من المفترض أن تحتضن إحدى قاعات بلدية صيدا فعالية جامعة عن غزة. حدثٌ يفترض أنه يوحّد لا يفرّق، ويجمع ولا يشتّت، إذ كيف يختلف الناس على دماء الأطفال المهدورة تحت الركام؟ لكن في صيدا، يبدو أن الشعارات (اللوغوهات) صارت عند البعض أهم من القضية نفسها. فقد انشغل الرعاة المفترضون للحدث، لا بمضمون اللقاء ولا برسالته، بل بمقاسات شعاراتهم على المطبوعات. شعارك أكبر من شعاري. خلاف وصل حدْ تدخل رئيس البلدية شخصيا بالموضوع، وأدى إلي انسحاب بعض الرعاة بعد أن كانوا قد دفعوا المال، وكأن القضية مجرد لوحة إعلانية على جدار البلدية. المفارقة الأشد مرارة أن القوى السياسية الأساسية في المدينة أعلنت عدم مشاركتها بالحدث، لا اعتراضاً على العدوان ولا تضامناً مع غزة، بل لأن الرعاية الأساسية تعود إلى مجموعة “استجدت” على المشهد المحلي، وباتت تشكّل معضلة في التعاطي مع ظاهرتها. هكذا، تتحول الفعالية من منصة لدعم فلسطين ومواجهة إسرائيل إلى ساحة مصغّرة لحروب الكيديات المحلية التافهة. غزة تذبح… فيما البعض في صيدا يقيس الشعارات بالمسطرة.
بينَ مُتداوِلٍ يابانيٍّ وحاكمِ مصرفٍ لبنانيّ: معادلاتٌ تصنعُ الثروة… أو الانهيار. في الاقتصادِ كما في الفيزياء، الأرقامُ لا تكذب. لكنّها أحيانًا تروي قصّتَين متناقضتَين تمامًا: قصّةُ نجاحٍ فرديٍّ مبنيٍّ على الانضباط، وقصّةُ انهيارٍ وطنيٍّ مبنيٍّ على سياساتٍ قصيرةِ النظر لمثالان اليابانيّ واللبنانيّ يكشفان هذه الهوّة بشكلٍ صارخ: شابٌّ بدأ من غرفةِ نومه في طوكيو برأسمالٍ متواضع، وحاكمُ مصرفٍ مركزيّ جلسَ في مكتبٍ يُطلّ على البحر لعقود. النتيجة؟ الأوّل صنع ثروةً شخصيّة تجاوزت 153 مليون دولار، والثاني تركَ اقتصادًا يترنّح بخسائرَ تفوق 70 مليار دولار. صبرٌ في غرفةِ النوم في أواخرِ التسعينيّات، بدأ تاكاشي كوتيغاوا، المعروف بلقب BNF، التداولَ بمبلغٍ لم يتجاوز 13,600 دولار. لم يرثْ ثروةً، ولم يدخلْ إلى السوق بخطّةٍ سريّة. ما امتلكه كان مزيجًا من الانضباط والجرأة. اعتمد على التداولِ اليوميّ في الأسهم عالية السيولة، مع إدارةٍ صارمةٍ للمخاطر. ذروةُ نجاحه جاءت عام 2005 في صفقة J-Com الشهيرة: خطأ إداريّ من بنك ميزوهو أدّى إلى عرض 610,000 سهمٍ بسعر ينٍّ واحدٍ للسهم. في ساعاتٍ قليلة، حوّل كوتيغاوا هذا الخطأ إلى ربحٍ قَدْرُه 17 مليون دولار. لكن ما يميّز قصّتَه أنّ الأرباح لم تكن وليدة صفقةٍ واحدة، بل ثمرةً تراكميّة لثمانيةِ أعوامٍ من الانضباط. تدريجيًّا، تضاعف رأسمالُه حتى بلغ نحو 153 مليون دولار، ليُصبح من أبرز المتداولين الأفراد في اليابان. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا هندساتٌ ماليّة في غرفةِ الأزمات رياض سلامة، حاكمُ مصرف لبنان منذ عام 1993 حتى 2023، كان وجهًا آخر للقصة. بدأ ولايتَه في بلدٍ يصفه الاقتصاديّون آنذاك بـ”سويسرا الشرق”، باحتياطاتٍ وقطاعٍ مصرفيّ قويّ. لكنّه على مدى العقود التالية ابتكر سياسة “الهندسات الماليّة” التي اعتمدت على اجتذاب الودائع بالدولار بفوائد مرتفعة، لتمويلِ العجزِ الماليّ المتزايد. النتيجةُ كانت أشبهَ بهرمٍ ماليّ ضخم: استدامة قصيرة الأجل، وانهيار حتميّ على المدى الطويل. بحلول 2019، ومع انسداد تدفّق الرساميل وتراجع الثقة، انهار النموذجُ بكامله. الرياضيات بلا مشاعر الليرة اللبنانيّة فقدت 98% من قيمتها. الناتجُ المحليّ تقلّص من 55 مليار دولار عام 2018 إلى نحو 20 مليارًا فقط. نسبةُ الفقر ارتفعت إلى ما يفوق 80% من السكّان. احتياطاتُ مصرف لبنان تبخّرت من أكثر من 40 مليار دولار إلى أقلّ من 10 مليارات. الياباني: +153 مليون دولار في 8 أعوام. اللبناني: –70 مليار دولار ودائع في أقلّ من عقد. الياباني: بنى ثروةً في غرفةِ نومه، تحت ضوء شاشة الكمبيوتر. اللبناني: فكّك اقتصادَ بلدٍ من مكتبٍ رسميّ، وتحت غطاء “السياسات العامّة”. المفارقة التاريخيّة ما بين قصّتَي كوتيغاوا وسلامة، يظهر بوضوح أنّ النجاحَ الاقتصاديّ لا يحتاج بالضرورة إلى مؤسّساتٍ عملاقة، بل إلى قواعد بسيطة: الانضباط، الشفافيّة، والمخاطرة المحسوبة. على النقيض، السياساتُ التي تغيب عنها الشفافيّة وتفتقد الرؤية طويلة المدى قادرة على تقويض مؤسّساتٍ ودُوَل. المفارقةُ الأشدّ سخريةً، أنّ كوتيغاوا خرج من غرفة نومه إلى الحرّيّة الماليّة، بينما خرج رياض سلامة مؤخرًا من السجن بكفالةٍ ماليّة. الأولى تُدرَّس في كتب الاستثمار، والثانية تُسجَّل في أرشيف الأزمات الماليّة الكبرى في القرن الحادي والعشرين. السؤالُ الذي يفرض نفسه: لو كان لدى لبنان "BNF" واحد بعقليّةٍ منضبطةٍ في مصرفه المركزيّ، هل كنّا اليوم نتحدّث عن قصّة نهوضٍ اقتصاديّ بدلاً من انهيارٍ تاريخيّ؟
“السؤالُ الكبير” الذي طُرِحَ في السالفِ من الأيّام حولَ تفسيرِ عودةِ بهاء الحريري إلى لعبِ دورٍ سياسيٍّ في لبنان، وتداعياتِ ذلك على “خصوصية” صيدا، لاسيّما في موضوعِ الانتخاباتِ النيابيّة المقبلة، يبدو أنّه لم يتعدَّ، كعادةِ الرجل، كونه “فورةً في فنجان”. فقد أكّدت مصادرُ سياسيّةٌ مُطَّلِعةٌ في المدينة أنّ بهاء، بعد زياراتِه “الإشكاليّة” الأخيرة إلى صيدا، لم يكن سعيداً بما وجد، ولم تكن حصيلةُ هذه الحركةِ بحسب توقّعات الحدِّ الأدنى. وأشار العارفون إلى أنّ بهاء أبدى انزعاجاً من “طريقةِ الشُّغل” التي جرت في الانتخابات البلديّة الأخيرة، وأنّه ينوي ألا يكررها. فبحسب هؤلاء، لم يكن الحريري سعيداً أبداً بفكرةِ دفعِه مبلغ 100 ألف دولار أميركي لدعمِ لائحةِ حجازي خلال المعركة البلديّة، في حين أنّ المبلغَ الذي وصلَ إلى الماكينة لم يكن إلا 90 ألفاً فقط لا غير، بحيث “طار” عشرةُ آلافٍ على الطريق (علماً أنّه لم يكن طويلاً)، وانقسمَ على شكل “خمستين” لتحطَّ في جيوبِ شخصين معروفين صيداويّاً. ومع ذلك يبقى السؤالُ يتردد: هل يُعيدُها بهاء دعماً لمرشّحينَ محتملينَ في المعركةِ النيابيّة المقبلة؟ هذا إنْ حصلتْ في موعدِها…