سُنّة إيران: مقاومة الظلام …بالوجود

على الرغم من مرور أكثر من أربعة قرون على إعلان التشيّع كمذهبٍ رسمي في إيران منذ العهد الصفوي، ورغم السياسات المتشدّدة التي فرضها النظام بعد الثورة الخمينية عام 1979، لا يزال السُنّة في إيران يُشكّلون واقعًا اجتماعيًا ودينيًا حيًّا، ومصدرَ قلقٍ دائمٍ للسلطة. فكيف استمرّت هذه الجماعة، الأقلُّ عددًا والأكثرُ اضطهادًا، في الصمود؟ وما سرُّ هذه “المقاومة الصامتة”؟
في قلب “الجمهورية الإسلامية” التي تُعرّف عن نفسها رسميًّا بأنّها “شيعية اثنا عشرية”، يعيش نحو 10 ملايين سُنّي إيراني، أي ما يعادل حوالي 10٪ من السكان، على هامش الحياة السياسية والدينية في ظلّ اضطهادٍ وقهرٍ وتنكيلٍ إنساني وسياسي واجتماعي وديني، يَرقى في كثيرٍ من ممارساته إلى جرائم ضدّ الإنسانية.
السُنّة في إيران مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم، محرومون من منابر القرار، ومن حقّ ممارسة شعائرهم الدينية بحرية. لكنّ الضربة الإسرائيلية الواسعة التي استهدفت الداخل الإيراني مؤخرًا، فتحت الباب على أسئلة كبرى: هل يتغيّر شيء في معادلة الاضطهاد؟ أم أنّ العقاب الجماعي سيتضاعف؟
مواطنون بلا منبر
من بلوشستان إلى كردستان، ومن الأهواز إلى أطراف طهران، ينتشر السُنّة الإيرانيّون في مناطق جغرافيةٍ معزولة غالبًا. ينتمون إلى قوميات متعدّدة: بلوش، أكراد، عرب، وتركمان. وبينما تتمتّع الأقلية اليهودية والزرادشتية بتمثيل رمزي في البرلمان، يُحرَم السُنّة حتى اليوم من أبسط الحقوق الدينية: لا مساجد في العاصمة، لا حرية لبناء مؤسسات دينية مستقلة، ولا أئمة يُسمح لهم بتقديم خطب تتجاوز الرقابة الرسمية.
يُمنع علماء السُنّة من الظهور في الإعلام الرسمي، ويُعتقَل بعضهم بشكل دوري بذريعة “تهديد الوحدة الوطنية” أو “نشر الوهابية”، كما حصل مع الشيخ كمال قُدّوسي في كردستان، والشيخ عبد الحميد إسماعيل زهي في زاهدان، الذي لا يزال تحت الإقامة الجبرية بعد خطبٍ ناريّةٍ انتقد فيها النظام علنًا.
معاناة قومية ومذهبية
لا تنفصل معاناة السُنّة في إيران عن البُعد القومي، فغالبيتهم من القوميات غير الفارسية، وهو ما يجعلهم يتعرّضون لتمييزٍ مضاعف: مذهبي وقومي. تشكو محافظات مثل سيستان وبلوشستان – ذات الغالبية السُنّية البلوشية – من أعلى معدلات الفقر والبطالة، وأدنى مؤشرات التنمية، رغم موقعها الحدودي الاستراتيجي.
يُنظر إلى المطالب الحقوقية لهذه الأقليات بعين الريبة، وتُربَط تلقائيًّا بمشاريع “انفصالية” مدعومة من الخارج. هكذا يُصبح الانتماء المذهبي تهمةً سياسية، ويُواجَه أصحابها بالقمع الممنهج، لا بالمواطنة المتساوية.
الحرب وخطر التصفية
الحرب الإسرائيلية الدائرة مع إيران حاليًا، زلزلت الداخل السياسي، لكنها أيضًا خلقت فراغًا في القبضة الحديدية للحرس الثوري، لا سيّما في أطراف الدولة. في هذا السياق، رصدت منظمات حقوقية زيادة في النشاط الأمني والعسكري في المناطق ذات الغالبية السُنّية، وخاصة في زاهدان وكردستان.
الخَشية الأكبر أن تُستغلّ هذه الضربة الخارجية لتبرير موجات جديدة من الاعتقالات تحت شعار “مكافحة الخيانة والتعاون مع الأعداء”. فالنظام الإيراني اعتاد التعامل مع أيّ احتجاجٍ سُنّي على أنه امتداد “إسرائيلي – سعودي”، ما قد يجرّ السكان الأبرياء إلى مذبحةٍ جديدة من القمع.
برأي مطلعين قد تشكل “اللحظة” الآنية فرصةً للسُنّة الإيرانيين لتحريك ملفّهم دوليًّا، في ظلّ ازدياد اهتمام الغرب بملفّ الأقليات داخل إيران بعد اتساع رقعة التصدع الأمني والعسكري في البلاد. خاصة أنّ مظلومية هذه الفئة لم تُستخدم بعد كورقةٍ سياسية في الضغط على النظام، كما فُعل مع ملفّ النساء أو المعتقلين السياسيين الفُرس.
هل تتغير المعادلة؟
السُنّة في إيران لا يُطالبون بالانفصال ولا بتغيير النظام، بل يُطالبون بحقوقٍ بديهية: أن يُسمح لهم بالصلاة بحرية، أن يُنصفوا في الوظائف العامة، أن يُشاركوا في صناعة القرار، وأن يُعامَلوا كمواطنين لا كـ “مشروع تهديد داخلي”.
لكن في جمهورية قامت على قاعدةٍ ظلاميةٍ من الحقد المذهبي لـ”الوليّ الفقيه الشيعي”، سيظلّ التغيير الحقيقي مرهونًا بتحوّلٍ جذري في بنية النظام، لا بقرارات ترقيعية. وحتى ذلك الحين، ستبقى أصوات السُنّة في إيران خافتة، إلا حين تنفجر غضبًا أو تُستخدم كورقةٍ في لعبة الأمم.
بعد أكثر من أربعة عقودٍ على الثورة الإسلامية، لا يزال السُنّة في إيران “أبناء الهوامش”، محرومين من حرية ممارسة شعائرهم الدينية، والتمثيل السياسي، والتنمية الاقتصادية. ومع كلّ حدثٍ كبيرٍ يضرب قلب النظام، يُعاد فتح جراحهم القديمة. لكنّ مستقبلهم سيبقى رهينة توازناتٍ إقليميةٍ معقّدة، ونظامٍ لا يعترف بالتعدّد إلا كمادّةٍ في الدستور… لا كواقعٍ في الحياة.
جذور عميقة قبل الصفويين
قبل أن تفرض الدولة الصفوية التشيّع الإثني عشري كمذهبٍ رسمي عام 1501م، كانت إيران سُنّية الهوى والهوية، حافلةً بالفقهاء والمدارس العريقة. مدن مثل نيسابور، وأصفهان، وبخارى، وشيراز أنجبت كبار علماء الشافعية والحنفية. لكن الصفويين أعادوا رسم الخريطة المذهبية بالسيف، وأخضعوا كلّ معارضة بالقمع والمجازر.
وعلى الرغم من نجاح المشروع الصفوي في تغيير التوجّه العام للبلاد، بقيت بعض الجيوب السُنّية صامدة في المناطق الجبلية والحدودية، حيث تعذّر على السلطة المركزية إحكام قبضتها.
الجغرافيا كملاذ للبقاء
السُنّة الإيرانيون اليوم ينتشرون في كامل أطراف البلاد: الأكراد في الغرب، البلوش في الجنوب الشرقي، العرب في الأهواز، التركمان في الشمال الشرقي. هذه المناطق الجغرافية الوعرة والبعيدة عن مركز القرار السياسي والديني في طهران وقم، منحت السُنّة نوعًا من “الاستقلال الصامت”.
