تحميل

إبحث

رجال ونساء

الإعلام اللبناني وسياسات اغتصاب العقول

شارك

في أروقة الأنظمة الاستبدادية، تتعرض العقول لمحاولات منهجية لسلب استقلالها وتحويلها إلى أدوات طيّعة تخدم أهداف السلطة. تتجلى هذه المحاولات من خلال السيطرة على الفكر، وغسل الدماغ، وتشويه الهوية العقلية، في عملية أشبه بالاغتصاب النفسي الذي يطمس معالم الوعي الفردي.

التحكم في الفكر ليس مجرد أداة سياسية، بل هو سلاح خفي يستهدف كيان الإنسان الداخلي. يعتمد هذا التحكم على الخوف كقوة دفع تُضعف المقاومة، وعلى الضغط الاجتماعي كوسيلة لخلق قوالب فكرية موحدة. تحت وطأة هذه الضغوط، يفقد الإنسان القدرة على التفكير النقدي، فينقاد بلا وعي إلى تقبل ما يُفرض عليه.

ثنائية الإخضاع

من خلال تحليل سيكولوجيا القمع، يظهر الخوف كأحد أعتى أدوات السيطرة. فالأنظمة الشمولية تستغل التهديد المستمر بالعقاب الجسدي أو النفسي لإجبار الأفراد على الامتثال. وإلى جانب ذلك، يتكامل الضغط الاجتماعي مع الخوف ليصبح الفرد غريباً إذا ما تجرأ على التفكير خارج الأطر المفروضة.

تشويه الهوية الفكرية ليس عملية آنية، بل هو نتاج تراكم ضغوط نفسية واجتماعية مستمرة. يواجه الإنسان قصفًا متواصلاً من الأفكار التي تفرض عليه كحقائق مطلقة. ومع الوقت، يصبح عاجزًا عن التمييز بين ما هو صواب وما هو مجرد أداة قمعية تُستخدم لإخضاعه.

إعادة صياغة الذات

تقنيات غسل الدماغ تتجاوز مجرد التلاعب بالأفكار، لتصل إلى إعادة تشكيل الهوية الذاتية. يُعاد بناء القناعات من جديد، وفقًا لمصالح السلطة. يفقد الفرد إحساسه بذاته، فيتحول إلى نسخة مشوهة من نفسه السابقة، غير قادر على التفكير بحرية أو التمييز بين حقيقته وما فُرض عليه.

في عالم اليوم، تطورت أساليب السيطرة الفكرية مع تطور وسائل الإعلام. الأخبار المضللة، وحملات التشويه، والتلاعب العاطفي عبر الصور والنصوص كلها أدوات حديثة تهدف إلى تشكيل العقول وتوجيهها. لم تعد السيطرة على الفكر محصورة في الأنظمة الاستبدادية التقليدية؛ بل أصبحت جزءًا من واقع يومي يتسلل إلى حياتنا عبر الشاشات.

لا تقتصر هذه الأساليب على الأفراد، بل تمتد لتشويه الهوية الجماعية. الأنظمة القمعية تسعى لتفكيك المجتمعات من خلال تفكيك روابطها الفكرية والثقافية. يُعاد تشكيل الولاءات والانتماءات بما يتماشى مع مصالح السلطة، لتصبح الهوية الوطنية أو الثقافية أداة أخرى للتلاعب.

مقاومة القمع تبدأ من الوعي

إن مواجهة هذه المحاولات تبدأ من إدراك الإنسان لذاته ولما يحيط به. الوعي النقدي هو الحصن الأخير ضد الاغتصاب الفكري. عندما يدرك الأفراد الآليات التي تُستخدم ضدهم، يصبحون أقل عرضة للوقوع في فخاخ التلاعب.

في زمن تتعدد فيه وسائل السيطرة على العقول، يصبح الدفاع عن الحرية الفكرية ضرورة وجودية. التفكير النقدي ليس رفاهية، بل هو فعل مقاومة، وسلاح الإنسان الأخير للحفاظ على هويته الإنسانية في وجه محاولات القمع والتشويه.

يروى أن الشرطة ألقت القبض على رجل كان ينظِّف سيَّارته الجديدة حيث فوجئ بأنَّ إبنه البالغ من العمر سنتين أخذ مسمارا وبدأ يخدش به جانب السيَّارة فغضب الأب وبدأ يضرب على يد إبنه دون أن يشعر بأنَّه كان يضربها بمقبض المطرقة التي كان ينظِّف بها السيَّارة.

