بين ضريح أبو لؤلؤة المجوسي… ومفاعل بوشهر النووي

وسط أزقة مدينة كاشان الإيرانية التاريخية، يقف ضريحٌ صغير يحمل اسم “بابا شجاع الدين أبو لؤلؤ فيروز”، يُنسب إلى الرجل الذي اغتال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في المدينة المنورة عام 23 هجرية. يثير هذا الضريح، جدلاً واسعًا في العالم الإسلامي، إذ يمثل نقطة تقاطع معقدة بين التاريخ والسياسة والعقيدة، ويكشف عن طبقات عميقة من التوترات الطائفية والقومية التي تشكّل المشهد الإسلامي المعاصر
لا يعتبر وجود هذا القبر في إيران مجرد حادثة تاريخية معزولة، بل يمثل رمزًا معقدًا يتداخل فيه البعد الديني مع السياسي، والتاريخي مع المعاصر، والمحلي مع الإقليمي. فمن جهة، يراه البعض رمزًا للانتقام من “ظالمي آل البيت”، ومن جهة أخرى، يعتبره آخرون استفزازًا طائفيًا مقصودًا يهدف إلى تعميق الفجوة بين السنة والشيعة.
من هو هذا المجرم المجوسي؟
أبو لؤلؤة، واسمه الحقيقي فيروز النهاوندي، كان عبدًا فارسي الأصل من مدينة نهاوند، وقد وقع في الأسر خلال الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس. كُني بأبي لؤلؤة نسبة إلى ابنته لؤلؤة، وكان يُعرف في قومه باسم “بابا شجاع الدين”. انتقل إلى المدينة المنورة كعبد للصحابي المغيرة بن شعبة، وكان يمتهن عدة حرف منها النجارة والحدادة وصناعة الأرحاء.
في فجر يوم الأربعاء، التاسع والعشرين من ذي الحجة عام 23 هجرية، وبينما كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يؤم المسلمين في صلاة الفجر بالمسجد النبوي، تسلّل أبو لؤلؤة إلى المسجد حاملاً خنجرًا ذا حدين مسمومًا. وعندما كبّر عمر للصلاة وبدأ في تعديل صفوف المصلين، انقض عليه أبو لؤلؤة وطعنه عدة طعنات في ظهره وخاصرته.
لم يكتفِ أبو لؤلؤة بقتل عمر، بل واصل هجومه على المصلين، فطعن اثني عشر رجلاً، مات منهم ستة وجُرح الباقون. وعندما أدرك أنه محاصر ولا مفر له، طعن نفسه بالخنجر ذاته ومات في الحال. هكذا انتهت حياة الرجل الذي غيّر مجرى التاريخ الإسلامي بجريمته، والذي سيصبح لاحقًا رمزًا مثيرًا للجدل في الفكر الإسلامي.
التفسيرات المتضاربة للدوافع
تتضارب المصادر التاريخية حول الدوافع الحقيقية وراء اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب. فبينما تؤكد المصادر السنية على الطابع الشخصي والانتقامي للجريمة، مشيرة إلى أن أبا لؤلؤة كان مجوسيًا حاقدًا على الإسلام والمسلمين، تقدم بعض المصادر الشيعية تفسيرًا مختلفًا تمامًا.
وفقًا للرواية الشيعية، فإن أبا لؤلؤة لم يكن مجوسيًا بل مسلمًا مخلصًا ومن أتباع علي بن أبي طالب، وأن اغتياله لعمر كان انتقامًا لما لحق بفاطمة الزهراء من ظلم وعدوان. تذهب هذه الرواية إلى أن علي بن أبي طالب نفسه كان على علم بالمؤامرة، بل وساعد أبا لؤلؤة على الهروب بعد تنفيذ العملية، وأنه نقله على بغلته إلى مدينة قم في إيران حيث عاش بقية حياته.
هذا التضارب في الروايات ليس مجرد اختلاف في التفاصيل التاريخية، بل يعكس انقسامًا عميقًا في الرؤية الإسلامية للتاريخ المبكر، وهو انقسام سيكون له تداعيات بعيدة المدى على تشكيل الهوية المذهبية والسياسية في العالم الإسلامي.
نشأة الضريح وتطوره
يقع ضريح أبو لؤلؤة المجوسي في مدينة كاشان، إحدى المدن التاريخية في محافظة أصفهان الإيرانية، على بُعد حوالي 200 كيلومتر جنوب طهران. الضريح عبارة عن بناء يتكون من قبة صغيرة وحجرة للزيارة، ويُعرف محليًا باسم “آرامگاه بابا شجاع الدين” أو “مقام أبو لؤلؤ فيروز”.
تشير المصادر التاريخية إلى أن الضريح بُني في العهد الصفوي (1501-1736م)، عندما اتخذت الدولة الصفوية المذهب الشيعي الاثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة، وسعت إلى تعزيز الهوية الشيعية من خلال بناء المزارات والأضرحة المرتبطة بالشخصيات التي تحظى بالتقدير في الفكر الشيعي. كان الهدف من بناء هذا الضريح، وفقًا للرواية الرسمية الإيرانية، هو تكريم “الشهيد” الذي انتقم لآل البيت من “ظالمهم”.
خلال القرون التالية، شهد الضريح عمليات تجديد وتوسيع متعددة، خاصة في العهد القاجاري (1785-1925م) والعهد البهلوي (1925-1979م). لكن الاهتمام الأكبر بالضريح جاء بعد الثورة الإسلامية عام 1979، عندما أصبح جزءًا من السياسة الثقافية والدينية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الطقوس والممارسات الدينية
يزور الضريح سنويًا آلاف الزوار، معظمهم من الشيعة الإيرانيين، وبعضهم من الشيعة العرب والآسيويين. تتضمن الطقوس الوثنية المتبعة في الضريح قراءة الفاتحة والأدعية، وتقديم النذور والهدايا، والطواف حول القبر، وتقبيل الضريح والتبرك به. هذه الممارسات تشبه إلى حد كبير ما يحدث في أضرحة الأئمة والأولياء الصالحين في التراث الشيعي.
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو الاحتفال السنوي بما يُسمى “عيد فرحة الزهراء” في التاسع من ربيع الأول، والذي يصادف ذكرى اغتيال عمر بن الخطاب. في هذا اليوم، تُقام احتفالات خاصة في الضريح، حيث يتم توزيع الحلوى والطعام، وإقامة مجالس الذكر والمديح لأبي لؤلؤة، واعتباره “منقذًا” و”شهيدًا” انتقم للسيدة فاطمة الزهراء.
رغم الاهتمام الرسمي الإيراني بالضريح، إلا أن هناك جدلًا واسعًا حول صحة نسبة هذا القبر إلى أبي لؤلؤة المجوسي. فمن الناحية التاريخية، تؤكد جميع المصادر الموثوقة أن أبا لؤلؤة قتل نفسه في المدينة المنورة فور اغتياله لعمر بن الخطاب، وأنه دُفن هناك.
يقول الشيخ حسن الصفار، أحد علماء الشيعة: “لا يوجد أي مستند تاريخي لهذا القبر، فقاتل الخليفة الثاني انتحر أو قُتل في المدينة المنورة ودُفن هناك، وما يُقال عن وجود قبره في إيران إنما هو مبني على الأوهام والخرافات”.
كما يؤكد الشيخ جواد الخالصي، وهو عالم شيعي عراقي، أنه زار منطقة كاشان قبل عقود ولم يكن هذا القبر موجودًا، وأن “المغرضين بدأوا يشتغلون على أنه لأبي لؤلؤة”، واصفًا القصة بأنها “مختلقة أرادوا منها إثارة الفتنة”.
من جانبه، يرى آية الله التسخيري أن الأمر يتعلق بـ”قبر لأحد الدراويش القدامى حوّله بعض العوام إلى قبر للمجوسي أبي لؤلؤة”، مؤكدًا أنه “لا يجوز الاحتفاء به ولا تكريمه”.
القومية الفارسية والمذهبية الشيعية
على الرغم من الانتقادات والجدل، حافظت السلطات الإيرانية على موقف متناقض يعكس “تقية” واضحة من الضريح. فمن جهة، لم تتبنَ رسميًا الترويج للضريح أو الاحتفال به، ومن جهة أخرى، لم تتخذ خطوات حاسمة لإغلاقه أو منع الزيارات إليه. هذا الموقف المتردد يعكس التوازنات المعقدة في السياسة الداخلية والخارجية الإيرانية.
في عام 2007، وتحت ضغط الانتقادات الواسعة من العالم الإسلامي، أعلنت السلطات الإيرانية إغلاق الضريح “مؤقتًا” لأعمال الصيانة والتجديد. لكن هذا الإغلاق لم يدم طويلًا، حيث أُعيد فتح الضريح بعد فترة قصيرة، وإن كان بشكل أقل بروزًا من السابق.
يتطلب فهم الدلالات الرمزية لضريح أبو لؤلؤة العودة إلى الجذور التاريخية للعلاقة بين الفرس والعرب، وتحديدًا إلى ما يُعرف بـ”الحركة الشعوبية” التي ظهرت في العصر العباسي. الشعوبية، كما يعرّفها المؤرخون، هي “حركة من يرون أن لا فضل للعرب على غيرهم من العجم”، وقد تصل إلى حد تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم.
في السياق الفارسي تحديدًا، تحمل شخصية أبو لؤلؤة دلالة خاصة كونه الرجل الذي قتل عمر بن الخطاب، الذي يُعتبر في الذاكرة الفارسية “عدو فارس الأول”. ففي عهد عمر فُتحت المدائن، عاصمة الإمبراطورية الساسانية، وهُدم ملك كسرى، وتحولت فارس من إمبراطورية عظمى إلى ولاية إسلامية تابعة للمدينة المنورة.
يقول الكاتب محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ: “لا يكره الفرس – حتى بعد أن تشيّعوا – خليفة كرههم لعمر بن الخطاب؛ من هنا كان تعظيمهم لهذا المجرم يرتكز على هذا الحقد التاريخي الفارسي الدفين، الذي يتوارثه أهل فارس منذ مقتل كسرى على يد الفاتحين العرب وحتى اليوم”.
هذا البعد القومي يفسر لماذا يحتفظ أبو لؤلؤة بمكانة خاصة في الوجدان الفارسي، حتى بين أولئك الذين قد لا يتفقون مع الجوانب الدينية للقضية. فهو يمثل، في هذا السياق، رمزًا للمقاومة الفارسية ضد الهيمنة العربية، ونوعًا من “الانتقام التاريخي” من الفاتحين.
رمزية “التولي والتبري”
على الصعيد المذهبي، تكتسب شخصية أبو لؤلؤة دلالة مختلفة تمامًا في الفكر الشيعي. فوفقًا للرواية الشيعية، لا يُنظر إلى أبي لؤلؤة كمجوسي منتقم، بل كمسلم مؤمن انتقم لآل البيت من “ظالمهم”. هذه الرواية تجعل من اغتيال عمر عملاً مقدسًا، وليس جريمة، ومن أبي لؤلؤة شهيدًا وليس مجرمًا.
تستند هذه الرؤية إلى الاعتقاد الشيعي بأن عمر بن الخطاب كان من أبرز “غاصبي الخلافة” من علي بن أبي طالب، وأنه تسبب في ظلم فاطمة الزهراء وإيذائها، مما أدى إلى وفاتها. في هذا السياق، يصبح أبو لؤلؤة أداة العدالة الإلهية التي انتقمت للسيدة فاطمة من ظالمها.
في الفقه الشيعي، يُعتبر مبدأ “التولي والتبري” من الأسس العقائدية المهمة. التولي يعني محبة وموالاة أولياء الله وأهل البيت، بينما التبري يعني البراءة من أعداء الله وأعداء آل البيت. في هذا الإطار، يمثل الاحتفال بأبي لؤلؤة تطبيقًا عمليًا لمبدأ التبري من عمر بن الخطاب، الذي يُعتبر في الفكر الشيعي من أعداء آل البيت.
هذا ما يفسر وجود ما يُسمى بـ”عيد فرحة الزهراء” في التقويم الشيعي، والذي يُحتفل به في ذكرى اغتيال عمر. فالفرحة هنا ليست فرحة بالقتل في حد ذاته، بل فرحة بـ”انتصار العدالة” و”انتقام المظلومة” من ظالمها، كما يفسرها المؤيدون لهذا الاحتفال.
التوظيف السياسي المعاصر
في السياق المعاصر، تم توظيف رمزية أبو لؤلؤة في الصراعات السياسية والجيوسياسية في المنطقة. فمن جهة، تستخدم إيران هذا الرمز كجزء من استراتيجيتها لتعزيز الهوية الشيعية وحشد التأييد بين الشيعة في المنطقة. ومن جهة أخرى، تستخدمه القوى المناوئة لإيران كدليل على “الطائفية الإيرانية” و”العداء للسنة”.
هذا التوظيف السياسي يتجاوز الحدود الدينية والمذهبية ليصبح جزءًا من الصراع الأوسع على النفوذ في المنطقة. فالضريح لا يُنظر إليه فقط كموقع ديني، بل كرمز سياسي يعكس التوجهات الإيرانية تجاه العالم العربي والإسلامي.
أثار وجود ضريح أبو لؤلؤة في إيران ردود فعل غاضبة واسعة في العالم السني، حيث اعتُبر الأمر استفزازًا طائفيًا مقصودًا يهدف إلى إثارة المشاعر وتعميق الانقسامات المذهبية. فعمر بن الخطاب يحتل مكانة عظيمة في قلوب المسلمين السنة، ويُعتبر من أعظم الخلفاء الراشدين وأكثرهم عدلًا وتقوى.
ردود الفعل السنية لم تقتصر على الاستنكار الشعبي، بل امتدت إلى المستوى الرسمي والعلمائي. فقد أصدرت عدة مؤسسات دينية سنية بيانات تستنكر “تمجيد قاتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب”، واعتبرت ذلك “طعناً في صحابة رسول الله وإهانة لمشاعر المسلمين”.
كما أثر الأمر على العلاقات الدبلوماسية بين إيران وعدد من الدول العربية والإسلامية. فقد طالبت عدة دول بإغلاق الضريح واتخاذ موقف واضح من “تمجيد الإرهاب والقتل”، كما وصفته بعض البيانات الرسمية.
بين التأييد والرفض
يمثّل التيار الشيعي المؤيد لتمجيد أبو لؤلؤة الجناح الأكثر تشددًا في الطيف الشيعي، والذي يتبنّى رواية تاريخية مختلفة تمامًا عن السائد في المصادر السنية. وفقًا لهذا التيار، فإن أبا لؤلؤة لم يكن مجوسيًا منتقمًا، بل مسلمًا مخلصًا ومن أتباع علي بن أبي طالب، وأن عمليته ضد عمر بن الخطاب كانت عملًا مقدسًا انتقم فيه للسيدة فاطمة الزهراء.
يستند هذا التيار إلى مجموعة من النصوص والروايات التي يعتبرونها موثوقة، منها ما نقله الحافظ البرسي في كتابه “مشارق أنوار اليقين” من أن علي بن أبي طالب قال لعمر: “يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلاً بجراحة من عبد أم معمر تحكم عليه جورًا، فيقتلك توفيقًا”. هذا النص، وفقًا لتفسيرهم، يدل على أن عليًا كان يعلم مسبقًا بما سيحدث لعمر، بل ويؤيده.
أثارت بعض الفتاوى المنسوبة إلى مراجع شيعة معاصرين جدلًا واسعًا حول الموقف الشيعي الرسمي من أبو لؤلؤة. فقد انتشرت فتوى منسوبة إلى مكتب آية الله السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في العراق، تجيز استعمال لفظة “حضرت” لتعظيم أبو لؤلؤة، وتبيح زيارة قبره والتوسل به.
الشعوبية المعاصرة والسياسة الإيرانية
في العصر المعاصر، تجلّت الشعوبية الفارسية في أشكال جديدة مرتبطة بالسياسة الإقليمية والصراع على النفوذ في المنطقة. فرغم أن إيران تتبنّى رسميًا خطابًا إسلاميًا يدعو إلى الوحدة الإسلامية، إلا أن ممارساتها العملية تكشف عن نزعة شعوبية واضحة في التعامل مع العرب.
تمثّل قضية ضريح أبو لؤلؤة المجوسي في إيران نموذجًا معقدًا لتداخل العوامل التاريخية والدينية والسياسية والقومية في تشكيل الرموز والهويات في العالم الإسلامي المعاصر. فهذا الضريح ليس مجرد موقع ديني، بل رمز محمّل بدلالات متعددة ومتضاربة تعكس التوترات العميقة في المنطقة.
من الناحية السياسية، تبين أن الضريح يُستخدم كأداة في الصراعات الجيوسياسية الإقليمية، حيث تستفيد منه إيران في تعزيز نفوذها بين الشيعة، بينما تستخدمه القوى المناوئة كدليل على الطائفية الإيرانية.
لذا فإن على العلماء المعتدلين من كلا المذهبين العمل على تهدئة الأجواء الطائفية والتركيز على القواسم المشتركة بدلًا من نقاط الخلاف. كما ينبغي على المؤسسات الدينية الشيعية اتخاذ موقف واضح ومسؤول من قضايا مثل تمجيد أبو لؤلؤة، بما يخدم المصلحة العامة للأمة الإسلامية.