ساهم هذا التمركز الحدودي في عزلهم عن التشييع القسري، وسمح بتكوين مجتمعاتٍ محليةٍ متماسكة لا تزال تحتفظ بلهجتها ومذهبها وعاداتها الدينية.
هوية مزدوجة ضد الانصهار
ما يزيد من مناعة السُنّة في إيران هو ارتباط مذهبهم بهويتهم القومية. الكردي السُنّي لا يُدافع فقط عن مذهبه، بل عن لغته وثقافته. والبلوشي السُنّي لا يرى في طهران مركزًا سياسيًّا فحسب، بل قوة استعلاء قومي فارسي شيعي. هذا التداخل بين الدين والقومية جعل مقاومة التشييع جزءًا من مقاومة الهيمنة المركزية، لا مجرد خلافٍ فقهي.
في ظلّ منع المساجد السُنّية من الظهور في العاصمة، وفرض الرقابة على الخطب والكتب، لجأ السُنّة إلى تأسيس شبكات تعليمٍ ديني غير رسمية. في زاهدان، مثلًا، تنتشر المدارس القرآنية الخاصة التي تُخرّج الأئمة والدعاة، بعيدًا عن أعين الدولة.
علماء مثل الشيخ عبد الحميد إسماعيل زهي تحوّلوا إلى رموزٍ محلية، رغم التضييق والاعتقالات. لقد صنعت هذه المجتمعات أبطالها الدينيين من رحم الاضطهاد، وخلقت بنيتها الدينية من لا شيء تقريبًا.
خلال “الانتفاضات” التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني، برزت المناطق السُنّية كجبهات احتجاجٍ رئيسية، وواجهت القمع الأعنف. ورغم ذلك، تحوّلت هذه الأحداث إلى لحظة كشفٍ عن عنف الدولة ضدّ الأقليات المذهبية.
السُنّة لم يختفوا. بل صاروا أكثر وعيًا بأنّ الهوية لا تذوب بالقهر… بل تتجذّر بالمقاومة.
البقاء في الهامش لا في الهوامش
بقاء السُنّة في إيران لم يكن بقرارٍ من الدولة، بل رغماً عنها. لقد سكنت هذه الجماعات في الظلّ، لا في الهامش. بنت مؤسساتها، حافظت على لهجتها الدينية، وخلقت فضاءً منيعًا أمام الانصهار. وعلى الرغم من أنّ مستقبلهم ما زال غامضًا في ظل التصعيد الإقليمي والداخلي، فإنّ تاريخهم في إيران هو شهادة حيّة على أنّ الأقليات قد تُكسَر، لكنها لا تُمحى.
هذا البقاء، في قلب دولة تصف نفسها بـ”الشيعية المطلقة”، هو أعقد أشكال المقاومة… المقاومة بالوجود.
أرقام مخزية
يُشكّل السُنّة في إيران 10٪ من عدد السكان البالغ نحو 87 مليون نسمة، أي ما يقارب 8.7 مليون شخص
لا يوجد للسُنّة مقاعد مخصصة في البرلمان، ولم يظهر منهم إلا 12 عضوًا فقط في “مجلس خبراء القيادة” من أصل 277 عضوًا.
مقاعد البرلمان الخمسة الخاصة بالأقليات محجوزة فقط للديانات المعترف بها رسميًّا كالزرادشتية واليهودية والمسيحية، بينما السُنّة غير معترف بشرعيتهم التمثيلية بهذا الشكل.
نظام “الانتقاء” (قانون غوزينِش) منذ عام 1985 يُخضع الموظفين والطلبة لفحصٍ عقائدي يقتصر على الشيعة، مما يُضيّق الفرص أمام السُنّة والمذاهب الأخرى.
الوثائق القانونية والدستور تُصرّح بالامتيازات للمذهب الجعفري فقط، وتضع نظرية “ولاية الفقيه” في الصرح الدستوري، مما يُلغي مبدأ تكافؤ الحقوق.
