صيف هانئ.. قرقعة على رأس “الهلالية”


أحبُّ كتاباتِ الروائيةِ المصريةِ والأستاذةِ الجامعيةِ الراحلةِ رضوى عاشور. وأتلهَّفُ، في كلِّ مرةٍ تقعُ يدي فيها على كتابٍ يحملُ اسمها، لأوقاتٍ مليئةٍ بالمتعةِ وتغذيةِ الفكرِ والروحِ.
عدتُ من مكتبةٍ في “حي المعادي” في القاهرة إلى “حي الهلالية” في صيدا بكتابٍ لها يضمُّ شذراتٍ من سيرتها الذاتية اسمه “أثقل من رضوى”، لا يزالُ يُصاحبني منذ عشرةِ أيّامٍ، وأُخصِّصُ جزءًا يوميًّا من وقتي له
صلة الرحم بالسلطة
يطلُّ بيتي في صيدا على شارعٍ تمرُّ منه السياراتُ باستمرار، مقرقعة، فوق سكةِ تصريفِ مياهٍ لم يُستَوْ تركيبُها على الطريقةِ المطلوبة، ممّا يحدث جلبةً لا تنقطع، وكأنّها رادار تعداد، مهمتُه أن يقيسَ حيويّةَ هذا الشارع الفرعي، المتمدد رأسياً مع صعودِ الهضبة، باتجاه “طريق عبرا العام”.
رغمَ أنَّ بيتنا يقع بين مقرِّ رئاسةِ بلديةِ المنطقة وبيتِ المختار، إلا أنَّ وضعَ القرعقعةِ التي تدبُّ على قرعاتِ الرؤوسِ ليلًا ونهارًا لا يبدو أنه قابلٌ للتحسّن بحكم “صلةِ الرحمِ الجغرافية” مع “السلطة”.
علّمنا أساتذتنا في “كلية الإعلام” في “الجامعة اللبنانية”، قبل ربعِ قرنٍ، قاعدتين رئيسيتين: أولهما مستلهمةٌ من فلسفة “الأقربون أولى بالمعروف”، وهي أنَّ الخبرَ الأكثر تأثيرًا عليك هو ما يحدث في حيك، قبل حيِّ جارك، ومن ثم داخل كامل المدينة، وبعدها تفكّر في المدينة المجاورة، والوطن الشامل، ومن ثم الأوطان المجاورة!
وكان ذلك غالبًا، قبل أن يفطن الأساتذة (وبعضهم لم يكن يتمتع بأي حسٍّ رؤيوي أو عقلٍ نافذ) إلى مقاييس العولمة التي جعلت التأثيرات التي تحصل في العالم أشدّ وقعًا على أمننا الاقتصادي والاجتماعي والنفسي من “أحداث الحي”، طالما نحن نعيش في بؤرةٍ متفجرةٍ من العالم الثالث.
أمي وإيلون ماسك
على سبيل المثال، تلك الترهّات التي تحصل بين مخبولٍ يحكم العالم مثل دونالد ترامب، و”ساكيوبات” ملياردير مثل إيلون ماسك، بوسعها لا أن تؤثر فقط على أسهمِ البورصاتِ العالمية، بل على طريقةِ مشيةِ أمي في أصغر ممرٍّ لدينا داخل بيت الهضبة الصيداوية المطلّ على غطاء المجرور.. قارع الطبول.
يندرج هذا الأمر، أيضًا، في سياق نظرية أثر الفراشة، وحيث رفةُ جناحٍ، “الشهوة” تحديدا، لدى أيّ مسؤولٍ في مدينتنا بوسعه أن يؤثر على مصائر أجيالٍ كاملةٍ من سكانها.
حالة الهياج الشهواني في مدينة الحلويات اللذيذة، لا تنقطع لدى أصحاب السلطة والنفوذ فيها، في المواسم كافة!
الروح الصيداوية الباقية
من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، “فيتيشات” يشتركون فيها مع كافة المسؤولين اللبنانيين، من دهاة الفساد والفهلوة الفينيقية التي تعني أن كلّ شيءٍ قابل لأن يُباع ويُشاع بدءًا من أدوية السرطان المغشوشة وصولًا إلى آثار الحضارات الغابرة.. ولكن من بينها ما هو خاصٌّ بالروح الصيداوية العتيدة.
