تحميل

إبحث

في الصميم

إِسرَائيل تُقرَصِن “مادلين”… والعالم يَتَفَرَّجُ

madelin boat

في ساعات الفجر الأولى من يوم الاثنين 9 يونيو 2025، شهد البحر الأبيض المتوسط حادثة جديدة تُضاف إلى سجل الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، عندما اقتحمت قوات الكوماندوز الإسرائيلية السفينة “مادلين” التابعة لتحالف أسطول الحرية في المياه الدولية، واختطفت 12 ناشطًا دوليًا كانوا في مهمة إنسانية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من 17 عامًا

هذه الحادثة، التي وصفتها منظمات دولية بـ”القرصنة” و”الاختطاف غير القانوني”، تأتي في سياق تصاعد الأزمة الإنسانية في غزة بعد حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع منذ أكتوبر 2023، والتي أودت بحياة أكثر من 54 ألف فلسطيني، بينهم أكثر من 18 ألف طفل و12 ألف امرأة.

السفينة “مادلين” 2014، كانت تحمل على متنها شخصيات بارزة من المجتمع المدني الدولي، بما في ذلك الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ والنائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي ريما حسن، في محاولة لجذب الانتباه العالمي لمعاناة نحو مليوني فلسطيني محاصرين في غزة.

قصة رحلة الأمل المختطفة

في الأول من يونيو 2025، أبحرت السفينة “مادلين” من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية، حاملة على متنها 12 ناشطًا دوليًا من جنسيات مختلفة، في مهمة تهدف إلى كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007. هذه الرحلة، التي نظمها تحالف أسطول الحرية، جاءت كاستجابة مباشرة للتدهور الإنساني غير المسبوق في غزة بعد حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع.

اختيار اسم “مادلين” لم يكن عشوائيًا، بل جاء تيمّنًا بأول وأصغر صيادة في غزة عام 2014، في إشارة رمزية إلى الصمود الفلسطيني وقدرة النساء على خوض غمار التحدي. هذا الاختيار يعكس الطبيعة الرمزية للمهمة، التي تهدف إلى إيصال رسالة سياسية وإنسانية أكثر من كونها مجرد عملية إيصال مساعدات.

السفينة، التي ترفع العلم البريطاني، كانت تحمل كميات محدودة لكن رمزية من الإمدادات الطبية والغذائية، وكان الهدف الأساسي منها هو التحدي المباشر للحصار الإسرائيلي وجذب الانتباه العالمي لمعاناة سكان غزة. كما أكد المنظمون، فإن الرحلة تمثل “فعلاً سلمياً من المقاومة المدنية”، مشيرين إلى أن جميع المتطوعين على متن السفينة توحدهم قناعة مشتركة بأن الشعب الفلسطيني يستحق نفس الحقوق والحرية والكرامة التي تتمتع بها شعوب العالم.

الحصار الإسرائيلي على غزة نفسه يُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي، هكذا تصبح محاولة كسر الحصار ليس فقط حقًا قانونيًا، بل واجبًا أخلاقيًا

السياق السياسي للرحلة

جاءت رحلة السفينة “مادلين” في سياق سياسي معقد، حيث تواصل إسرائيل منذ الثاني من مارس 2025 سياسة تجويع ممنهج لنحو 2.4 مليون فلسطيني بالقطاع المحاصر، عبر إغلاق المعابر لمدة 90 يومًا في وجه المساعدات المتكدسة على الحدود، مما أدخل القطاع المدمر مرحلة المجاعة وأودى بحياة كثيرين.

هذا الوضع الإنساني الكارثي دفع النشطاء للتحرك، خاصة بعد تخلي الحكومات عن أداء واجباتها القانونية والأخلاقية. كما قالت حنان بلخي، المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة شرق المتوسط، إن “أطفال غزة يموتون جراء الجوع والمجاعة اللذين وصلا إلى مستويات مرتفعة للغاية”.

لم تكن “مادلين” السفينة الأولى التي تتعرض للاستهداف الإسرائيلي في عام 2025. ففي مطلع أيار/مايو، تعرضت سفينة أخرى تابعة لأسطول الحرية تحمل اسم “الضمير” للهجوم بواسطة طائرتي درون مجهولتين في عرض البحر الأبيض المتوسط قرب مالطا، مما أعاق إبحارها.

سيناريو القرصنة

في ساعات الفجر الأولى من يوم الاثنين 9 يونيو 2025، بدأت عملية اختطاف السفينة “مادلين” بسيناريو يشبه أفلام القرصنة، لكنه كان حقيقة مؤلمة في المياه الدولية. العملية، التي نفذتها قوات الكوماندوز البحري الإسرائيلي ووحدة سنفير، تمت وفق خطة محكمة تهدف إلى منع السفينة من الوصول إلى غزة بأي ثمن.