إنتبه الأب متأخرا لما حدث وأخذ إبنه للمستشفى حيث فقد الابن إصبعا بسبب الكسور ألَّتي تعرَّض لها وعندما رأى الابن أباه قال له: أبي متى سينبت إصبعي؟ وقع السؤال كالصاعقة على الأب فخرج وتوجه إلى السيَّارة وقام بتحطيمها ثم جلس أمامها يبكي وكلَّه ندم على ما حدث لإبنه فوقع نظره على مكان الخدش على السيارة وقرأ، أحبُّك يا أبي، في اليوم التالي لم يحتمل الأب تأنيب الضمير فانتحر. نهاية الحكاية.

لنعد للحكاية ونركز قليلا:

  •  هل هناك أحد ينظِّف سيَّارة بالمطرقة؟
  •  وما علاقة المطرقة بالموضوع أصلا؟
  • عمر الولد سنتان هل يستطيع أن يكتب “أحبُّك أبي”؟
  •  وهل يستطيع الكلام فيقول : “متى سينبت إصبعي يا أبي”؟
  •  كيف قبضت الشرطة على الأب وهو منتحر؟

هذه القصة، رغم سذاجتها الظاهرة، تُعبر تمامًا عن الطريقة التي يستهلك بها الإعلام اللبناني عقولنا. تمامًا كما في القصة، يتعامل الإعلام اللبناني مع الحقائق السياسية والدينية والمذهبية كما لو كانت مادة خام قابلة للتشكيل. في القصة، يتم الضرب بالمطرقة على يد الابن دون أن ينتبه الأب إلى المقلب، مثلما تُضرب عقولنا في لبنان بأخبار غير مدروسة، تُستغل العاطفة في نقلها دون التفكير في تفاصيلها أو صحتها.

تمامًا كما كان الأب ينظف سيارته بالمطرقة بطريقة غير منطقية، يتم تنظيف عقولنا عبر وسائل الإعلام بالمطرقة نفسها، لكن على طريقة “القصف الإعلامي”. تُعطى لنا قصص مثيرة، محشوة بالدراما والمبالغة، لتثير مشاعرنا من دون أن نلاحظ أن لا منطقًا أو تبريرًا حقيقيًا وراء تلك القصص.

خدش لا ينتهي

في لبنان، كثيرًا ما نشهد قصصًا تُروى بعاطفة وحماسة، كما حدث مع الأب الذي أقدم على تحطيم سيارته في لحظة ندم، فقط ليفاجأ بعبارة “أحبك يا أبي” تضاف إلى الخدش. في السياسة، تُقدم لنا الأزمات على أنها انتصارات، والهزائم على أنها معارك كُبرى، مع حكايات تحفيزية عن الخلاص والنجاح، دون أن ننتبه أن هناك خدشًا كبيرًا في التفاصيل.

والحقيقة أن “أحبك يا أبي” في القصة ليست سوى خداع للعقل، تمامًا كما هي الحكايات التي تُنقل لنا عن السياسة اللبنانية. تُمنح الوعود الكاذبة، وتُعزف سيمفونيات عن الإصلاحات، بينما تختفي الحقيقة وراء مشهد من العاطفة و”المطرقة” الإعلامية التي تسرق التفكير النقدي.

لنكن أكثر يقظة

إن الحكاية التي تبدأ بمطرقة وتدور حول خدش على سيارة، تنتهي بشكل مأساوي، تمامًا مثلما تنتهي القصص الإعلامية التي تنقل لنا أكاذيب ومبالغات دون أن ننتبه للتفاصيل. تمامًا كما في الحكاية، علينا أن نطرح الأسئلة الصحيحة: هل هذه الأخبار منطقية؟ هل هناك ما يثبت صحتها؟ هل نُقَدم على اتخاذ قرارات استنادًا إلى معلومات مغلوطة؟

الدرس المستفاد من القصة، ومن واقع الإعلام اللبناني، هو نفسه:

“لا تصدِّق كل ما يُقال ولا تنقل كل ما تسمع”. الإعلام اللبناني ليس سوى تلك المطرقة التي تضرب عقولنا، ونحن نستهلكها بكل سذاجة، مُنقادين وراء العاطفة والكلمات الجذابة، دون أن نتوقف للحظة لنسأل: هل ما نسمعه صحيح؟

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *