لا يُخلق الأبطال أبطالاً، نعرف عنهم في إنجازاتهم، لكننا لا نعرف دوما ما عانوه من صعوبات وانكسارات وآلام في الطريق إلى القمة… خاض صلاحُ الدين الأيوبي قبل معركة حطّين ملاحم دامية مُني فيها جيشه بالهزيمة وتبعثر صفوفه حتى بلغ الأمر أن قاتل بنفسه في الرملة كتيبةً صليبية كاملة، ولم يكن حوله سوى خمسة فرسان. تلقّى هناك ضربةً قاسية بسيفٍ أصابت فخذه وكادت أن تبتره. وُضع على فرسه الذي حمله بعيدًا، لكنّه سرعان ما فقد وعيه في صحراء سيناء، فيما وصل ما تبقّى من جيشه مهلهلًا إلى القاهرة. خرج الناس يبحثون عنه في الصحراء، وبعد يومٍ وليلة وجدوه ممدّدًا بجوار صخرة، فاقدًا للوعي، وقد أصيب بالحمّى نتيجة تلوّث الجرح الذي خلّف له عرجًا واضحًا. وعلى الرغم من هذه الهزيمة المُنكرة، التي وُصفت بأنها أسوأ من ضورليوم الأولى بمراحل، لم ييأس البطل. تعافى من جرحه، وظل أثر العرج ملازمًا له، لكنه أعاد بناء جيش جديد، ودخل المعركة مرة أخرى في العفولة، فانهزم مجددًا. فهل يئس؟لم ييأس. بل اضطرّ حينها إلى توقيع معاهدة أليمة، غير أنه ظلّ واثقًا بالنجاح. وبعد معركة الرملة الدموية، سأل شيخه متعجبًا: كيف فرّ بي الفرس، وهو الذي لم يفعلها قط من قبل؟ فأجابه الشيخ بثقة: إن الله أراد لك أمرًا لن يحققه أحد سواك، ولهذا حفظك بالفرار. توالت بعدها المعارك الصغيرة التي لم تكن حاسمة، بين انتصار وهزيمة، حتى منحه الله ثمرة النصر الكبرى في حطّين. وهناك تحقّق الحلم، فحرّر القدس، وظلّ يعرج جسدًا، لكنه لم يتوقف عن السير نحو غايته. من يقرأ سيرة صلاح الدين في الدراسات الأكاديمية بعيدًا عن الكتب الكلاسيكية التي زيّنها حبّ القائد، سيُدهش من هذا الرجل العظيم؛ فقد كان عظيمًا في انتصاراته، وعظيمًا كذلك في انكساراته، لأنه لم يعرف اليأس قط. عاش لأجل هدف واحد: تحرير القدس. ورغم كثرة الأخطاء والانكسارات في الرملة والعفولة وأرسوف، فإنّه حقق الحلم، لنفسه وللأمة.
يُختزل الحديث عمّا يُسمّى “صراع تركي – إسرائيلي” على أراضٍ عربية، مشهداً بالغ التعقيد أكثر ممّا يبدو للبعض، خصوصاً عند التوقّف أمام “الفارق الجوهري” ما بين تركيا كدولة إقليمية طاعنة في تاريخ الشرق الأوسط بحضارتها وحضورها الفاعل في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، وعلاقاتها المتجذّرة مع شعوب المنطقة، وبين إسرائيل ككيانٍ محتلٍّ لأراضي دولة فلسطين العربيّة، بلا أي جذر أو تاريخ في المنطقة بدو المشهد شديد التعقيد في ظلّ الواقع الذي يفيد بـ”تنافس جغرافي – أمني” على “الحواف” السوريّة، واللبنانيّة، والعراقيّة، واليمنيّة، وبـ”إعادة رسم” خرائط الطاقة والممرّات (غاز شرق المتوسّط / جنوب القوقاز / قناة السويس – البحر الأحمر). يأتي هذا التنافس في ظلّ تصادم شبكات نفوذ، بين محور أميركي – أوروبي يضمّ إسرائيل، وبين محور روسي – إيراني له أذرع في لبنان واليمن والعراق، في حين تنفرد تركيا بدورها كـ”لاعب محوري” يناور بين المحورين. شراكة… فقطيعة في التاريخ، وبجردة مختصرة، يتبيّن أن الشراكة التركيّة – الإسرائيليّة بلغت ذروتها في تسعينيات القرن الماضي، من خلال اتفاقيات تعاون عسكري وُقّعت بين البلدين عام 1996، وتبادل تدريبات وصناعات دفاعية، قبل أن تتدهور هذه الشراكة بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، ثمّ تتقارب مجدّداً على موجات متقطّعة، حتى انفجرت بعد حرب غزّة 2023 – 2025، وما رافقها من إعلان أنقرة عن قطع العلاقات في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وتعليق التبادل التجاري تدريجياً. أما في الجغرافيا، فثمة أكثر من منطقة تشهد على تماس بين تركيا وإسرائيل، وهي: 1- سوريا ولبنانبينما تستمر إسرائيل في أعمالها العدائية التي ما تزال تستهدف لبنان منذ أواخر العام 2024، كما استهدفت سوريا مؤخّراً، تراقب تركيا هذا المسرح عبر عدستين: أمن حدودها شمال سوريا، وميزان القوى مع إيران وإسرائيل. 2- العراقرسّخت أنقرة حضوراً عسكرياً شمال العراق ضدّ حزب العمال الكردستاني (PKK)، وتنسّق اقتصادياً عبر مشروع “طريق التنمية” الممتد من ميناء الفاو في البصرة إلى مرسين التركية، وهو مشروع استراتيجي مهم من شأنه أن يعيد تشكيل تدفّق البضائع من الخليج إلى أوروبا. 3- اليمن والبحر الأحمرتضغط هذه المنطقة على سلاسل التوريد للطاقة والبضائع معاً، بعد أن عطّلت الهجمات الحوثيّة طريق السويس – باب المندب، ورفعت كلفة النقل عالميّاً، الأمر الذي دفع واشنطن إلى الردّ بضربات واسعة، ومعها إسرائيل التي نفّذت مؤخّراً ضربات نوعيّة في صنعاء طالت قيادات حوثيّة، فيما استمرّ إطلاق الحوثيّين صواريخ ومسيّرات على سفن مرتبطة بإسرائيل. الغاز والخطوط… وتغيّر السياسة تنطلق أهمية ممرّات الطاقة في فهم خلفيات الصراع وتغيّر السياسة، وأهمّها: شرق المتوسّطخط EastMed (إسرائيل – قبرص – اليونان – إيطاليا) ظلّ مشروعاً معلّقاً، وتراجع الدعم الأميركي له، قبل أن تأتي حرب غزّة لتزيد من صعوبة تنفيذه. في المقابل، عاد خيار ضخّ الغاز الإسرائيلي إلى مصر للتسييل أو الاستهلاك بقوّة عبر اتفاق “ليفياثان – مصر” (130 مليار م³ حتى 2040) الموقّع في آب/أغسطس 2025، ليقلّل من جاذبية أي مسار بحري – برّي مباشر عبر تركيا في المدى القريب، رغم “حالة الضجيج” التي أُثيرت بعد تسريبات إسرائيليّة عن توجيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم المضيّ في تمديد “اتفاق الغاز” مع مصر دون مراجعته، وما قابلها من تأكيدات مشتركة على أن “الاتفاق ماضٍ في طريقه”، وأن ما يقوم به نتنياهو “مجرد مناورة”. تركيا كممرّ أوروآسيويتبقى أنقرة “عنق الزجاجة” لغاز أذربيجان وأحياناً لروسيا نحو أوروبا: TANAP → TAP مع قابليّة رفع السعة إلى ~31/20 مليار م³ سنوياً، وTurkStream الذي يواصل تمرير الغاز الروسي إلى البلقان – وسط أوروبا، برغم مساعي تقليص الاعتمادات. الأمر الذي يعطي تركيا وزناً تفاوضياً كبيراً مع واشنطن وموسكو معاً. بدائل الشحن والربط التجاريأعاد تعطيل ممرّ البحر الأحمر بفعل حرب غزة الاعتبار لممرّات برّية – بحرية بديلة مثل: IMEC (الهند – الشرق الأوسط – أوروبا)، وتَعزّز الاعتماد عليها بفعل تسويق أنقرة وبغداد لمشروع “طريق التنمية” العراقي كبديل سريع بين الخليج وأوروبا، انطلاقاً من ضرورة إحلال الاستقرار في سوريا والعراق. تنفرد تركيا بدورها كـ”لاعب محوري” يناور بين محور أميركي – أوروبي يضمّ إسرائيل، ومحور روسي – إيراني له أذرع في لبنان واليمن والعراق أين روسيا وأميركا؟ تساندالولايات المتحدة إسرائيل عسكرياً وسياسياً، وتقود أمن الملاحة في البحر الأحمر عبر عملية متعددة الشركاء، وتعمل على مشاريع ربط تجاري (IMEC)، وتحاول كبح تمدّد إيران في العراق وسوريا، وضبط التصعيد مع تركيا في ملفّ “قسد”. من جهتها رسّخت روسيا وجودها العسكري في سوريا منذ العام 2015، وهي تحافظ على قنوات “فضّ الاشتباك” مع إسرائيل، وتنتقد ضرباتها لضرورات ديبلوماسية. اقتصادياً، تعتمد أكثر فأكثر على TurkStream بفعل تداعيات الحرب مع أوكرانيا، وتعذّر عبور الغاز عبرها، ما يمنح أنقرة “ورقة ضغط نادرة” على موسكو. لا يبدو سيناريو تقاسم النفوذ التركي – الإسرائيلي وارداً، بل الأرجح تعدّد أقطاب وصفقات مؤقتة وممرّات متنافسة هل تتقاسم تركيا وإسرائيل النفوذ بعد هزيمة إيران؟ رأي وازن يستبعد ذلك، ويضع خمسة أسباب بنيويّة: الدور العربي (مصر – السعودية – الإمارات – العراق – قطر) الذي بات يمتلك أدوات تأثير مستقلّة. استمرار حضور الأذرع الإيرانية (لبنان – سوريا – العراق – اليمن)، وقدرتها على امتصاص الضربات. الخلاف التركي – الإسرائيلي العميق في غزّة والقدس. القيود الأميركية – الأوروبية على أي تمدّد روسي – إيراني، في مقابل القيود الروسية على أي شراكة تركيّة – إسرائيليّة. الميل إلى حلول “متعدّدة الممرّات” لا أحادية المحور. السيناريوهات المحتملة يبدو سيناريو “تقاسُم النفوذ” غير وارد بفعل ما سبق ذِكره من معطيات، لكن ماذا عن سيناريوهات السنوات الثلاث أو الخمس المقبلة؟ تثبيت “الهدوء الساخن”استمرار الاشتباك المتقطِّع بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان، في موازاة ضربات إسرائيلية في سوريا، واحتواء تركي في شمالي سوريا والعراق ضدَّ الـPKK، مع إدارة أزمات الملاحة في البحر الأحمر عبر تفاهمات مؤقّتة.يُرجَّح في هذا السيناريو توسُّع تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر أكثر من إحياء الخطّ مع تركيا. قفزة تكامل لوجستيتقدُّم “طريق التنمية” وربما عودة زخم IMEC إذا هدأت جبهة غزّة – لبنان، وتموضع سلاسل الإمداد بعيدًا من باب المندب – السويس جزئيًّا، بحيث تربح تركيا بوصفها عقدة عبور، وتربح إسرائيل عبر ربط موانئها في شرق المتوسّط كمحطّات وصل. انفجار واسعفرضية توسُّع الحرب في لبنان من شأنها أن تدفع أوروبا إلى طلب غاز بديل سريع (LNG/مصر/أذربيجان عبر تركيا)، وهذا ما سيُعرقل أيَّ مسار غاز بحري جديد شرق المتوسّط. تصعيد بحري طويليطيل الالتفاف حول أفريقيا، ويزيد كلفة الشحن، ويدفع إلى اعتماد أوسع على الممرّات البرّية – السككية (السعودية – الأردن – إسرائيل/مصر) إذا أمكن، وعلى تركيا كجسرٍ برّي – أنبوبي لأوروبا. ماذا يعني كلّ ذلك إذا عدنا إلى الجغرافيا ومناطق التماس في سوريا، لبنان، العراق واليمن؟ يعني ذلك أنَّ سوريا ولبنان سيظلّان مجال تنافس بالوكالة: إسرائيل مقابل محور إيران، مع “حياد عملي” تركي تجاه الجنوب وتركيز على الشمال.
رَصَدَتْ عدسةُ جريدةِ “البوست” صباحَ أمسِ الأحدِ إحدى الشاحناتِ التابعةِ لشركة NTCC العاملة في جمع وكنس النفايات ضمن نطاق مدينة صيدا واتحاد بلديات الزهراني وهي تقومُ بجمعِ النفاياتِ من إحدى قرى منطقةِ جزّين تمهيدًا لنقلِها إلى صيدا، علمًا أنّ قرى منطقةِ جزّين لا تقع ضمن اتحادِ بلديّاتِ صيدا-الزهراني. يُعَدُّ هذا الأمرُ المُشبوهُ والمُخزي مخالفةً صريحةً في وضحِ النهارِ للقوانينِ والأنظمةِ المرعيّةِ الإجراء. فإلى متى ستبقى صيدا مكبًّا للنفايات؟ وإلى متى سيبقى حائطُها “واطيا”، بعد أن حوَّلها تواطؤُ مسؤوليها والقائمون على شؤونها مشاعًا يَلمُّ أوساخَ الآخرين، وكأنّ أوساخَهم لا تَكفي المدينة المظلومة؟