بدأت العملية بتطويق السفينة بخمسة زوارق إسرائيلية سريعة، كما أكدت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية المختصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا التطويق، الذي تم في المياه الدولية، يشكل في حد ذاته انتهاكًا للقانون الدولي، حيث لا يحق للدول التدخل في حركة السفن في المياه الدولية إلا في حالات محددة جدًا.

في لحظة درامية، أكد من على متن “مادلين” أن طائرة مسيّرة إسرائيلية قامت برش مادة بيضاء مجهولة الهوية على سطح السفينة، تسببت في حكة جلدية، قبيل عملية الاقتحام. هذا الاستخدام لمواد كيميائية ضد مدنيين في المياه الدولية يضيف بُعدًا جديدًا لخطورة العملية الإسرائيلية.

وثّق النشطاء على متن السفينة اللحظات الأخيرة قبل انقطاع الاتصال، حيث ظهروا وهم يرتدون سترات النجاة ويستعدون للاعتقال، مع دعوات لإلقاء الهواتف المحمولة في البحر. هذه اللحظات، التي بُثت مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت شاهدًا على عملية الاختطاف.

بعد التطويق والتشويش، صعدت قوات الكوماندوز الإسرائيلي على متن السفينة وسيطرت عليها بالقوة. العملية، التي وصفها المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد مينسر بأنها تمت “بسلاسة دون أي إصابات”، تمت في الواقع ضد مدنيين عُزل لا يحملون أسلحة ولا يشكلون أي تهديد أمني.

انقطع الاتصال مع السفينة بشكل كامل بعد صعود القوات الإسرائيلية، مما أثار قلقًا دوليًا واسعًا حول مصير النشطاء. هذا الانقطاع المفاجئ للاتصالات يشير إلى التخطيط المسبق للعملية والرغبة في منع توثيق ما يحدث على متن السفينة.

بعد السيطرة على السفينة، قامت القوات الإسرائيلية بسحبها قسرًا نحو ميناء أسدود، كما أكدت هيئة البث الإسرائيلية. هذا السحب القسري لسفينة مدنية من المياه الدولية إلى الموانئ الإسرائيلية يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ويمكن تصنيفه كعمل قرصنة.

وصلت السفينة إلى ميناء أسدود حيث تم نقل النشطاء إلى منشأة احتجاز تمهيدًا لترحيلهم من إسرائيل. الخارجية الإسرائيلية وصفت المبادرة بأنها “استعراض إعلامي”، مشيرة إلى أن المساعدات على متنها سيتم تحويلها إلى غزة عبر القنوات الإنسانية الرسمية. هذا التبرير يتناقض مع الواقع، حيث أن هذه “القنوات الرسمية” هي نفسها التي تفرض الحصار وتمنع وصول المساعدات الكافية.

نشأة حركة أسطول الحرية

لفهم حادثة اختطاف السفينة “مادلين” بشكل كامل، لا بد من وضعها في سياقها التاريخي كجزء من حركة أوسع تهدف إلى كسر الحصار الإسرائيلي على غزة. ارتبط ميلاد أسطول الحرية بهيئة الإغاثة الإنسانية التركية، وهي هيئة أسسها متطوعون أتراك عام 1992 لتكون جمعية خيرية، تهدف إلى مساعدة ضحايا الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك في ذلك الوقت.

بعد ذلك توسع عمل الهيئة الإنساني ليشمل الشرق الأوسط وأفريقيا، وفي عام 2010 دعت الهيئة إلى تنظيم مبادرة “أسطول الحرية” لكسر حصار غزة. رغم الإخفاقات المتكررة، توسعت حركة أسطول الحرية لتشمل منظمات من جميع أنحاء العالم.

القانون الدولي والمياه الدولية

من الناحية القانونية، تشكل حادثة اختطاف السفينة “مادلين” انتهاكًا صارخًا ومتعدد الأوجه للقانون الدولي. فوفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تتمتع السفن في المياه الدولية بحرية الملاحة، ولا يحق لأي دولة التدخل في حركتها إلا في حالات محددة جدًا، مثل الاشتباه بالقرصنة أو تهريب المخدرات أو الاتجار بالبشر.

السفينة “مادلين” كانت ترفع العلم البريطاني، مما يعني أنها تخضع للقانون البريطاني وتتمتع بحماية المملكة المتحدة. اعتراض سفينة ترفع علم دولة أخرى في المياه الدولية يشكل انتهاكًا لسيادة تلك الدولة ويمكن أن يُعتبر عملاً عدائيًا.

ما حدث للسفينة “مادلين” يندرج تمامًا تحت تعريف القرصنة.

المسؤولية القانونية

من الناحية القانونية، تتحمل إسرائيل مسؤولية دولية كاملة عن انتهاك القانون الدولي في حادثة السفينة “مادلين”. هذه المسؤولية تشمل عدة جوانب:

أولًا، المسؤولية عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالنشطاء وبالسفينة. ثانيًا، المسؤولية عن انتهاك سيادة الدول التي يحمل النشطاء جنسيتها. ثالثًا، المسؤولية عن تقويض النظام القانوني الدولي للبحار.

تطرح حادثة السفينة “مادلين” تساؤلات جدية حول فعالية القانون الدولي في حماية المدنيين والنشطاء الذين يحاولون تقديم المساعدات الإنسانية. إذا كانت دولة يمكنها اختطاف سفينة مدنية في المياه الدولية دون عواقب جدية، فإن ذلك يقوض أسس النظام القانوني الدولي.

قد لا تكون السفينة “مادلين” وصلت إلى غزة، لكن رسالتها وصلت إلى العالم كله. لتقول: إن العدالة تستحق المخاطرة، وإن التضامن الإنساني أقوى من القوة العسكرية، وإن الأمل في عالم أفضل يستحق كل التضحيات.

طريق النضال طويل وخطير

على الرغم من فشل السفينة “مادلين” في الوصول إلى غزة وكسر الحصار فعليًا، إلا أن حادثة اختطافها حققت هدفًا مهمًا في جذب الانتباه العالمي لمعاناة سكان القطاع المحاصر. الحادثة، التي تصدرت عناوين الصحف العالمية وشاشات التلفزيون، سلطت الضوء مجددًا على الوضع الإنساني الكارثي في غزة.

حادثة السفينة “مادلين” أعادت إحياء قضية كسر الحصار على غزة، التي كانت قد تراجعت في الأولويات الإعلامية والسياسية الدولية. الحادثة ذكّرت العالم بأن الحصار مستمر منذ عام 2007، وأن هناك محاولات مستمرة لكسره رغم المخاطر والصعوبات.

حادثة اختطاف السفينة “مادلين” تطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية النظام القانوني الدولي في حماية المدنيين والنشطاء الذين يحاولون تقديم المساعدات الإنسانية. عندما تستطيع دولة اختطاف سفينة مدنية في المياه الدولية دون عواقب جدية، فإن ذلك يقوض أسس النظام القانوني الدولي ويشجع دولًا أخرى على انتهاك القانون الدولي.

هذا التحدي للقانون الدولي ليس مجرد قضية تقنية قانونية، بل يمس جوهر النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. إذا كانت الدول يمكنها تجاهل القانون الدولي دون عواقب، فإن ذلك يعيدنا إلى عصر “قانون الغاب” حيث القوة هي الحكم الوحيد.

تمثل حادثة اختطاف السفينة “مادلين” في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط لحظة فارقة في تاريخ النضال من أجل العدالة والحقوق الإنسانية. هذه الحادثة، التي استغرقت ساعات قليلة فقط، تحمل في طياتها دلالات عميقة تتجاوز حدود الجغرافيا والزمن، وتطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة النظام الدولي ومستقبل العدالة في عالمنا المعاصر.

الشجاعة التي أظهرها النشطاء على متن السفينة، واستعدادهم لمواجهة القوة العسكرية بالمقاومة السلمية، تقدم نموذجًا يحتذى به للنضال من أجل العدالة. هذا النموذج يؤكد أن هناك بدائل للعنف، وأن المقاومة المدنية يمكن أن تكون أكثر تأثيرًا من القوة العسكرية في بعض الأحيان.

تذكرنا حادثة السفينة “مادلين” بأن الطريق نحو العدالة طويل وشاق، وأنه يتطلب تضحيات وشجاعة من أشخاص استثنائيين. لكنها تؤكد أيضًا أن هذا الطريق ممكن، وأن هناك أملًا في بناء عالم أكثر عدالة وإنسانية.

المطلوب الآن من المجتمع الدولي ليس مجرد الإدانة والاستنكار، بل اتخاذ إجراءات ملموسة لحماية النشطاء والمدنيين، وتطبيق القانون الدولي على جميع الدول دون استثناء، وإيجاد حلول جذرية للنزاعات المزمنة التي تؤدي إلى مثل هذه المآسي.

 


 

في الأعداد المقبلة: حكايات الفواتير الوهمية المضخّمة، وحركة الحسابات المصرفية المريبة. ماذا جرى بين فضل الله حسونة والأب سليم غزال؟ وما قصة الـ12 ألف دولار التي عُرضت لتصليحات في مركز التنمية والحوار الذي يديره إميل إسكندر؟ وما هو الكلام اللاذع الذي قيل في تلك الغرفة المغلقة؟ كيف بُني قصر الريحان، والفيلا في بلدة أنان؟ كيف تُسجّل عقارات مخصّصة لمشاريع أهلية عامة بصفة شخصية في الدوائر الرسمية؟ من هم المتورطون؟
al-Post
مرشح لعضوية المجلس البلدي
صيدا
العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا