تحميل

إبحث

في الصميم

صيف هانئ… سلحفاة رغم الأشرار في بحر صيدون

saida sea

التاسعة صباحاً. غمامة في الفضاء تحجب الشمس التي تقدم أداءً خريفياً غريباً في حزيران. تحضر إلى صدر السماء وتترك نورها الحامي يتثاءب بكسل من خلف الجبل. ألقي نظرة على البحر الداكن. أبتسم. هذا جو حميمي في مقتبل الطلاقة الصيفية

أغطس، وأسبح كما سلحفاة عطشى إلى السباحة بحرية. ثم أعود إلى بقعتي وأتناول حبات المشمش والجنيريك وقليلاً من الجبن الأبيض. على مقربة مني، شاب بلباس الجندي ضجر يلهو بدولاب شاحنة مطاطي أسود وبهاتفه ويحمل رشاشه بتراخٍ. لا أحب رؤية السلاح في كل وظائفه. أركز، بدلاً من ذلك، على سلطعون بلون الرمل، فضي وبني ينسحب بحذر من حفرته الصغيرة. أقترب وأتجمد راغباً بنشر الأمان، لكنه يشتم وجودي ويختبئ بفعل تروما قديمة تتوارثها سلالته بالجينات.
أتمشى ذهاباً باتجاه الجنوب وعودة باتجاه الشمال، وأتسلى بفرز النفايات الشاطئية في عقلي: بلاستيك قبيح وآخر أقل قبحاً، أدوات طبية، زجاجات خمر فارغة، أحذية، قطع ملابس رثة، فضلات بطيخ وجزر.. أشعر بإحباط تجاه الكرامة الجمعية لأبناء المدينة، إذ هي لا بد في أدنى مستوياتها، حتى يرضوا بأن يبلعهم المسؤولون فيها على هذا النحو الوقح والوضيع ويقصروا في أداء مهامهم، إلى درجة بعثهم برسائل واضحة للناس أن لا غير النفايات تليق بهم وصباحاتهم. قصورهم وفللهم ومقار مكاتبهم التي يفوح منها الفساد تبدو أنظف بكثير من الأماكن العامة التي يصولون فيها مبجلين ومحتفين في أزمنة الانتخابات.
أحاول أن أطرد تلك السموم من روحي، “في ستين داهية”، طالما الشعب لا يرضى إلا بمعيشة القطعان، وسأكتفي ببقعة من الشاطئ حتى لو كانت أقل من متر مربع. في الصيف الماضي لم تنجح مسيرات العدو في منعي من ملاقاة البحر ولن تنفع رغبة الساسة الفاسدين في احتكار المتع والرياضات لهم ولسلالاتهم في أوروبا ومصايف الخليج والساحل الشمالي المصري وبيروت الفاخرة. سأظل إلى مقربة من شاطئ صيدون مهما حاول وحوش الخارج والداخل إبعادي.

أشعر بإحباط تجاه الكرامة الجمعية لأبناء المدينة، إذ هي لا بد في أدنى مستوياتها، حتى يرضوا بأن يبلعهم المسؤولون فيها على هذا النحو الوقح والوضيع
sea book
تعاني الإسكندرية من ذات الداء الذي تعتله صيدون: فضاء اللاشيء وتحويل السكان إلى رعاة للقمة العيش والهموم

أقرأ في واحد من “كراسات بهنا” باسم “مرايا المدينة” نصوصاً بالغة الإتقان لبسمة جاهين عن رحلاتها في شوارع وأزقة وأزمنة واشتهاءات الإسكندرية الماضية والحاضرة. وإن بأبعاد مضخمة وغنية أكثر، تعاني الإسكندرية من ذات الداء الذي تعتل به صيدون: فضاء اللاشيء وتحويل السكان إلى رعاة للقمة العيش والهموم، ومحو حواسهم إلى أدنى مستوياتها، لكي يتم تقنينها وبيعها لهم مرة جديدة. هو زمن الاستهلاك القبيح الذي لا تتزامن معه أي تنمية أو فعل مقاومة. عنق زجاجة أبدي. مع اختراقات قليلة يقوم بها أناس يتلبسهم فعل الفن والتغيير ولا تزال لديهم طاقة من أجل الفعل المجتمعي ذي الأثر.

أتسلى في تفقد خارطة الطبيعة التي تكونها طحالب وأصداف وعصافير وفراشات بيضاء وزهور بنفسجية منمنمة بدت صغيرة وبائسة أمام حجم النفايات الصناعية. لكنها لا تزال موجودة وتقاوم وتغني لحنها الأبدي مع هضاب الأمواج التي تلثم روحي وتطهرها من أي شائبة. اليوم أردت التطهر من شوائب: التعلق بصداقات واهية والعتب على رفاق غير مكترثين والغرق في بئر الحزن الثقيل بأثر فقدان أفراد من عائلتي خطفهم الموت على التوالي خلال السنتين الأخيرتين. أود أن أمنح ذلك كله للبحر.

أقرأ ثلاثة نصوص لبسمة تنشيني وتطرب نغم اللغة في سريرتي وأكمل في نص آخر عن كاتب قرر أن يرسم خارطة للإسكندرية عبر روائحها. فكرة مستعادة وإن لا ينفي ذلك روعة التوظيف والأسلوب والإحالات التي اعتمد عليها.

تأتي سيدة ترتدي جاكيت فاقع اللون، محجبة، وتغني، وتخرج من أذنيها شرائط السماعات. تتمايل. أتذكرها. على مدى مواسم الشتاء والخريف والصيف الماضي، لطالما صادفتها يومياً في المكان ذاته. شكلت لي في البداية فضولاً ثم خيالاً جميلاً إلى أن بددته بعنف لفظي مارسته فجأة ضدي متمنية لي الموت فعرفت أن عقلها ليس على ما يرام وبدأت بتجنبها. لكنها، مثل الفراشة والعصفور البائسين، لا تزال رؤيتها حميمية ومحببة. رسمت اليوم شكوكاً حول حالتها العصبية، وتساءلت ما إذا كانت مريضة بالتوحد الطيفي الحاد الذي لم يحتضن أو يعالج من الطفولة. تعجبني قدرتها على الاكتفاء بذاتها وأغانيها والبحر لكي تعيش اليوميات برضى. عنيفة لكن مستقلة وتغني. تشبه لبنان كثيراً.

أشعر بأنني استردت نتفاً من فيتامين دال الذي دلت فحوصات هذا الأسبوع المخبرية على تسربه من جسدي. أسترد طاقة حلوة ومألوفة من بحر صيدون، بحري الحنون. أشغل في السيارة أغاني نجاة من ألبومها "إلا فراق الأحباب". أثبت الصوت على أعلى إمكاناته. أفتح النوافذ على اتساعها. أقود باتجاه زيارة لصبوحة، ابنة عمتي، حيث أعرف أن طبق "الكبة باللبن" الشهي بانتظاري. ثمة حرائق مشتعلة في أعلى الجبل. أشعر بقلة اكتراث للتفكير بالأسباب، فالسلحفاة التي نجت من شر الوحوش لن تفكر في حرائق الهضاب. في بيت صبوحة الحنون والمضاء دوماً من خلف الستائر الأنيقة العتيقة بضوء مطمئن ومسالم، أشاهد لأول مرة في حياتي في ألبوم الصور العتيقة صورة عمتي في ثوب عرسها وهي فتاة في عمر التاسعة عشرة في مطلع خمسينات القرن الماضي. تنط الابتسامة والانبهار لجمالها ورقتها مكان دمعة الاشتياق. أشعر أنني بدأت أنجز سريعاً في تدريباتي، مثل بسمة التي كتبت في نصوصها عن التدريبات على الشطرنج أو الكيك بوكسينغ أو قراءة صافيناز كاظم في وقتنا الحاضر.
al-Post
مدونة في سلسلة (١)
عن صيدا وأشياء أخرى...
العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا