في خطوةٍ قد تُثير الدهشة والاستغراب، أبلغت الشرطة البلدية في صيدا رئيس تجمّع المؤسسات الأهلية في صيدا، ماجد حمتو، بضرورة إخلاء المكتب الذي يستخدمه التجمّع في مبنى البلدية، وذلك استنادًا إلى قرار اتّخذه رئيس البلدية الجديد، مصطفى حجازي، من دون أي اتصال أو تواصل مع تجمّع المؤسسات الأهلية السبب المُعلن للخطوة، كما يقول حجازي، هو حاجة البلدية إلى غرف إضافية لأجل عمل اللجان البلدية.في متابعةٍ للموضوع، تبيّن أن استخدام التجمّع للمكتب المذكور يستند إلى قرار مجلس بلديٍّ اتُّخذ قبل عام 2010، وبالتالي فإن نقضه يستوجب قرارًا بلديًّا جديدًا، وهذا ما لم يفعله رئيس البلدية الجديد.وما يلفت الانتباه أنّ هناك غرفًا أخرى في مبنى البلدية تستخدمها جمعيات غير موجودة أصلاً. قرار حجازي فتح جدلًا داخل المجلس البلدي حول آلية اتخاذ هذا القرار، وعدم أخذ رأي المجلس به لاتخاذ القرار المناسب. هذا السلوك من الرئيس الجديد دفع تجمّع المؤسسات الأهلية إلى القيام بجولة على الفعاليات السياسية والروحية في المدينة لطرح المشكلة، وصولًا إلى إيجاد الحلّ المناسب. كما يسعى التجمّع إلى تقديم ردٍّ قانوني على قرار حجازي الأخير. تأتي هذه الخطوة من جانب حجازي وسط خطاب “مسرحي” بلدي يتحدث عن التشاركية بين المجتمع المحلي والسلطة المحلية. ويُذكر أن تجمّع المؤسسات الأهلية كان قد ترك الخيار لجميع المؤسسات لاتخاذ الموقف الذي يناسبها خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، مع الإصرار على أهمية التعاون بين البلدية والتجمّع في المرحلة المقبلة. وإذ يتفاجأ التجمّع بخطوة رئيس البلدية الأخيرة، فإنه يؤكّد أن يده ما زالت ممدودة للتعاون مع البلدية، حسب ما أفاد أحد مصادر التجمّع. يقول أحد الناشطين: “المدخل لحلّ هذه المشكلة التي نشأت بسبب قرار رئيس البلدية هو تجميد القرار ونقاشه في المجلس البلدي، ليكون بابًا لتحديد العلاقة بين البلدية كمجلس بلديٍّ والمجتمع الأهلي والمدني، بعيدًا عن الخطابات الشعبوية، واعتماد سياسة التعاون بين مكوّنات المجتمع في المدينة.” فهل يُبادر المجلس البلدي إلى نقاش الموضوع، ووضع آلية جدية لتنظيم العلاقة بين تجمّع المؤسسات الأهلية والمجلس البلدي؟ أم تبقى المدينة أسيرة قراراتٍ فرديّة لا تستند إلى أرضيّة قانونيّة؟
لطالما حاولت تركيا المعاصرة، في خطابها السياسي والإعلامي، أن تُوهم العالم الإسلامي بأنها امتدادٌ طبيعيٌ للدولة العثمانية. لكنّ هذه الصورة، وإن بدت براقةً، تُخفي وراءها قطيعةً جوهريةً وتناقضاتٍ عميقةً بين المشروعين لم تكن الدولة العثمانية مجرد كيانٍ قوميٍ تركيٍ، بل كانت خلافةً إسلاميةً جامعةً، امتدادًا شرعيًا وتاريخيًا للخلافات الراشدة والأموية والعباسية. ضمّت تحت رايتها شعوبًا متنوّعةً من العرب والبربر والأكراد والترك والألبان والبوشناق والسودانيين والصوماليين، وغيرهم من أمم دار الإسلام، ووحّدتهم عقيدةٌ واحدةٌ ورايةٌ واحدةٌ، هي راية الإسلام. خلافةٌ عابرةٌ للقوميات في بنيتها السياسية والعسكرية، كانت الدولة العثمانية دولةً عابرةً للقوميات بامتياز. لم تكن السلطة محصورةً في يد العرق التركي، بل كان منصب “الصدر الأعظم”، وهو أعلى منصبٍ بعد السلطان، يتولاه رجالٌ من شتى الأعراق: من صربيا، واليونان، والألبان، والشام، ومصر. لم يحكم هؤلاء باسم العِرق، بل باسم الإسلام. وقد كانت الخزينة العثمانية تُملأ من أطراف العالم الإسلامي، وجيشها كان يُشكّل من أبناء جميع الأمم التي بايعت الخلافة، لا من عنصرٍ تركيٍ واحدٍ. هذا التنوع والشمولية كانا من أبرز سمات الدولة العثمانية، مما أكسبها شرعيةً واسعةً في العالم الإسلامي. قطيعةٌ مع الماضي على النقيض، تُشكّل الجمهورية التركية الحديثة، التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924، قطيعةً تامةً مع الدولة العثمانية، لا من حيث الشكل فقط، بل من حيث الجوهر والمبادئ. خلق أتاتورك هذه الدولة من العدم، من بقايا شعوبٍ متناثرةٍ: من الأتراك السلاجقة في الأناضول، ومن شتات مسلمي البلقان الذين طردتهم صربيا واليونان وبلغاريا وفروا إلى الدولة العثمانية، ومن السكان الأصليين من الروم الذين أسلموا أو تتركوا في المدن الكبرى وسواحل بحر إيجة. بل حتى أتاتورك نفسه، مؤسس هذه الدولة، لم يكن من أصولٍ تركيةٍ خالصةٍ، بل يُرجَّح أنه من أصولٍ أرناؤوطيةٍ (ألبانيةٍ) أو يهوديةٍ دنميةٍ من سالونيك، ما يزيد من رمزية انقطاعه الجذري عن التاريخ العثماني والإسلامي. “تركيا الكمالية” كانت مشروعًا علمانيًا متطرّفًا، أُقيم على أنقاض الخلافة، وهدفه الأساسي محو الهوية الإسلامية واستبدالها بهويةٍ قوميةٍ تركيةٍ غربيةٍ. فاستُبدلت الشريعة الإسلامية بالقانون الفرنسي، وحُرّم الحجاب، وغُيّر الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، ونُبذت اللغة العثمانية الغنية بالمفردات العربية والفارسية لصالح لغةٍ مصطنعةٍ، أُفرغت من مفردات التراث الإسلامي. كانت هذه الإجراءات بمثابة إعلانٍ صريحٍ عن القطيعة مع الماضي الإسلامي للدولة، وتوجهٍ حاسمٍ نحو الغرب. خلق أتاتورك هذه الدولة من العدم، من بقايا شعوبٍ متناثرةٍ: من الأتراك السلاجقة في الأناضول، ومن شتات مسلمي البلقان الذين فروّا إلى الدولة العثمانية، ومن السكان الأصليين من الروم براغماتيةٌ سياسيةٌ لا إيمانٌ مع تحوّلات القرن الحادي والعشرين، وظهور تياراتٍ قوميةٍ محافظةٍ في الداخل التركي، قامت الدولة التركية بإعادة توظيف الإرث العثماني — لا إيمانًا به، بل استغلالًا سياسيًا واقتصاديًا. فتحت عباءة السلطنة، تسعى تركيا اليوم لتحقيق مصالح توسّعيةٍ في آسيا والبلقان والعالم العربي، فتُروّج لصورةٍ عثمانيةٍ مزيفةٍ، لا تستند إلى المضمون الإسلامي الذي قامت عليه الخلافة، بل إلى تمجيد العِرق التركي وماضيه الإمبراطوري. رأينا كيف يُستدعى التاريخ العثماني في الإعلام الرسمي التركي، لا لأجل بعث الخلافة، بل لإضفاء شرعيةٍ على التوسع في ليبيا وسوريا وأذربيجان. هذا التوظيف الانتقائي للتاريخ يكشف عن براغماتيةٍ سياسيةٍ تهدف إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية، دون الالتزام بالمبادئ التي قامت عليها الدولة العثمانية. تركيا اليوم تُسوّق نفسها كوارثةٍ للعثمانيين، بينما هي في الحقيقة دولةٌ قوميةٌ براغماتيةٌ، تستعمل الرموز الإسلامية دون أن تعود فعليًا إلى الشريعة الإسلامية. وقد تخلّت عن النموذج الكمالي المتوحّش، الذي حظر الدين تمامًا، وانتقلت إلى العلمانية الغربية الناعمة، التي لا تمنع الصلاة والصوم والحجاب كعباداتٍ، لكنها تقف موقفًا صريحًا مناهضًا لتطبيق الشريعة الإسلامية كنظام حياةٍ، كما هو الحال في إنجلترا وألمانيا وغيرها من دُول الغرب، حيث يُسمح بالدين كطقوسٍ شخصيةٍ، وتُحارَب قوانينه في الاقتصاد والسياسة والمجتمع. كثيرًا ما يُقدَّم فتح مسجد آيا صوفيا مثالًا على عودة تركيا إلى هويتها الإسلامية، لكن هذا الفتح، رغم رمزيته، لا يعني شيئًا في ميزان الحكم الإسلامي. فالإسلام عند الدولة التركية اليوم يُسمح له أن يكون دينًا روحيًا فرديًا، له مكانه في المساجد والطقوس والعمائم — لكنّه ممنوعٌ من أن يكون مشروعًا حاكمًا، أو نظامًا شاملًا يدير شؤون الحياة. الإسلام الذي يصوغ الاقتصاد، ويضبط الإعلام، ويهندس السياسة، ويقاوم التغوّل الرأسمالي — هذا الإسلام هو العدو الذي يُحارب في نظر الدولة الحديثة، لا فرق في ذلك بين تركيا وإنجلترا وألمانيا. لقد انتقلت تركيا من العلمانية الكمالية المتوحّشة، التي كانت ترى في الصلاة جريمةً، إلى العلمانية الغربية الناعمة، التي تتسامح مع العبادات ما دامت محصورةً في الزوايا، لكنها تحارب الإسلام إذا خرج ليحكم أو يدير شؤون المجتمع. لم يأت الإسلام ليكون طقوسًا داخليةً، بل أنزل ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور القوانين إلى عدل الشريعة، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الإسلام. وما تفعله تركيا اليوم، هو تقييد الإسلام في العبادات، وتدجين المسلمين عبر طقوسٍ رمزيةٍ، تُخدّر الوعي وتُسكّن المطالب الكبرى، بينما تبقى المنظومة الحاكمة علمانيةً خالصةً، لا تخضع في قوانينها وتشريعاتها واقتصادها لأي مرجعيةٍ قرآنيةٍ. تناقضٌ مع الخطاب العثماني في المجال العسكري والسياسي، حافظت الجمهورية التركية على انتمائها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952، وما تزال إحدى ركائزه الكبرى. فهي الدولة الثانية بعد أمريكا في حجم قواتها العسكرية داخله، والثامنة في تمويله. وشاركت طوال السبعين عامًا الماضية في عمليات الحلف، التي استهدفت العالم الإسلامي، من أفغانستان إلى العراق. بل ويُذكر أن قاعدة إنجرليك الجوية الواقعة جنوب تركيا قد استُخدمت مرارًا لانطلاق الطائرات التي قصفت بغداد وساهمت في زعزعة أمن المشرق العربي. وإن كانت تركيا قد أعلنت دعمها للقضية الفلسطينية إعلاميًا، إلا أن العلاقات الرسمية مع الكيان الصهيوني تسبق ذلك بكثيرٍ، فقد كانت تركبا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عام 1949، ولم تتأخر في إبرام اتفاقياتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ معها خلال تسعينيات القرن العشرين. واليوم، تُعدّ من أبرز مشتري السلاح من الكيان، بل وتُجري مناوراتٍ عسكريةٍ بحريةٍ مشتركةٍ مع الأسطولين الإسرائيلي والأمريكي. هذه العلاقات العميقة مع الغرب والكيان الصهيوني تُلقي بظلالٍ من الشك على مدى صدق الخطاب التركي الذي يدّعي استعادة أمجاد الخلافة. أتاتورك وفلسطين…حرب وخيانات تُثير سيرة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، جدلاً واسعاً، خاصةً فيما يتعلق بدوره في جبهة فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى. فبعد أن أظهر شجاعةً لافتةً في معركة غاليبولي، حيث قاد القطاع الجنوبي وحقق انتصاراً كبيراً على الحلفاء، أُرسل أتاتورك لاحقاً إلى فلسطين كقائد لجيش يلدرم والجيش السابع العثماني، متمركزاً في نابلس. تساؤلات حول سقوط القدس: رغم سقوط القدس المدوي في يد القوات البريطانية، لم يتحرك أتاتورك لإنقاذها أو تحريرها، على الرغم من تواجده في نابلس بجيش عثماني كبير، والمسافة الفاصلة بين المدينتين لا تتجاوز 50 كيلومتراً. اللافت أن القوات البريطانية توقفت عند القدس لحوالي
في عام 1940، اتحدت قوتان عظميان، الصين وروسيا، في حلف غير مسبوق، بهدفٍ واحدٍ فقط: القضاء على رجلٍ واحد فقط! فمَن هو هذا الرجل الذي دفع دولتين بحجم الصين وروسيا لتعبئة جيشٍ ضخمٍ يضم 300 ألف مقاتل، مزوّدين بأحدث الأسلحة آنذاك؟ إنه بطلٌ من أبطال الأمة المجهولين، طُمست ذكراه عمدًا من تاريخنا: إنه عثمان باتور إسلام أوغلو. عندما اجتاحت الجيوش الصينية والروسية تركستان الشرقية لإخضاع المسلمين، لم تتوانَ عن ارتكاب أبشع الجرائم: قتلٌ، ونهبٌ، واغتصابٌ، وانتهاكٌ للحرمات. كانوا يلقون القبض على كل من يحمل سلاحًا، مهما كان نوعه، سواء أكان بندقيةً أم سهمًا أم حتى سكين صيد. لكن عثمان، الفارس القازاقي الشجاع، المعروف بلقب “باتور” أي البطل، رفض أن ينحني لهؤلاء الغزاة. اختار حياة الجبال، حاملًا سلاحه، ليبدأ في مقاومة هذا التحالف العدواني الذي جاء ليمنع قيام دولةٍ توحّد المسلمين في تلك البقاع. عُرف عثمان بدهائه وحنكته العسكرية، حيث ابتكر أسلوبًا فريدًا في نصب الكمائن. كانت هذه الكمائن مركبة؛ يستدرج العدو إلى فخٍ تقع فيه سريةٌ كاملةٌ من الفتية، ثم إذا أتت قوات الإنقاذ، تقع بدورها في كمينٍ آخر أشد إحكامًا. استمر في هذه الاستراتيجية حتى أوقع جيوشًا بأكملها في شراكه، مما بث الرعب في نفوسهم. بلغ الخوف من عثمان ورفاقه مبلغًا جعل الجنود الروس والصينيين يقدمون الرشاوى لقادتهم، فقط لتجنب إرسالهم إلى تلك المناطق التي يقاتل فيها هذا البطل وجيشه. بل إن الحاكم العسكري الصيني بلغ به اليأس حدًا جعله يقول: “من يأتِ لي برأس عثمان حيًا أو ميتًا، أعطيته زوجتي 70 يومًا يفعل بها ما يشاء”. لكن الزوجة فرت إلى معسكرات المسلمين، وهناك اعتنقت الإسلام بعد أن شهدت أخلاق الجيش الإسلامي، فتزوجها أحد قادة عثمان، وعاشت بين المسلمين بعزةٍ وكرامة. كان لمعسكرات عثمان سمعةٌ عظيمةٌ بين الناس؛ فلم يعرفوا ظلمًا ولا اعتداءً على النساء والأطفال والشيوخ، بل التزموا بأخلاق الحرب الإسلامية النبيلة. يروي كتاب “ليالي تركستان” وصفًا دقيقًا لهذا القائد: “كان عثمان باتور ذا نظراتٍ صارمةٍ، كث اللحية، طويل الشارب، هادئ الحركة، قليل الكلام، عميق التفكير… كان يلبس ملابس ثقيلة تقيه برد الجبال القارس، وكان شعاره الذي يهز الجبال: الله أكبر… الله أكبر.” لكن مع كل ما أبداه من شجاعةٍ وبسالةٍ، لم يكن ممكنًا الإيقاع به إلا بالخيانة. دلَّ أحد الخونة قوات العدو على مكان تواجده. فهاجمت القوات الصينية معسكره بجيشٍ جرار. قاوم عثمان مع مائتي مجاهدٍ، في معركةٍ شرسةٍ، لكن جواده تعثر في نهاية المطاف، وبعد أن تعطل سلاحه، استمر في القتال بخنجره، حتى سقط جريحًا. بلغ الخوف من عثمان ورفاقه مبلغًا جعل الجنود الروس والصينيين يقدمون الرشاوى لقادتهم، فقط لتجنب إرسالهم إلى تلك المناطق التي يقاتل فيها هذا البطل وجيشه في 29 أبريل 1951، وقع عثمان باتور في الأسر. لم يستسلم، بل واجه الموت بجلالٍ وكرامةٍ، مهللًا ومكبرًا. وقُطع أنفه وأذنه، كما فعلوا بأسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وأُعدم بينما صدح بالتكبير، متقدمًا نحو الموت بثبات. ولما بلغ الخبر أمه، قالت بفخرٍ واعتزازٍ: "لمثل هذا ربيته".