ ماسك شمعةَ التوقعاتِ سريعًا وسطَ دوامةٍ من التوتراتِ الداخليةِ والإحباطاتِ المتزايدةِ.
رياح الواقع
كانَ تعيينُ ماسك، بشخصيتِهِ الديناميكيةِ ورؤيتِهِ التكنولوجيةِ، قد اعتُبِرَ محطةً فارقةً ومُبشِّرةً بمساهمةٍ نوعيةٍ في دهاليزِ السياسةِ الأمريكيةِ. لكنَّ رياحَ الواقعِ البيروقراطيِّ هبّتْ بما لا تشتهي سفنُ رجلِ الأعمالِ الطموحِ. سرعانَ ما اصطدمتْ رؤيتُهُ العمليةُ بجدارِ التعقيداتِ الحكوميةِ، واندلعتْ شرارةُ الخلافاتِ الحادةِ بينَهُ وبينَ عددٍ من كبارِ مسؤولي إدارةِ ترامب.
جاءتْ القشّةُ التي قصمتْ ظهرَ البعيرِ مع الجدلِ المُحتدِمِ حولَ مشروعِ قانونِ الإنفاقِ الذي مرّرهُ مجلسُ النوابِ. فبينما تضمّنَ المشروعُ تخفيضاتٍ ضريبيةً، إلا أنّهُ في المقابلِ زادَ من حجمِ الإنفاقِ، وهو ما اعتبرَهُ ماسك “مُكلِفًا للغايةِ” ويُقوِّضُ بشكلٍ مباشرٍ جهودَ الهيئةِ الراميةَ لتقليصِ النفقاتِ. لم تمرْ تعليقاتُهُ اللاذعةُ مرورَ الكرامِ، بل أثارتْ حفيظةَ المسؤولينَ الذينَ رأوا فيها تحديًا صريحًا لسلطتِهِمْ وسياساتِهِمْ.
ولمْ تتوقفْ المواجهاتُ عندَ هذا الحدِّ، بل امتدتْ لتشملَ انتقاداتٍ علنيةً وجهَها ماسك لمستشارِ ترامب التجاريِّ، بيتر نافارو، واصفًا إياهُ بـ”الأحمقِ” في خضمِّ خلافاتٍ حولَ الرسومِ الجمركيةِ. هذهِ المناوشاتُ صبّتِ الزيتَ على نارِ الخلافاتِ المُستعرةِ أصلًا داخلَ أروقةِ الإدارةِ.
تراكم الإحباط
ومعَ تراكُمِ الإحباطِ من وتيرةِ العملِ البطيئةِ والبيروقراطيةِ الحكوميةِ المُعقّدةِ، التي بدتْ كأنها تسيرُ عكسَ تيارِ السرعةِ والكفاءةِ التي اعتادَ عليها في عالَمِهِ التكنولوجيِّ، وجدَ ماسك نفسَهُ عندَ مفترقِ طرقٍ. قرّرَ أخيرًا أنْ يُعيدَ النظرَ في جدوى استمرارِهِ، مُفضِّلًا العودةَ إلى التركيزِ على إمبراطوريتِهِ الخاصةِ، شركتَيْ تسلا وسبيس إكس، اللتينِ يُمثِّلانِ شغفَهُ الحقيقيَّ.
لمْ تكنِ الحساباتُ السياسيةُ وحدَها الدافعَ وراءَ قرارِ الانسحابِ. فقدْ ألقتْ مشاركةُ ماسك في المعتركِ السياسيِّ بظلالِها السلبيةِ على أعمالِهِ التجاريةِ. شهدتْ شركةُ تسلا، على وجهِ الخصوصِ، تراجعًا ملحوظًا في المبيعاتِ، عَزاهُ البعضُ جزئيًا إلى مواقفِهِ وآرائِهِ التي أثارتْ جدلًا واسعًا خلالَ فترةِ عملِهِ القصيرةِ معَ الإدارةِ.
