الفارق بين أبو محمد الجولاني وأحمد الشرع، يبدو أكثر بُعدًا ممّا يتخيله كثيرون. لِمن يعرف الجولاني جيدًا، يعرف أن الرجل يُدرك كيف يحقق المكاسب في أصعب الظروف والأوقات. فمَن يرى في الانكفاء الحكومي عن “معركة السويداء” نهاية القصة، سيجد نفسه قريبًا أمام معطيات تُؤشّر بوضوح أن الرجل لا يمكن أن يحتمل خسارة معركة كالسويداء، لأنّ ذلك سيعني نهاية “حُلم” أو مشروع أكبر منه على المستوى الشخصي. وهو أمر لا يحمله في الرؤية التي يصوغها على الناعم وسط حقل من الألغام
لم يكن انسحاب النظام السوري من محافظة السويداء حدثًا عابرًا في سياق التآكل التدريجي لسلطته المركزية، بل شكّل محطة فارقة قد تُعيد صياغة معادلات الحكم في دمشق. فالمحافظة ذات الغالبية الدرزية، التي لطالما لعبت دور “الحياد المراقب” في الحرب السورية، تحوّلت فجأة إلى نموذج لـ”الفكاك المحلي”، فاقم الأسئلة المعلّقة حول مصير الحكم في العاصمة، وطبيعة “الدولة” السورية القادمة.
انفكاك الأطراف… ونهاية المركز؟ منذ عام 2011، شهدت سوريا تحوّلات متوالية في خارطة النفوذ والسيطرة، لكنّ بقاء دمشق في يد النظام بقي ثابتًا رئيسيًّا. غير أنّ فقدان السويداء، بما تُمثّله من رمزٍ للطائفة الدرزية، يُشكّل صفعة مزدوجة:
من جهة، يُفقد النظام إحدى آخر أوراق الإجماع الطائفي المفترض. ومن جهة أخرى، يُعيد إلى الواجهة سيناريوهات الفدرلة أو التقسيم غير المُعلَن، في ظل تزايد النفوذ المحلي في الشمال (الكردي)، والجنوب (الدرزي)، والغرب (العلوي).
ومع هذا الانفصال الجديد، تغدو دمشق أكثر عزلة من أي وقتٍ مضى، محاطة بجغرافيا سياسية تتعامل معها كـ”سلطة أمر واقع” لا كعاصمة وطنية جامعة.
مَن يرث العرش؟ المشهد بعد السويداء يُلقي بظلاله على جدوى هذا الرهان. أحمد الشرع، و”ماسيّة”، بدا عاجزًا أو متردّدًا في التعامل مع التحوّل الجنوبي، سواء من موقع رسمي أو من موقع رمزي. ومع سقوط السويداء في يد قواها المحلية، يظهر الشرع:
إمّا بعيدًا عن مراكز التأثير الحقيقية، أو متماهيًا مع نظام لم يعُد يمتلك زمام المبادرة. في الحالتين، تضعف فرصه في قيادة عملية “انتقالية” ذات صدقية وطنية.
مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا
قوّة استقرار أم فاعل هشّ؟ الجيش السوري، الذي بقي حتى اللحظة الأخيرة ضامنًا للحكم المركزي، بدأ يفقد مبررات بقائه كقوّة جامعة. الانسحاب من السويداء قد يُفسّر على أنّه:
إمّا ضعف ميداني،
أو قرار سياسي بتفكيك المسؤولية،
أو محاولة لتفادي مواجهة طائفية لا تُحتمل في الجنوب.
أيًّا يكن السبب، فإنّ الرسالة الأوضح هي أن الجيش لم يعُد قادرًا على فرض “الدولة” بالقوة، ولا على حماية المركز السياسي من التفكك التدريجي.
دمشق القادمة: سيناريوهات متعددة أمام هذه التحولات، يمكن رسم أربع سيناريوهات ممكنة لمستقبل الحكم في دمشق:
نموذج “الكيان الأمني المصغّر”: تتحوّل دمشق إلى “دويلة” بحدود أمنية، محاطة بنقاط تفتيش دولية ومحلية، ويُصبح النظام فيها رمزًا مُفرغًا من السلطة الفعلية.
انتقال تدريجي للسلطة تحت وصاية دولية ونفوذ إسرائيلي واضح: يتم الدفع برمز انتقالي مثل أحمد الشرع، لكن ضمن توازنات دولية صارمة، تضمن مصالح اللاعبين الإقليميين.
انهيار المركز وانطلاق مرحلة الفوضى: يدخل النظام في حالة صراع داخلي على السلطة بين أجنحة أمنية وعسكرية، فيتحوّل الحكم إلى إدارة مناطقية على الطريقة الليبية أو اليمنية.
مفاوضات وطنية شاملة تُفضي إلى عقد اجتماعي جديد: وهو السيناريو الأضعف حاليًا، لكنه يبقى قائمًا في حال تحوّلت الانشقاقات إلى فرصة لإعادة التأسيس لا للانقسام النهائي.
دمشق ليست بعيدة عن السقوط الرمزي رغم أنّ النظام الجديد لا يزال يسيطر على دمشق عسكريًا، إلا أن سقوط السويداء فتح الباب أمام نوعٍ آخر من السقوط: السقوط الرمزي للسلطة المركزية. وفي زمن ما بعد الأسد، لن يكفي تعيين أحمد الشرع أو سواه للقول إن الدولة استعادت توازنها. فالمسألة لم تعُد مجرد تغيير وجوه، بل إعادة صياغة كاملة لعقد اجتماعي انهار منذ أكثر من عقد.
السؤال اليوم لم يعُد من يحكم دمشق؟ بل: “هل بقيت دمشق فعلًا مركزًا للحكم؟” وهل “نكسة” معركة السويداء هي الثمن الواجب دفعة لإسرائيل والغرب مقابل بقاء النظام الجديد في دمشق؟ الإجابة في القادم من الأيام….