على اللائحة:
قوانين الضمّ والفرز التي قضت على أملاك الفقراء في البساتين الزاهرة، وتواطأ على طبخها وزراء ونواب ورؤساء بلديات ومخاتير.
مافيا جبال النفايات التي استفادت من أموال ضفتين نقيضتين، فقبضت من محبي البيئة وقبضت من كارهي البيئة، لتقبض في النهاية على صدور أهالي المدينة، وترسلهم إلى مراكز علاج سرطانات الغدد والرئة والبروستات والثدي، بفعل التلوّث الذي يستنشقونه أو يسبحون معه، لتتسلمهم بعد ذلك مافيا الأدوية وتمنحهم صحّة وفاةٍ سريعة.
أموال المانحين الدوليين، فصيدا تحولت إلى بيضة ذهبٍ، تشعّ في مرايا صناديق الدول المانحة التي ترفع أسماءها في أزقّة المدينة العتيقة وعلى واجهاتها البحرية مع تفاصيل عن مشاريع وهمية لا ترى النور أو يُرمى من مكتسباتها الفتات لفقراء المدينة الذين ترفع صورهم في “بريزنتيشن” التنمية المستدامة، ويُصنع من معاناتهم فيديوهات “الريلز”. يتاجر بهم، وبكونهم “المثال الحيّ”، الذي يثبت حيويّة المدينة التاريخية التي لا تزال على قيد الحياة بعد 6000 سنة. هل هي كذلك فعلاً؟
وضعية البدائي
حين تنفلت الشهوات المريضة، نعيش على وضعية “البدائية”: أن نأكل ونشرب، إن تأمّن الكفاف. وأن نمارس الحب، إن تأمّن المزاج، وأن نندب حظنا، باستمرار، ثمّ.. نموت!
لا شيء إضافي سوى كمّ الأخبار التعيسة التي تحاصرنا، في يوميّات المدينة، لتؤكّد لنا أننا طالما على “وضعية البدائي”، فنحن بألف خير.
هذا يندرج ضمن القاعدة الثانية التي تعلّمناها في الكليّة، وهي أن “الخبر هو أن يعضّ الرجلُ الكلبَ وليس أن يعضّ الكلبُ الرجلَ”!
وحين يخرج صيداوي من بيته صباح أحد الأيام، ولا يعود إلّا جثةً لحضن أهله:
• إما لأنّ مشافي المدينة تعجّ بالفيروسات المتغلغلة في أجهزة التنفّس، والتي تنخر أيضًا “مهارات” الطاقم التمريضي، قليل الخبرة والتعاطف، بينما يتنعم أصحابها بالثروات تضخّ لحساباتهم “الفريش” ليل نهار من دون أدنى تأكّد من مواءمة منشآتهم للاحتياجات الصحّية والإنسانية.
• أو بالموت على الطرقات لأن قوانين البلدية ووظائفها المتعلقة بالإنارة العامة، وحفر الطرقات، وأدبيات طرق المشاة، والفتحات غير القانونية بين الشوارع، ومافيا بيع الموتوسيكلات ونشرها وتطبيع حماقاتها.. هي قوانين تنام في سرير الأدراج العتيقة.
• أو لأن نسائم الصيف محمّلة بكل أنواع الروائح الغريبة، حتى أنها استعصت على أن يفكّكها مبدع أهم رواية عن الروائح كتبت في العصر الحديث وهي “العطر” لباتريك زوسكيند. رواحٌ نجحت في العيش والتمدد في الأثير الصيداوي، منها فوح جبل النفايات وأريج شبكات الصرف العشوائية وأيضًا نكهات خلطة تلك الأوساخ المتخمّرة المتروكة على الشاطئ.
حين يحدث كلّ ذلك، يكون الأمر، أشبه بأننا لم نعد، لكثرة الأخبار السيئة، نعضّ على شفاهنا فقط، بل فعلاً على “الكلب”.
لقد عضّ الرجل الكلب منذ زمن بعيد، لكن يبدو أنّ لا أحد يكترث فعلاً، لحالة الاستذئاب الشاذة التي تعيشها المدينة!