صبر وتكيّف
في بيانِ رحيلِهِ، أكّدَ ماسك أنَّ مهمةَ الهيئةِ ستستمرُّ، ولكنْ بدونِ مشاركتِهِ الشخصيةِ، مُلمِّحًا إلى أنَّ الإصلاحاتِ الحكوميةَ العميقةَ تتطلبُ صبرًا ووقتًا طويلًا لتُصبِحَ جزءًا لا يتجزأُ من ثقافةِ العملِ المؤسسيِّ.
تُعلِّقُ الدكتورةُ ليزا هاربر، خبيرةُ السياساتِ الحكوميةِ والأستاذةُ المرموقةُ بجامعةِ هارفارد، على هذهِ التجربةِ قائلةً: “تُجسِّدُ تجربةُ ماسك التحدياتِ الجَمّةَ التي تُواجهُ رجالَ الأعمالِ عندَ محاولتِهِمُ التكيُّفَ معَ النظامِ البيروقراطيِّ الأمريكيِّ المُعقّدِ. فالإداراتُ الحكوميةُ ليستْ مجردَ بيئاتٍ تقنيةٍ، بل هيَ ساحاتٌ تتطلبُ مهاراتٍ تفاوضيةً سياسيةً وحساسيةً اجتماعيةً عاليةً، وهيَ صفاتٌ قد لا تتوافقُ دائمًا معَ شخصياتِ رجالِ الأعمالِ المُوجَّهةِ نحو تحقيقِ النتائجِ السريعةِ والملموسةِ.”
من جانبِهِ، يُوضِحُ جوناثان ميلر، المحللُ الاقتصاديُّ في مركزِ أبحاثِ واشنطن، أنَّ “انتقادَ ماسك الصريحَ لمشروعِ قانونِ الإنفاقِ فتحَ البابَ على مصراعَيْهِ لصراعاتٍ داخليةٍ حادةٍ. هذهِ التوتراتُ لمْ تكنْ سطحيةً، بل عكستْ اختلافاتٍ عميقةً في الرؤيةِ الاقتصاديةِ بينَ أقطابِ الإدارةِ، وهو ما قد يُبرِّرُ قرارَهُ النهائيَّ بالانسحابِ.”
فراغ وتداعيات
تتركُ مغادرةُ ماسك فراغًا لا يُستهانُ بهِ في فريقِ الإدارةِ الحكوميةِ، وتُقلِّلُ من الآمالِ المعقودةِ على إحداثِ إصلاحاتٍ جذريةٍ في الكفاءةِ الإداريةِ. كما تكشفُ هذهِ الواقعةُ عن عمقِ الخلافاتِ والانقساماتِ الداخليةِ التي تُعيقُ التنسيقَ الفعّالَ وتُصعِّبُ تحقيقَ الأهدافِ الحكوميةِ الطموحةِ.
إنَّ رحيلَ شخصيةٍ بمكانةِ ونجاحِ إيلون ماسك قد يُفسَّرُ كإشارةٍ على ضعفِ قدرةِ الإدارةِ على جذبِ الكفاءاتِ المتميزةِ والاحتفاظِ بها، مما قد يُؤثِّرُ سلبًا على صورتِها العامةِ. كما أنَّهُ يُقلِّلُ من الحوافزِ والدفعِ نحو تبنّي حلولٍ مبتكرةٍ لتقليصِ الإنفاقِ وتحسينِ الأداءِ الحكوميِّ، ويثيرُ في الوقتِ نفسِهِ قلقَ المستثمرينَ بشأنِ استقرارِ السياساتِ الاقتصاديةِ.
وعلى الصعيدِ العالميِّ، تُمثِّلُ مغادرةُ ماسك تراجعًا في الجهودِ الراميةِ إلى دمجِ الابتكارِ التكنولوجيِّ وروحِ المبادرةِ في عمليةِ صنعِ القرارِ السياسيِّ. وتطرحُ هذهِ الحادثةُ تساؤلاتٍ جوهريةً حولَ قدرةِ الحكوماتِ الحديثةِ على مواكبةِ وتيرةِ التغيراتِ المتسارعةِ ومواجهةِ التحدياتِ المستقبليةِ بفعاليةٍ.
