إيران الوهم… الأخطبوط يتخبّط في أذرعه

تشكل الضربات العسكرية التي نفذتها إسرائيل اليوم على كامل مساحة إيران تصعيدًا نوعيًا في الصراع الإقليمي، وتحمل تداعيات عميقة على شبكة الوكلاء الإيرانية في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله، والحوثيون في اليمن، والميليشيات المذهبية الشيعية في العراق
يُعَدّ حزب الله في لبنان أقوى وكلاء إيران في المنطقة، ويواجه منذ نحو عام تحديات خاصة في ظل فقدانه لقيادات رئيسية، وللقوة العسكرية والأفراد. الضربة الإسرائيلية على إيران تُضاعف من هذه التحديات من خلال تعطيل خطوط الإمداد والتمويل، وشبكات القيادة والسيطرة التي تربط الحزب بطهران.
تأتي الضربة الإسرائيلية على إيران في سياق تصاعد التوتر الإقليمي، الذي بدأ مع حرب غزة في أكتوبر 2023، وامتدّ ليشمل جبهات متعددة في لبنان واليمن والعراق. منذ بداية الحرب، شهدت المنطقة سلسلة من التصعيدات المتبادلة بين إسرائيل و”محور المقاومة” الذي تقوده إيران، وصلت ذروتها بالضربة الإسرائيلية المباشرة على الأراضي الإيرانية.
تُعدّ هذه الضربة نقطة تحوّل في طبيعة الصراع الإقليمي، حيث انتقلت المواجهة من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران. هذا التطور يحمل تداعيات عميقة، ليس فقط على العلاقات الثنائية بين البلدين، بل على كامل شبكة التحالفات والوكلاء في المنطقة.
أحدثت الضربة الإسرائيلية صدمة عميقة في المنظومة الإيرانية على عدة مستويات. على المستوى الأمني، كشفت الضربة عن ثغرات خطيرة في الدفاعات الجوية الإيرانية وأنظمة الإنذار المبكر، مما يثير تساؤلات حول قدرة إيران على حماية أصولها الاستراتيجية من هجمات مستقبلية.
التأثير على حزب الله
لفهم تأثير الضربة الإسرائيلية على إيران على حزب الله اللبناني، من الضروري استعراض الهيكل التنظيمي للحزب والخسائر التي تكبدها في الأشهر الماضية. حزب الله، الذي تأسس عام 1985 بدعم إيراني مباشر، طوّر عبر العقود هيكلًا تنظيميًا معقدًا يجمع بين العمل السياسي والعسكري والاجتماعي.
القيادة العليا للحزب تتكوّن من مجلس الشورى المؤلف من سبعة أعضاء، والذي يُعتبر أعلى جهة قيادية في التنظيم. وتحت مجلس الشورى، تتوزع المسؤوليات على عدة مجالس متخصصة: المجلس التنفيذي، والمجلس السياسي، والمجلس الجهادي الذي يُشرف على الجناح العسكري.
الجناح العسكري للحزب، المعروف باسم “المقاومة الإسلامية”، يضمّ عدة وحدات متخصصة، أبرزها وحدة رضوان للعمليات الخاصة، ووحدة الصواريخ والقذائف، ووحدة الدفاع الجوي. وكانت هذه الوحدات تحت قيادة مباشرة من خبراء الحرس الثوري الإيراني، الذين يوفّرون التدريب والتسليح والتوجيه الاستراتيجي.
الخسائر المتراكمة
شهد حزب الله في الأشهر الماضية سلسلة من الضربات الإسرائيلية المستهدفة، التي أدّت إلى مقتل قيادات رئيسية في التنظيم. أبرز هذه الخسائر كان مقتل الأمين العام حسن نصر الله في سبتمبر 2024، والذي كان يقود الحزب منذ عام 1992، ويُعتبر الوجه الأبرز للمقاومة في المنطقة.
الخسائر القيادية المتراكمة أضعفت بشكل كبير من قدرة حزب الله على إدارة عملياته العسكرية والحفاظ على تماسكه التنظيمي. فقدان هذا العدد من القادة المتمرّسين في فترة قصيرة نسبيًا خلق فجوة قيادية كبيرة يصعب ملؤها بسرعة، خاصةً في ظل استمرار التهديد الإسرائيلي.
الضربة الإسرائيلية على إيران أدّت إلى تعطيل شبكة القيادة والسيطرة التي تربط حزب الله بطهران، مما يُضاعف من التحديات التي يواجهها التنظيم. مقتل قادة الحرس الثوري المسؤولين عن ملف حزب الله، وعلى رأسهم حسين سلامي وعلي شمخاني، يعني فقدان الخبرات الاستراتيجية في إدارة العلاقة مع الحزب وتوجيه عملياته.
هؤلاء القادة الإيرانيون كانوا يلعبون دورًا محوريًا في تنسيق الاستراتيجية العامة لحزب الله وتوفير التوجيه التكتيكي للعمليات المعقّدة. فقدانهم يعني أن الحزب سيضطر إلى الاعتماد أكثر على قياداته المحلية، التي قد تفتقر إلى الخبرة والرؤية الاستراتيجية الواسعة التي كان يُوفّرها المشرفون الإيرانيون.
تعطيل خطوط الاتصال المباشرة مع طهران يخلق أيضًا تحديات في اتخاذ القرارات السريعة، خاصةً في المواقف الحرجة التي تتطلّب تنسيقًا مع الاستراتيجية الإيرانية الأوسع. هذا قد يؤدي إلى تباطؤ في ردود الفعل أو اتخاذ قرارات غير منسّقة مع الأهداف الاستراتيجية الإيرانية.
التأثير على التمويل والإمداد
يعتمد حزب الله بشكلٍ كبير على الدعم المالي الإيراني، الذي يُقدّر بحوالي 700 مليون دولار سنويًا، وفقًا لتقديرات أمريكية صادرة عام 2022. لا يغطي هذا التمويل النشاطات العسكرية فحسب، بل أيضًا الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي يُقدّمها الحزب لقاعدته الشعبية في لبنان.
الضربة الإسرائيلية على إيران تؤثّر على هذا التمويل من عدة جهات. أولًا، استهداف مراكز القيادة المالية في طهران وتعطيل شبكات التحويل المالي يخلق صعوبات في إيصال الأموال إلى حزب الله. ثانيًا، الضغوط الاقتصادية المتزايدة على إيران نتيجة الضربة قد تضطرّها إلى تقليل الدعم المالي لوكلائها الإقليميين.
على صعيد الإمداد العسكري، فإن تعطيل مصانع الصواريخ الباليستية في إيران يؤثّر مباشرة على قدرة حزب الله في الحصول على أسلحة متطورة جديدة. الحزب، الذي يمتلك ترسانة تُقدّر بحوالي 150,000 صاروخ وقذيفة، يعتمد على إيران في تجديد هذه الترسانة وتطويرها بأسلحة أكثر دقّة وفتكًا.
يحدّ تأثر إنتاج الطائرات المُسيّرة في إيران من قدرة حزب الله على تطوير قدراته في هذا المجال، الذي شهد تطوّرًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. نقص قطع الغيار والصيانة للأسلحة المعقّدة يمكن أن يؤثّر على جاهزية الحزب القتالية على المدى المتوسّط.
التأثير على القدرات العسكرية
تمتلك ترسانة حزب الله العسكرية تنوّعًا كبيرًا يشمل صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وطائرات مسيّرة، وأنظمة دفاع جوي، وأسلحة مضادة للدبابات متطورة. هذه الترسانة تطوّرت عبر عقود من الدعم الإيراني المستمر، والذي شمل ليس فقط توريد الأسلحة، بل أيضًا نقل التقنيات وتدريب الكوادر المتخصصة.
الضربة الإسرائيلية على إيران تؤثر على هذه القدرات من خلال تعطيل مصادر الإنتاج والتطوير. استهداف مصانع الصواريخ في إيران يعني صعوبة في الحصول على صواريخ جديدة، خاصة الأنواع المتطورة عالية الدقة التي تُشكّل العمود الفقري لاستراتيجية الردع لدى حزب الله.
فقدان الخبراء الإيرانيين المتخصصين في تطوير الأسلحة يحدّ من قدرة حزب الله على تطوير قدراته الذاتية. كان هؤلاء الخبراء يلعبون دورًا مهمًا في نقل التقنيات المتقدمة وتدريب الكوادر المحلية على استخدام وصيانة الأسلحة المعقّدة.
على صعيد التدريب، فإن انقطاع برامج التدريب في إيران يؤثّر على تطوير قدرات المقاتلين، خاصة في المجالات المتخصصة مثل تشغيل الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي. هذا قد يؤدي إلى تراجع تدريجي في مستوى الكفاءة القتالية للحزب على المدى الطويل.
التأثير النفسي والمعنوي
إلى جانب التأثيرات المادية والتنظيمية، تحمل الضربة الإسرائيلية على إيران تأثيرات نفسية ومعنوية عميقة على حزب الله. القيادة المتبقية في الحزب تواجه ضغوطًا نفسية متزايدة نتيجة الشعور بالعزلة عن الداعم الرئيسي، وعدم اليقين حول استمرار الدعم الإيراني بنفس المستوى السابق.
هذا الشعور بعدم اليقين يمكن أن يؤثّر على عملية اتخاذ القرارات، حيث قد تُصبح القيادة أكثر حذرًا في التصعيد أو أكثر ميلًا للبحث عن تسويات سياسية. كما يمكن أن يؤدي إلى تساؤلات داخلية حول الاستراتيجية المستقبلية والأولويات التنظيمية.
على مستوى المقاتلين والكوادر، فإن تراجع الثقة في قدرة إيران على توفير الحماية والدعم يمكن أن يؤثر على الروح المعنوية والاستعداد للقتال. الشكوك حول استمرار الدعم الإيراني قد تدفع بعض العناصر للبحث عن بدائل أو إعادة تقييم انتمائهم التنظيمي.
البحث عن مصادر دعم بديلة أصبح أولوية للحزب، حيث تشير التقارير إلى محاولات لتطوير علاقات مع روسيا والصين، وإن كانت هذه المحاولات لا تزال في مراحلها الأولى، ولا يمكن أن تعوّض الدعم الإيراني في المدى القريب.
الحوثيّون في اليمن
تفاعل الحوثيّون في اليمن مع الضربة الإسرائيلية على إيران بطريقة تعكس عمق العلاقة مع طهران والتحديات التي يواجهونها. هذا الموقف المتضامن مع إيران يأتي في سياق العلاقة الاستراتيجية العميقة بين الحوثيّين وطهران، والتي تطوّرت منذ سيطرة الجماعة على صنعاء عام 2014. تقدّم إيران للحوثيّين دعمًا عسكريًا وماليًا وتقنيًا، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والخبرات التقنية المتخصصة.
لكن الضربة الإسرائيلية تخلق تحديات عملية كبيرة للحوثيّين. تعطيل مصانع الصواريخ الباليستية في إيران يؤثر مباشرة على قدرة الحوثيّين في الحصول على صواريخ جديدة، خاصة الأنواع بعيدة المدى التي استخدموها في استهداف إسرائيل والسعودية. كما أن فقدان الخبراء الإيرانيين المتخصصين يحدّ من قدرة الحوثيّين على تطوير قدراتهم الذاتية في إنتاج الأسلحة.
التأثير على إنتاج الطائرات المسيّرة في إيران يُمثّل تحديًا خاصًا للحوثيّين، الذين طوّروا قدرات متقدمة في هذا المجال واستخدموها بفعالية في استهداف المنشآت النفطية السعودية والسفن في البحر الأحمر. نقص قطع الغيار والتقنيات المتقدمة قد يضطر الحوثيّين للاعتماد أكثر على التقنيات البسيطة والمحلية.
الميليشيات الشيعية العراقية
تضمّ الميليشيات الشيعية في العراق مجموعة متنوّعة من الفصائل المسلحة التي تربطها علاقات وثيقة مع إيران، أبرزها: كتائب حزب الله العراقية، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء. لعبت هذه الفصائل دورًا مهمًا في محاربة تنظيم داعش، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى أدوات للنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة.
الضربة الإسرائيلية على إيران تضع هذه الميليشيات أمام تحديات معقّدة. من جهة، تواجه ضغوطًا من إيران للردّ على الضربة ودعم طهران في مواجهة إسرائيل. ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطًا داخلية من الحكومة العراقية والرأي العام العراقي لتجنّب جرّ العراق إلى صراع إقليمي أوسع.
فقدان القيادات الإيرانية المشرفة على هذه الميليشيات، وعلى رأسهم قاسم سليماني الذي اغتيل عام 2020، والآن حسين سلامي، يخلق فجوة في التوجيه الاستراتيجي. هذا قد يؤدي إلى تباين في المواقف بين الفصائل المختلفة أو اتخاذ قرارات غير منسّقة مع الاستراتيجية الإيرانية الأوسع.
الضغوط الداخلية في العراق تتزايد على هذه الميليشيات لوقف عملياتها ضد إسرائيل والقوات الأميركية. الحكومة العراقية، التي تسعى لتجنّب التورط في صراع إقليمي، تمارس ضغوطًا متزايدة على هذه الفصائل للالتزام بالقرارات الحكومية وعدم القيام بعمليات غير مصرّح بها.
الفصائل الفلسطينية
تأثرت الفصائل الفلسطينية، وخاصة حماس والجهاد الإسلامي، بشكل كبير بالضربة الإسرائيلية على إيران. هذه الفصائل، التي تعتمد على الدعم الإيراني في التسليح والتمويل والتدريب، تواجه الآن تحديات جديدة في ظلّ تراجع القدرة الإيرانية على تقديم الدعم.
حماس، التي كانت تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007، تلقّت دعمًا إيرانيًا كبيرًا على مرّ السنين، بما في ذلك الأسلحة والتمويل والتدريب. الضربة الإسرائيلية على إيران تؤثّر على هذا الدعم من خلال تعطيل خطوط الإمداد وتراجع القدرة المالية الإيرانية.
في ظلّ الدمار الواسع الذي لحق بغزة خلال الحرب الأخيرة، تحتاج حماس إلى دعم كبير لإعادة الإعمار وإعادة بناء قدراتها العسكرية. تراجع الدعم الإيراني يضعها أمام تحديات كبيرة في تحقيق هذه الأهداف، ممّا قد يدفعها للبحث عن مصادر دعم بديلة أو إعادة تقييم استراتيجيتها.
الجهاد الإسلامي، الذي يُعتبر أكثر الفصائل الفلسطينية ارتباطًا بإيران، يواجه تحديات أكبر. هذا الفصيل، الذي يعتمد بشكل كبير على الدعم الإيراني في التمويل والتسليح، قد يُضطر لتقليل نشاطه أو البحث عن داعمين جدد.
الفصائل الأخرى، مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، التي تعتمد أقل على الدعم الإيراني، قد تستفيد من تراجع النفوذ الإيراني في الساحة الفلسطينية. هذا قد يؤدي إلى إعادة ترتيب التوازنات داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.
تنويع شبكة الوكلاء
تُدرك إيران أن الاعتماد المفرط على الدعم المباشر لوكلائها يجعلهم عرضة للتأثّر بأي ضربات تستهدف إيران نفسها. لذلك، تسعى طهران لتطوير قدرات محلية لدى وكلائها تُقلّل من اعتمادهم على الدعم الخارجي.
هذا التوجّه يشمل نقل تقنيات إنتاج الأسلحة البسيطة إلى الوكلاء وتدريب كوادر محلية متخصصة. كما يشمل تطوير مراكز قيادة إقليمية تتمتع بصلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات دون الحاجة للرجوع إلى طهران في كل مرة.
تنويع مصادر الدعم يشمل أيضًا تطوير علاقات مع قوى دولية أخرى، خاصة روسيا والصين. تسعى إيران لتطوير شراكات استراتيجية مع هذه القوى في المجالات العسكرية والتقنية، ممّا يُقلّل من اعتمادها على قدراتها الذاتية فقط.
البحث عن حلفاء جدد يشمل أيضًا دولًا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. تسعى إيران لبناء شبكة دعم أوسع تشمل دولًا مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، والتي تُشاركها العداء للولايات المتحدة وإسرائيل.
بغضّ النظر عن السيناريو الذي سيتحقق، فإن الضربة الإسرائيلية على إيران وتداعياتها ستؤثّر بشكل كبير على الأمن الإقليمي. تراجع النفوذ الإيراني، حتى لو كان جزئيًا، سيؤدي إلى تغيير في موازين القوى الإقليمية.
إسرائيل ستستفيد من هذا التغيير لتعزيز موقعها الاستراتيجي وتطوير علاقاتها مع دول المنطقة. السعودية ودول الخليج قد تجد فرصة لتعزيز نفوذها في المناطق التي كانت تحت النفوذ الإيراني.
لكن هذا التغيير قد يؤدي أيضًا إلى عدم استقرار في المرحلة الانتقالية. الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الإيراني قد يؤدي إلى صراعات جديدة أو تفاقم الصراعات الموجودة، كما قد يفتح المجال أمام فاعلين جدد، بما في ذلك الجماعات المتطرفة.
السيناريوهات المستقبلية المختلفة، من التكيّف الناجح إلى التفكك الجزئي، تُشير إلى أن المنطقة تقف على مفترق طرق. الاتجاه الذي ستسلكه الأحداث سيعتمد على قرارات وأفعال الفاعلين المختلفين، من إيران ووكلائها إلى إسرائيل والولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى.
